مقدمة كتاب "إطلالة أولية على اليسار في المشرق العربي" الصادر عن مؤسسة روزا لوكسمبورغ، رام الله، آذار 2014.
في توصيف اليسار في المشرق العربي لواقعه
حول معنى اليسار في واقع العربي الراهن
لعل المهمة الأولى التي تواجه اليسار في المنطقة تتمثل في مراجعته لتجربته في سياق تحديد موقعه ومسار فعله إزاء التحولات الكبرى التي ولجتها المنطقة في السنوات القليلة الماضية وما زالت تعيش خضمها. وهي تحولات تتطلب استنفار ما تجمع لدى اليسار من خبرة ودراية وحكمة خلال العقود العديدة السابقة. لا يشكل هذا الكتاب خلاصة تجربة اليسار إذ ليس من بين المساهمين هذا الكراس، رغم تجربتهم وإلمامهم بأوضاعه، من يرغب في مصادرة حق وواجب اليسار كقوى ومجموعات وتنظيمات في الاضطلاع بهذه المراجعة واستخراج دروسها. كما تبقى الحاجة لتقصي، بشكل موضوعي، حجم تأثير اليسار (سواء الناشطين اليساريين بصفتهم الفردية أو بصفتهم الحزبية) المباشر وغير المباشر في الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة وتقييمها بهدف استنهاض اليسار و مشروعة السياسي الاجتماعي الثقافي وإبراز استقلاله الفكري بعد أن عانى من المصادرة لفترة طويلة. ولا ضير من مراجعة مواقف ب اليسار الشيوعي واليسار غير الشيوعي في التغطية على دور أنظمة مستبدة بذريعة موقفها المعادي للإمبريالية وإسرائيل وتبرير بعض هذا اليسار لتدخل قوى خارجية (إقليمية ودولية) معادية لأهداف الانتفاضات الشعبية الديمقراطية باعتبار أن ذلك ضروريا للخلاص من أنظمة الاستبداد، وهذا ما يلمحه عدد من الأوراق الواردة في هذا الكتاب.
قد لا يخرج طموح اليسار في هذه المرحلة عن أن يكون البوصلة الهادية لمشروع التغيير نحو الدولة الديمقراطية المدنية والمنبه لمخاطر ما يطرح من خطط ومشاريع لحرف الانتفاضات عن أهدافها الأصلية، والانخراط، من هذا المدخل، في الجهود التعبوية (بين الشباب وعموم الشعب) من أجل إعادة بناء مؤسسات نظام سياسي جديد على أسس ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، رافضا الإملاءات الخارجية واشتراطات العولمة الرأسمالية النيوليبرالية ومساندا لنضال الشعب الفلسطيني التحرري في مواجهة السياسية الاستعمارية الاستيطانية ونظام الفصل العنصري، ويدعم التطلعات التحررية في العالم.
لا يستطيع اليسار التقاعس عن المساهمة النشطة في إرساء ما أسمية الديمقراطية العميقة، أي الديمقراطية الراعية للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي ما يستجيب للأهداف التي تطرحها الانتفاضات الشعبية العربية. الديمقراطية العميقة تعتمد أسس وقيم الحرية والمساواة، وتستهدف إحقاق العدالة الاجتماعية القائمة على المساواة في فرص الحياة بين جميع المواطنين، بكل ما يستوجبه من قوانين وإجراءات وترتيبات ملموسة. تشييد أسس لنظام ديمقراطي يواجه مقاومة شديدة من قوى محلية وإقليمية ودولية ذات قدرات مالية واقتصادية وإعلامية واقتصادية وذات سطوة داخليا وإقليميا ودوليا/ مما يستدعى استنفار اليسار وكل القوى التي لها مصلحة في تشييد النظام الجديد والمشاركة في تغيير الواقع الاستبدادي والتمييزي القائم.
تتناول هذه الأوراق مداخلات وصفية وتحليلي لحال اليسار الفلسطيني على جانبي الخط الأخضر، ولليسار في الأردن ولبنان وسوريا والعراق. وهي تشير، وإن بخطوط تتفاوت في التفصيل، إلى مسار تجربة اليسار في هذه المجتمعات، مبينة خصوصية تجربة كل يسار وفق شروط ومحددات الحقل السياسي الذي يشكل جزءا منه ووفق البنية الاقتصادية-الاجتماعية للحقل السياسي ومتغيراتها، ووفق موقعه من التيارات الثقافية والفكرية (من ليبرالية وإسلامية ويسارية وقومية أو مزيج بين بعضها) التي تتصارع للهيمنة على الحقل. احد مصادر ارتباك اليسار في تشخيصه للأنظمة العربية (وبالتالي في تحديد موقفه منها) يعود إلى تبني نظرة أحادية البعد تثمن الموقف المناهض لإسرائيل والولايات المتحدة ولا ترى تداعيات اعتماد سياسات اقتصادية نيوليبرالية ولتفشي الفساد والزبائنية بين النخب الحاكمة والمتحكمة ورفض دمقرطة الحيان السياسية .
تسأل هذه الأوراق بشكل مباشر أو موارب عن معنى أن يكون المرء يساريا في الشرط العربي والإقليمي والدولي الراهن، وهو سؤال مطروح على قوى اليسار بشكل عام . وربما تحتاج الإجابة إلى التمييز بين مستويين؛ مستوى يتعامل مع ما هو مشترك من قضايا بين الفاعلين اليساريين في الحقول السياسية المختلفة وما هو مماثل في سمات مجتمعاتهم الاقتصادية-الاجتماعية والثقافية، ومستوى آخر يتعامل مع خصوصية كل حقل من الحقول السياسية المعنية، وخصوصية مكونات كل منها الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية وشروط النشاط اليساري فيه. هناك صراع داخل الحقول الثقافية-الفكرية على مستوى الحقل السياسي "الوطني" (داخل الدولة الواحدة أو الحكة الوطنية الواحدة) وعلى مستوى الإقليم (التيارات الإسلامية في مواجهة التيارات العلمانية والقومية)، كما على المستوى الدولي (الحركات الاجتماعية ضد الرأسمالية المتوحشة وضد السياسات النيوليبرالية والممارسات المدمرة للبيئة، ومن أجل تشريع سياسات التكافل المجتمعي). هذه الصراع مهمة لكن تحتاج إلى بحث آخر.
أجماع اليسار على ضرورة الديمقراطية
لعل ما يجمع بين قوى اليسار هو الموقف من الرأسمالية كونها المولد الرئيس لللامساواة والامتيازات والاستغلال والحروب وتدمير البيئة. فمن الصعب أن يكون المرء يساريا ويعتقد، في الوقت ذاته، أن الرأسمالية هي أعلى مراحل التطور البشري، بل نجد أن غالبية بين قوى اليسار تتفق أن الاشتراكية هي النظام الأفضل للبشرية باعتبار أنها توجيه الموارد لصالح البشر ككل وليس لصالح فئة صغيرة تتولى مراكمة الأرباح والثروة ووضع آليات (قوانين وشرطة وجيوش ووسائل دعاية وإعلام، وغيرها) لحماية مصلحة هذه الفئة الصغيرة جدا من البشرية.
يرتبط الموقف من الرأسمالية باهتمام اليسار - وهو اهتمام متأخر لدي اليسار في العالم العربي بسبب غياب استقلاله الفكري - بالديمقراطية. فقد بات ينظر للديمقراطية باعتبارها مكون أساسي للاشتراكية، وكضمان لتجنب مصير التجربة الاشتراكية السوفيتية التي غيّبت الديمقراطية كمكون ضروري لنظام الاشتراكي. هذا هو مصدر الرأي الذي يقول بأن الماركسية في العالم العربي "ساهمت في صناعة أزمتها، فهي بررّت ونظرّت لبنية سياسية لن تحتمل وجودها ولا لوجود غيرها على الساحة. وكل ذلك سيكون تحت العناوين التي دافعت عنها الماركسية نفسها، وتغاضت في الوقت نفسه عن أحد أهم شروط هذا الوجود؛ الديمقراطية" .
في الشرط العربي الراهن بتضاريسه المتنوعة يعود الاهتمام بالديمقراطية إلى ضرورة تفكيك الأنظمة المستبدة واستبدالها بأنظمة ديمقراطية مدنية تتبنى مؤسساتها وتشريعاتها أسس المساواة (في الحقوق والواجبات) والحرية (التعبير والتظاهر والمعتقد والانتماء السياسي والنقابي) للجميع بعيدا عن اعتبارات النوع الاجتماعي، الدين، الطائفة، الإثنية أو القومية. ولذا نجد من يعرف اليساري بأنه "من يحاول الربط بين قيمتي الحرية والمساواة، وهو من يعي، في ظروف بلادنا المخصوصة، أن تحقيق الديمقراطية السياسية مهمة تاريخية متكاملة تتطلب تفكيك أنظمة الاستبداد واستبدالها بأنظمة ومؤسسات وتشريعات ديمقراطية مدنية. واليساري هو من يدرك... أن تجاوز سلبيات الديمقراطية السياسية لا يتم بديكتاتورية تقمع الحرية دون تحقيق المساواة وإنما بتعزيز الحرية بالمساواة، أي بفك الارتباط بين الديمقراطية و سيطرة رأس المال وتطويرها نحو الديمقراطية الاقتصادية الاجتماعية" . بتعبير آخر على اليسار أن يناهض مساعي اختزال الديمقراطية إلى مجرد صندوق اقتراع معزولا عن قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وتجسيداتها المؤسساتية والقانونية. فصندوق الاقتراع استخدم وقابل لأن يستخدم لتشريع سيطرة رأس المال ولتسويغ اللامساواة في توزيع الثروة والسلطة وتقيد الحريات وعرقلة حق الجميع في التعليم ومرافق الصحة والسكن والبيئة اللائقة بالإنسان .
العدالة الاجتماعية باتت الصيغة أكثر رواجا في خطاب اليسار من الاشتراكية
من الملاحظ أن انهيار التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي وغيره، دفع إلى الابتعاد عن الحديث عن بناء الاشتراكية في أدبيات قوى اليسار في العالم العربي. هذا لا يعني، بالضرورة، أن اليسار "تخلى عن هدف بناء الاشتراكية بل باتت تطرح باعتبارها الحل الأفضل لمشاكل الإنسان والمجتمع على المدى الأبعد"، مع رؤية للاشتراكية باعتبارها "تسعى إلى تحقيق أعظم قدرة من العدالة الاجتماعية من دون أن تربط ذلك بثورة عنيفة تقضي على النظام الرأسمالي، ورؤية ترفض أن تجعل من الماركسية الكلمة التي ستفشل الإنسانية في قول أي شيء بعدها... بل مشروعا يسعى لتحرير الإنسان كذات حرة وعاملة" . لقد دفع التقدير بغياب إمكانية التحول نحو الاشتراكية في المدى المنظور اليسار إلى التركيز على قضايا أخرى، منها؛ قضية التحرر الوطني (بناء الدولة الوطنية المستقلة بكل ما يستدعيه ذلك من النضال ضد الاحتلال الأجنبي والاستعمار والسيطرة الامبريالية)، وقضية الديمقراطية .... وقضية العدالة الاجتماعية ... وقضية المساواة .... وقضية المرأة. وتقدمت مهمة بناء الدولة الديمقراطية مهام قوى اليسار أمام افتقداها عربيا" . رغم ذلك هناك من يذكر بما يجري في أمريكا اللاتينية للتدليل على ضرورة الحفاظ على هدف بناء الاشتراكية في برامج اليسار في العام العربي. فلمعرفة "ماهيّة اليسار اليوم يجب أن ننظر إلى "اليسار القائم فعلاً،" أي الأحزاب والحركات التي تعمل على تحقيق العدالة الاجتماعيّة في أرجاء مختلفةٍ من العالم. وأشير بشكل خاصّ إلى أمريكا اللاتينيّة، حيث نجد بدايةَ تكتّلٍ جديدٍ يسعى إلى العمل على نطاق عالميّ، لا محلّيّ فقط... وفي بوليفيا حقق إيفو موراليس فوزًا باهرًا في الانتخابات الرئاسيّة التي عُقدتْ في ديسمبر 2009. اللافت للنظر أنّ اسم الحركة التي ينتمي إليها موراليس هو "الحركة نحو الاشتراكيّة" ـ ولعلّ كلمة "نحو" هي أفضلُ معبِّرٍ عن برامج الحركات اليساريّة في عالم اليوم، لأنها تشير إلى التوجّه العمليّ لا التوجّه الإيديولوجي "الخلاصيّ،" ....اعتبارُ البرامج، لا الغايات النهائيّة ("خلاصيّةً" أو غيرَ ذلك)، هي محكَّ ما هو يساريّ، ولو كانت تلك البرامجُ مرحليّة" .
يمكن القول أن مدرك العدالة الاجتماعية بات أكثر محددات اليسار شيوعا في العالم العربي. فقد بات مفردة شائعة بين اليسار. نايف حواتمة يعتبر أن أول محددات اليسار الديمقراطي يتمثل بارتباط اليسار "بجوهر مفهوم العدالة الاجتماعية وتوزيع عائدات الدولة والمجتمع على اكبر قدر من الناس، فضلا عن ارتباطه بمفهوم التقدم حيث تتمثل رؤيته بالأهداف العامة التالية المترابطة في قوتها عضويا وبنيويا لتحقيق السيادة الوطنية والقومية والتحرر من التبعية والتنمية الإنسانية المستدامة بكل أبعادها" داعيا إلى حلول ديمقراطية للمشكلات "الاثنية الطائفية والمذهبية" المزمنة في اغلبيه الأقطار العربية والمساواة في المواطنة للجميع دون تمييز، و"فتح نوافذ الحريات الفكرية والثقافية والسياسية الحزبية والنقابية بدون قيود سلطوية" .
أحد المثقفين اليساريين المعروفين اعتبر أن اليسار "هو القادر افتراضياً على الأقل على الجمع بين المسألة الوطنية ومسألتي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ولكن الشرط الأول لهذا الموقع والدور هو تقيّده بمقياس بسيط هو أن ينحاز إلى الشعب. وهذا يعني التحرر من النزعة النخبوية الطليعية التربوية تجاه الشعب، وهو تراث مشترك بين الأحزاب الشيوعية والقومية يقوم على "سلطان الكلمة". والكلمة عندما تصير مُقدسة، بها يقاس الإيمان والكفر، تتولد تكفيرية علمانية أورثتنا إياها الأنظمة الاستبدادية الشمولية. وهذه النزعة التكفيرية تسوّغ بدورها الاستبداد والدكتاتورية لأنها تؤسس علاقة تربوية بين الطليعة والشعب، فالشعب جاهل بمصالحه وبالتالي فمهمة "الأنبياء الصغار" أن يتولوا إرشاده وقيادته" .
بسبب فضفاضية تعبير العدالة الاجتماعية ونظرا لحركة الجدل الدائرة بين أطرافه في العالم العربي محدداته الفكرية والبرنامجية والسياسية والتنظيمية هناك حاجة للتمييز بين الليبرالية (بمفهومها السياسي والاجتماعي) وبين العدالة الاجتماعية بمفهومها اليساري. فالليبرالية تنادي بحقوق الإنسان وبحقوق المواطنة وبالمجتمع المدني (وإن بات يختزل بالمنظمات غير الحكومية) مع تأكيدها على أولوية الفرد على الجماعة وعلى تشجيع التنافس بين الأفراد وعلى أهمية حرية السوق. اليسار يبرز أهمية العدالة الاجتماعية. فالليبرالية لا تهتم كثيرا أو قليلا بالعدالة الاجتماعية ولا تركز على المساواة بقدر ما تركز على الحرية وحرية الفرد أساسا. لكن السنوات الأخيرة شهدت تداولا متزايدا لتعبير العدالة الاجتماعية في خطاب النخب الحاكمة بما فيها في الأنظمة الملكية، لذا بات من الضروري على اليسار توضيح كيف يفهم العدالة الاجتماعية ومتطلبات تجسيدها.
بعض اليسار، بحكم ما تعرض له أفراده وتنظيماته من قمع وتنكيل من قبل النخب العربية الحاكمة، أمعن في إعلاء شأن مكون الحرية الذي هو أحد أبرز مكونيّن للديمقراطية وتبهيت المرتكز الثاني، أي مكون المساواة ، مما طمس الفرق بين الديمقراطية و الليبرالية التي لا تقييد الحرية بالمساواة الأمر الذي يحول دون اختزال الديمقراطية بالليبرالية، واستخدام الديمقراطية، بالتالي، كمسوغ لكل أشكال اللامساواة والامتيازات وللتوزيع غير العادل والمتكافئ والمتسع دوما للثروة والسلطة والامتيازات والحقوق، بالإضافة إلى الاحتفاء باقتصاد السوق الحر كمحدد رئيسي وأساسي للنظام الاجتماعي ولفرص حياة الأفراد، كما تبشر الليبرالية الجديدة. لذا على اليسار إعلاء مبدأ المساواة بالتوازي مع مبدأ الحرية. والمقصود هنا ليس مجرد مساواة الجميع أمام القانون، بل بالأساس مساواة الجميع في فرص الحياة من المهد إلى اللحد. وهذا يطرح تفكيك بنى اللامساوة في المجتمع من خلال توسيع مجال الحقوق (بكل ما يترتب على ذلك من واجبات) لتشمل بالإضافة إلى الحقوق السياسية والمدنية المتعارف عليها، الحقوق الاجتماعية والحقوق الاقتصادية والحقوق الثقافية ، واعتماد مبدأ التمييز الإيجابي للتعويض على الظلم والحرمان الذي تعرضت له فئات اجتماعية.
اهتمام اليسار، بأطيافه الماركسية وغير الماركسية، بالعدالة الاجتماعية، كما يتضح من قراءة الأوراق المرفقة ومن برامج أحزاب اليسار في العالم العربي، يشير إلى اهتمامه بتميز نفسه الأحزاب والقوى الليبرالية عبر توجيه الأنظار إلى موضوع توزيع الثروة وإلى إيصال الخدمات لمحتاجيها من باعتبارها استحقاق من استحقاقات المواطنة. لكن لا بد من يسعى اليسار إلى طرح مضمون واضح لمفهومه للعدالة الاجتماعية وكيفية تطبيقه في المجتمعات المختلفة والمتباينة الموارد والاقتصاديات. البعض من النخب الحاكمة العربية يقول بأن الدولة ملتزمة بتطبيق العدالة الاجتماعية كونها تتولى توفير خدمات للمواطنين عبر توزيع جزء من ريعها على المواطنين. لكن هذا ليس هو المقصود بتطبيق العدالة الاجتماعية لأن ما تقوم بها هذه الدول (كما في بعض دول الخليج) لا يغير من بنى اللامساوة (بل يثبتها) لأنه لا يغير من توزيع الثروة والموارد في المجتمع ولا يحد من الاستئثار أو احتكار السلطة على المستويات المختلفة. مأسسة العدالة الاجتماعية يستدعي تغيير البنية الاجتماعية-الاقتصادية بما يغير من موازين القوى الطبقية بحيث لا تعود البنية القائمة تنتج لللامساوة وتعيد إنتاجها باستمرار.
كخلاصة يعني تبني العدالة الاجتماعية من قبل اليسار ربطها بقضية الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الاقتصادي، أي منح اليسار اهتماما خاصا للقضايا الاجتماعية (العمال، والمرأة والقوانين الشخصية والبطالة والفقر، والفساد، والزبائنية، وغيرها )، وهو ما أشارت إليه الأوراق في هذا الكتاب، وما تطرق إليه العديد من أدبيات اليسار، حذر بعضها من نزعة العمل الحلقي و"الصالوناتيّة" والنظرة الضيقة للسياسة، مقارنة بنشاط التنظيمات الإسلامية التي أولت القضايا الاجتماعية اهتماما خاصة وإن من مدخل خيري . وهناك من يعتبر أن "النواة الدلالية الأساسية لمفهوم اليسار تحيل إلى المسألة الاجتماعية" .
في موجهات اليسار الفكرية والقيمية
أ. العلمانية
وقد يكون صحيحا أن فشل التجربة الاشتراكية السوفيتية (والصينية) قد ساهم في توليد نظرة جديدة في التعاطي الماركسية ليس كعقيدة أو أيديولوجيا شمولية تفسر حركة التاريخ منذ بدء الخليقة وحتى الآن الذي تسيره قوانين موضوعية ستقود حتما إلى انتصار الاشتراكية والشيوعية. النظرة الجديدة أقرب إلى فهم الماركسية كأداة تحليل للواقع الملموس والمتغير الذي يعتمد على الفعل الإنساني الجماعي المنظم والحي باعتباره العامل الحاسم في عملية التغيير الاجتماعي. كما دفع باتجاه إعادة التفكير بدور الحزب كأداة تغيير يقاس مدى أدائه لوظيفته المجتمعية بقدرته على التغيير باتجاه مجتمع أكثر حررا ومساواة وعدالة اجتماعية، وبمدى ديمقراطية علاقاته داخل التنظيم الحزبي ومع الشعب، بالإضافة إلى حكمته في إدارة علاقاته مع القوى السياسية الأخرى.
ما هي الموجهات القيمية لليسار؟ بالإضافة إلى الحرّية التي أتيت على ذكرها، وتشمل الحرّيات العامّة الوثيقة الصلة بالديمقراطية (كحرّية الإعلام، والتعبير، والتنظيم، والترشّح، والانتخاب،...)، و الحرّيات الفرديّة (وتشمل حرّية المعتقد)، التي تستدعيها الديمقراطية؛ وبالإضافة إلى المساواة التي تستدعي تأصيل الديمقراطية الاجتماعية؛ المساواة التامّة بين الجنسين، وحقوق الأقلّيّات الثقافيّة والإثنيّة، والنضال البيئيّ، والدفاع عن الفئات المهمّشة من مُعطّلين عن العمل ومعوّقين .. والديمقراطية الاقتصادية التي تستهدف مع الديمقراطية الاجتماعية إنهاء آليات إنتاج بنى اللامساواة. هناك العديد من قوى اليسار الذي يصر، عن حق، على اعتبار العلمانيّة (البعض يستخدم تعبير “المدنية" بعد أن أضفي على تعبير العلمانية، لأهداف أيديولوجية وسياسية أبعاد ومعاني سلبية) كمكون ضروري من محددات لمواقف ورؤية اليسار .
إظهار أن اليسار ليس معاديا للدين هذا لا يبرر على الإطلاق أخذ بعض قيادات وكوادر أولى في اليسار بمظاهر التدين الشكلي من قبيل التملق للتدين الشعبي والتدين السياسي الممول جيدا من عائدات النفط الخليجي.
تشديد بعض اليسار على العلمانية في مواجهة تيار الإسلام السياسي والسلفي الذي برز كقوة سياسية وازنة عبر الانتخابات العامة (بالأساس نتيجة لضعف القوى السياسية الأخرى بما فيها اليسار) التي تلت الانتفاضات الشعبية وأخذ يستخدم موقعه في السلطة لفرض أجندته الخاصة على الدولة والمجتمع (بنما فيها إزالة التشريعات العلمانية والمدنية التي بقيت من الأنظمة السابقة)، بالإضافة إلى التقرب من السياسية الأمريكية في المنطقة وتأكيد تمسكه بالسياسة النيوليبرالية السابقة، وبمهادنة إسرائيل. لقد ولدت سياسة التيار الإسلامي (ألإخواني والسلفي) استقطاب حاد في المجتمع كان أبرزها ما أعقب مظاهرات 30 حزيران/يونيو 2013 من دخول الجيش على السياسة وتواتر التدخلات الخارجية (الإقليمية والدولية) في الشأن الداخلي المصري. لكن طرح العلمانية في مواجهة سياسية أسلمة الدولة والمجتمع يستدعي من اليسار شرح وتوضيح أن العلمانية لا تعني معادية التدين، بل منع تدخل الدولة في دين الأفراد ومنع القيادات الدينية فرض تفسيرها للنصوص الدينية على المجتمع الدولة. وهذا يتطلب نصا دستوريا يشرّع "الحياد الإيجابيًّ" للدولة تجاه كلّ الديانات والمعتقدات المذهبية، ويرسم الحدود الفاصلة بين الحقل الديني والحقل السياسي. بهذا المعنى تشكل العلمانية شرطا للديمقراطية.
ب. الاستقلالية
يمكن القول أن مراجعة تجربة اليسار أولا لعلاقته التابعة مع المرجعية الشيوعية السوفيتية (وهذه انتهت) وثانيا لعلاقة قوى اليسار مع الأنظمة العربية، وهذه قضية ما زالت قائمة مما ولد ضرورة حفاظ اليسار على استقلاله عن الأنظمة العربية، بل اعتبار "أنّ أحدَ أهمّ شروط إعادة بناء اليسار في منطقتنا هو استقلالُه الكاملُ عن الأنظمة العربيّة القائمة، لا بل إدانتُه لطبيعتها وممارساتها القمعيّة. فلا مصداقيّة لأيّ طرفٍ يدّعي اليسارَ ويدّعي تبنّي قيَم اليسار ـ والديمقراطيّةُ من بديهيّاتها ـ ثمّ يَعْقد علاقةً مع نظامٍ غير ديمقراطيّ. ولو أردنا أن نميِّز حالة اليسار الفلسطينيّ في هذا المجال، لكونه صاحبَ مكاتب وتسليحٍ وهلم جرا، فسيحيلنا التمييزُ على تقدير الفارق: بين حالة العلانيّة البيروقراطيّة التي تحتِّم العلاقة بنظام بلد الإقامة، وحالةِ السرّيّة الثوريّة التي سبق أنْ عرفها هذا اليسارُ في البلدان التي يعمل علانيةً فيها اليوم؛ فقد كان نموُّه أقوى، وجاذبيّتُه أعظمَ بكثير، في مرحلته السرّية، ممّا هما عليه الآن, والأحزاب اليساريّة التي تنسج علاقة اليوم مع النظم القمعيّة تفعل ذلك على حساب صدقيّة مواقفها وعلى حساب هويّتها. هي في النهاية تبيع روحها. ومن أجل ماذا؟ لا شيء تقريبًا، سوى حفنةٍ من الدولارات وترخيصٍ بفتح مكاتب تحت رقابةٍ مخابراتيّة شديدة" . كما نجد الدعوة توجه إلى مثقفي اليسار العربي إلى فك ارتباطها بالنظام الخليجي كدور وحكومات ووسائل لأمور ونشاطات ثقافية لما يقوم به النظام الخليجي من دور امبريالي جديد . وليس من الصعب إدراك أن ما يقوم به الحكام في دول الخليج من دعاية إعلامية ومن تمويل لقوى سياسية في الدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية ديمقراطية المنطقة هو السعي من أجل الحيلولة دون قيام ديمقراطيات حقيقة فيها، فما يحركهم هو تعميم نموذجهم في الحكم القائم على الريع الرأسمالي التابع الإسلامي بجناحيه ألإخواني والسلفي.
كما تتباين قوى اليسار في رؤيتها للقوى السياسية التي يمكن التحالف معها، والاتفاق معها على قواسم مشتركة، وتحديدا في المجتمعات التي تمر في حالة من الانقسامات والتجاذبات والصراعات العنيفة، كما هو حال معظم الحقول السياسية التي تناولها هذا الكتاب (الحقل السياسي الفلسطيني، والأردني واللبناني والسوري والعراقي). ففي هذه الحقول (ومعظم الحقول السياسية في دول المنطقة، إن لم يكن جميعها) هناك استقطابات حادة، تأخذ معظم الأحيان أبعادا طائفية أو مذهبية أو إثنية. هذا بالإضافة إلى ما تشهده المجتمعات العربية من توترات ناتجة عن التباين في توزيع الموارد والامتيازات (والبين تشكيلات ما دون دولانية (طائفية، مذهبية، قومية، أثنية) بما يفضي إلى الحرمان للبعض والإحساس بالاستثناء على أساس طائفي أو أثني أو مذهبي أو عشائري أو مناطقي..
ج. رؤية لمشروع وحدوي
يجري التداول بين قوى اليسار في العالم العربي (وإن لم يبرز الموضوع بشكل ملحوظ في أوراق هذا الكتاب) لمشروع عربي وحدوي بالاستناد إلى المُشترك اللغوي والثقافيّ والتاريخي للعالم العربي وبما يملكه من قدرات بشرية و موارد طبيعية متنوعة ومن تباين في توزيع هذه القدرات والموارد، وبالاستناد إلى مقتضيات عصر العولمة والتكتلات الإقليمية. يستند المشروع إلى رؤية يسارية تقوم على العناصر التالية:
أولا، الطوعية، لأن جميع المشاريع الوحدوية ألعربية فشلت لأنها لم تكن طوعية وجاءت بقرارات فوقية ومن أنظمة غير ديمقراطية؛
ثانيا، التدرّجية في التنفيذ بحيث يمكن أن تبدأ بسوق مشتركة وتتدرج نحو توليد مؤسسات سياسية وتشريعية ومالية جامعة لتكريس المساواة في حقوق وواجبات المواطنة؛
ثالثا، أن تأخذ بعين الاعتبار التكوين الأتني والديني والطائفي والمذهبي والقومي بحيث تضمن بحقوق هذه الجماعات في تقرير المصير وأن تعمل على تصحيح بقدر ما يمكن ما تعرضت له، وما زالت، من ظلم وإجحاف وتمييز، وشرط هذا الضمان يتم عبر تشييد الدولة الديمقراطية المدنية التي توفر الحرية والأمن لمواطنيها والرعاية الضرورية لهم بعض النظر عن انتماءاتهم الموروثة (العشائرية والدينية والطائفية والمذهبية والأثنية والمناطقية والقومية) .
بتعبير آخر على المشروع الوحدويّ أن يحمل مضمونا ديمقراطيّا عميقا، و أن يُنجز عبر مسار ديمقراطيّ تدريجيّ، "يحفظ لكلّ شعبٍ عربيّ سيادةَ قراره، ولكلّ بلدٍ خصوصيّاتِه الثقافيّة". وفي تصور اليسار فإن "الوحدة العربيّة ليست غاية لذاتها، وإنّما وسيلة لتحقيق النهضة العربيّة ذات المضمون التقدّميّ الاشتراكيّ" .
ومن حيثيات طرح اليسار لمشروع وحدوي عربي تطوير قدرة العالم العربي على مناهضة سياسات العولمة الرأسماليّة النيو ليبرالية ووقف سياسات التدخل الإمبريالي في شؤون دول المنطقة، وتنمية قدرته على محاصرة القوى الرجعية والعنصرية والفاشية والطائفية والتكفيرية في المنطقة، وقدرته على دعم قضية الشعب الفلسطيني بما هي قضية تحرر وطني وتقرير مصير وبالتالي مجابهة سياسية إسرائيل بما هي دولة استعمارية استيطانية عنصرية تحتل بالإضافة لكل فلسطين التاريخية أراض من الجوار العربي ولا تتوانى في شن الحروب العدوانية ضدها. لكن نجد اتفاقا بين قوى اليسار على ماهية الحل للمسألة الفلسطينية؛ فبعض أحزاب اليسار يؤيد إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 مع إرفاق عبارة إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين، في حين يرى البعض الآخر من اليسار أن الحل التقدمي يشترط قيام دولة ديمقراطية علمانية واحدة على أرض فلسطين التاريخية، وتخلي إسرائيل عن الأيديولوجية الصهيونية بما هي أيديولوجية كولونيالية استيطانية اقتصائية أو دولة واحدة ثنائية القومية على أرض فلسطين التاريخية تنهي نظام الأبرتايد الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين.
د. بين التركيز على الهوية الفكرية والهوية الاجتماعية
ينقسم اليسار بين اتجاه يركز على أولوية الهوية الاجتماعية-البرنامجية، واتجاه يشدد على الهوية الفكرية. و يعتبر الاتجاه الأول أن تقصير اليسار يكمن في تغيبه في الممارسة الفعلية (وليس في النصوص في النظام الداخلي والبرنامج السياسي والاجتماع) القضايا الاجتماعية المختلفة. في حين يعتبر الاتجاه الثاني أزمة اليسار تتمثل "في التراجع الفكري والضعف النظري لدى أحزاب وفصائل اليسار، إلى جانب حالة الاغتراب عن الواقع، ومن ثم فشل هذه الأحزاب في وعي الواقع... وفي هشاشة وضعف الوعي في معظم الهيئات القيادية، التي عاشت نوعاً من غياب الوعي الماركسي أو اللامبالاة ... إلى جانب الاغتراب أو العزلة عن قواعدها التنظيمية وجماهيرها، فضلاً عن حالة الجمود الفكري والتنظيمي البيروقراطي و تراكم المصالح الطبقية الانتهازية بتأثير العلاقة مع هذه السلطة أو هذا النظام أو ذاك". ويشير كدليل على هذه الأزمة الضعف الشديد للتأثير اليسار "أو غيابه في أوساط الجماهير، بدليل اشتعال الانتفاضات العربية دونما أي دور ملموس لأحزاب وقوى اليسار فيها" .
لم تعد معظم أدبيات قوى اليسار في العالم العربي (وفي الدول التي تتناولها أوراق هذا الكتاب) تعتمد الماركسية–اللينينية كمرجعية وحيدة أو حتى أساسية في تحديد هوية الحزب اليساري وفي تحديد الأدوات الفكرية لفهم وتحليل الواقع ولا كمحدد لبنية التنظيم الداخلية أو بعلاقة الحزب مع الجمهور (باعتباره الحزب القائد والطليعي للطبقة العاملة). لا تزال مجموعات هنا وهناك تعلن التزامها بالماركسية اللينينية وتتبنى مقولات قادة شيوعيين، لكن معظمها مجموعات حلقية صغيرة أو من أفراد . لعل السبب الرئيس وراء التحول في المرجعيات الفكرية والتنظيمية لليسار في العالم العربي (وخارجه) يعود لفشل التجربة الاشتراكية السوفيتية (واعتماد اقتصاد السوق الرأسمالي من قبل قيادة الحزب الشيوعي الصيني). معظم المراجعات التي جرت داخل الأحزاب الشيوعية واليسارية الأخرى استخلص، بدرجات متفاوتة من الوضوح، قصور المقولات التي اعتمدت بناء على المرجعية السوفيتية في تحليل وفهم الواقع المعاش من قبل اليسار. كما تولد إدراك، بهذا القدر أو ذاك، للتغييرات التي دخلت على هذا الواقع الفعلي (وليس المتخيل في الكتابات الكلاسيكية) في البنية الاقتصادية –الاجتماعية والثقافية، بالإضافة إلى السياسية، في العالم المعاصر، والتي شملت تغيير بنية وحجم الطبقة العاملة، والتوسع في حجم الطبقة الوسطى ودورها (وتقلص حجم ودور البرجوازية الصغيرة) وصعود دور وتأثير البرجوازية المالية والتجارية، والشركات المتعددة الجنسيات و العولمة الرأسمالية النيوليبرالية التي شملت معظم أرجاء الكرة الأرضية تقريبا، و الانتفاضات ضدها في معظم بلدان العالم، والتطور السريع جدا في وسائل الاتصال والمواصلات؛ وتراجع دور النقابات في الدول الرأسمالية المتطورة. وفي العالم العربي ترتب على لبرلة الاقتصاد وتقليص دور الدولة الرعوي (من الرعاية) معدلات عالية من البطالة (وبشكل واسع بين فئات الشباب) والفقر في الدول العربية غير النفطية ( وفي بعض الدول النفطية) وتوطد السمة الريعية للدول النفطية ولدول عربية أخرى.
أمام حقيقة أن "الخارطةُ السياسيّةُ الجديدةُ للعالم لا تعترف باليسار كما كان يحدَّد في السابق"، يستخلص يساريون أنّ "الواقع الجديد يستوجب... ولادةَ يسارٍ جديدٍ يبني هويّتَه على نواةٍ مستقلّةٍ عن ذاك الصراع، وعلى بحثٍ جادٍّ ومتحرِّرٍ من أسْر المفاهيم المنجَزة عمّا يحقّق بالفعل مصالحَ الطبقات الشعبيّة، سواء بتعبيراتٍ أهليّةٍ أو نقابيّةٍ أو سياسيّةٍ أو سواها" .
في أسباب هامشية أحزاب اليسار في العالم العربي
بعض مثقفي اليسار يرى أن اليسار الحالي في العالم العربي قوى معظمَها محدودُ الحجم والتأثير. ولذا فهم يفضلون الحديث عن "مشروعَ يسارٍ عربيٍّ جديد؛ ثمة بقايا من جهة، وأجنّةٌ من الجهة الأخرى. والكلّ محدودٌ جدّاً: البقايا قياسًا بماضيها، والجميعُ قياسًا بمجتمعاتهم.... لقد حصل احتضارٌ وموتٌ وفناء، والمطلوب إعادةُ بناء! لم تعد المسألة بالنسبة إلى اليسار العربيّ تفسيرَ "الأزمة" بقدْر ما هي معرفة "ما العمل؟"... وهذا السؤال نفسُه مطروحٌ لدينا في ساحةٍ لم يعد فيها يسارٌ جديرٌ بالذكر....غير أنّ الأهمّ يبقى أنّ أمامنا مشروعَ يسار، بينما نقف في حاضرٍ يتميّز بشبه غيابٍ لليسار.... وإذا قارنّا بين الحركة الشيوعيّة الأوروبيّة منذ الخمسينيّات، والحركةِ الشيوعيّة العربيّة، فسنرى الفارق جليّاً في ما يتعلّق بالدور السوفياتيّ: ففي حين تقلّصتْ كثيرًا قدرةُ السوفيات بعد السبعينيّات على التأثير في معظم الأحزاب الأوروبيّة، كانت تبعيّةُ العديد من الأحزاب الشيوعيّة العربيّة للسوفيات كاملةً إذ ارتهنتْ إلى حدٍّ كبيرٍ بدعمهم المادّيّ بعد أن فقدتْ زخمَها الخاصّ بسبب تعرّضها للقمع... والمقارنةُ مع كوبا مفيدةٌ في هذا الإطار: فقد اضطرّت كوبا، بسبب الحصار الأميركيّ الخانق المستمرّ، إلى الارتهان بالاتحاد السوفيتي اقتصاديّاً، بما جعلها تَخضع لسياساتٍ انتقصتْ من دورها الثوريّ؛ لكنّ زخمَ الثورة الكوبيّة وتماسكَ قيادتها في استقلالها عن موسكو لجَما ارتهانَ التجربة بحيث استطاعت كوبا أن تستمرّ في الصمود بالرغم من انتهاء الاتحاد السوفيتي، ثم جاء فكُّ عزلتها في أميركا اللاتينيّة مع المدّ اليساريّ الجديد ليصلّب صمودَها ". لكن تردي الوضع الراهن لليسار في العالم العربي لا يحول دون الانتباه إلى "الأثر الإيجابيّ أو التقدميّ لنضال القوى العمّاليّة والاشتراكيّة في المجالات الوطنية والاجتماعية، وأعني ما حقّقتْه في مجال المقاومة ضد الاستعمار والصهيونيّة، أو في العملين النقابيّ والنسويّ، وكل ما يتعلق بالحقوق وحركة التأميمات وغير ذلك" .
الدولة الوطنية تحاصر اليسار
يتساءل أحد الكتاب اليساريين عن أسباب هزيمة اليسار العربي بأطيافه المختلفة ويجيب: "هزمته، أولاً، الدولة الوطنية الوليدة التي اعتقدت، بصدق، أن آمال الأمة تقضي بوحدة الأمة، فلا شقاق ولا اختلاف، منتهية إلى سلطة أحادية، يتجسّد فيها المجتمع والمثقف والحزب والصحيفة والنقابة، تضع كل شيء داخلها ولا تترك خارجها شيئاً. وهزمته، ثانياً، هزيمة 1967، التي هزمت الدولة الوطنية وكل ما احتفظت به من "الشعارات التنويرية" و"القومية". تم توطيد الهزيمة، مرة ثالثة، بتحالف، معلن أو مضمر، بين السلطات القمعية والدولار النفطي الذي روّض، بنسب مختلفة، الأحزاب والمثقفين وعمل، أولاً، على استئصال ما لا يتفق مع "الأصالة"... يتأمل كريم مروة }أحد قادة الحزب الشيوعي اللبناني التاريخيين{.. هذا المشهد العربي كله ذاهباً إلى الجوهري، أي شروط الحداثة الاجتماعية، التي لا سياسة ولا أحزاب ولا مستقبل إلا بها. يصبح اليسار، بهذا المعنى، مجازاً نهضوياً واسعاً، اجتماعياً ووطنياً وقومياً في آن، لا يختزل إلى «حزب» واسع الطموح أو فقير الهموم. وتصبح الدعوة إلى التنوير، رغم «هزيمة الكلمة»، دعوة يسارية بامتياز، «تحلم» بمجتمعية السياسة والثقافة قبل أن ترى إلى الأشكال الحزبية القائمة .... يدعو كريم مروة، في كتابه «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي» إلى مبدأ المساواة، حيث للبشر حقوق متساوية في العمل السياسي، وحيث الاعتراف بالمساواة في السياسة مدخل إلى النهضة، ومبتدأ لبناء أحزاب جديدة، تتوزع على اليمين واليسار معاً. يظل تعبير اليسار، في الحالات جميعاً، مجازاً مركباً، يتضمن الوطنية والتنوير والدفاع عن المعرفة، والانتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن الحاضر إلى المستقبل. ومن دون هذه العناصر المتداخلة يغدو تعبير اليسار فارغاً، ... اليسار مشروع وطني نقدي وهوية غير مكتملة وموروث وسيرورة، لها شروطها، ترهّن الهوية والموروث، وذلك الفكر التنويري الممتد من الطهطاوي إلى قسطنطين زريق، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل وسمير أمين، ومن معارك أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الحسيني إلى المقاومة الوطنية اللبنانية" .
فشل التجربة الاشتراكية كما جسدها الاتحاد السوفيتي
معظم الأدبيات تعيد وهن اليسار العربي الراديكالي الراهن إلى فشل التجربة الاشتراكية كما جسدها الاتحاد السوفيتي (وبدرجة أقل الصين الشعبية) لاعتبارات عدة ؛ أولها أن الاتحاد السوفيتي شكل حليفا استراتيجيا لليسار في "العالم الثالث" في مواجهة القوى الاستعمارية واختفائه غير من موازين القوى الدولية في مواجهة هذه القوى وحلفائها المحليين، وثانيهما، و هو السبب الأهم يكمن في الإجابة على سؤال "لماذا أخفقت البرامج التي طرحها اليسار العربي في تحقيق التحولات المطلوبة على أرض الواقع ؟! ولماذا لم يصبح اليسار العربي قوة تغيير حقيقية ؟! ولماذا بدأ هذا اليسار بالضعف بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية؟!" الواجب وجه أحد أهم قيادات اليسار الفلسطيني في اعتماد اليسار العربي "بالدرجة الأولى على استعارة مقولات نظرية جاهزة ، أنتجتها الأحزاب الماركسية العالمية... وإسقاطها على واقعنا، دون النظر في متطلبات هذا الواقع وإشكالياته... وبالتالي إلى عدم إنتاج وعي مطابق لحركة الواقع العربي" . والسبب الثالث الهام يعود إلى درجة عالية من الجمود التنظيمي تجلى في اعتماد اليسار العربي على نموذج التنظيم الداخلي للحزب الشيوعي وللدولة وتغيبه الديمقراطية (كممارسة تعتمد على قيمتي الحرية والمساواة معا) سواء في علاقات الحزب الداخلية وفي علاقات الحزب مع المجتمع حيث سادت أشكال تعتمد على الأوامرية والفهم الأبوي التثقيفي لعلاقة مع الشعب (تحت مسمى المركزية الديمقراطية الممارسة كمركزية بيروقراطية). لكن لا يكتمل تحليل أسباب وهن اليسار،الشيوعي وغير الشيوعي، بدون التذكير بما تعرض له معظم أحزاب اليسار العربي من قمع وتنكيل على يد أنظمة ما بعد الاستقلال الوطني، وهو أمر تشير إليه معظم الأوراق الواردة في هذا الكتاب.
هناك من اليسار من يرى أن الواقعُ العربيُّ الراهنُ لا يُقرأ "على ضوء الماركسيّة (وهو أمرٌ ممكنٌ بشكلٍ ما)، وإنما تُقرأ الماركسيّةُ على ضوء تحوّلات ذلك الواقع، بما يعترف بأولويّته على النظريّة، ويَصْرف المفاهيمَ الجاهزةَ عن الطبقات والصراع الطبقيّ، وينفي "كيف؟" بـ "لماذا؟"، منتقلاً من توصيف الطبقات إلى شرح أسباب ضمورها والتباسها، ومن فلسفةٍ أحاديّةٍ (هي الماركسيّة) إلى فلسفةٍ محتملةٍ متعدّدةِ العناصر". وهو يرى إلى ضرورة "الاعتراف بالأزمة في شكلها الراهن، من دون مقايساتٍ تستدعي الماضيَ أو تستقدم المستقبلَ اعتمادًا على تفاؤلٍ متواترٍ قوامُه "أزمة الرأسماليّة المتجدّدة". ويستطرد معتبرا أن المجتمعُ العربيّ، سمح "في زمنٍ مضى، بـ "اختراع" الطبقة العاملة، بسبب وجود "برجوازيّة كولونياليّة" (بلغة مهدي عامل)، قبل الوصول إلى مرحلةٍ راهنةٍ تحتاج إلى "بناء المجتمع العربيّ" الذي اختُصر إلى سلطاتٍ تمنع السياسة، وإلى "أغلبيّةٍ خاضعة،" أو إلى "جماعاتٍ" لا تعرف معنى السياسة لأنها لا تعرف معنى الفرد والفرديّة المستقلّة". ويستخلص بأن إعادة تأسيس اليسار الشيوعي ينبغي أن تتم "بعيدًاً عن أصوليّةٍ إيديولوجيّةٍ تحتفي بالواحد وترفض المتعدّد، وعن أصوليّاتٍ تنظيميّةٍ تقول بـ "اللجنة المركزيّة" و"المكتب السياسيّ" و"المركزيّة الديمقراطية"، وتبشّر بالجديد وتنقضه في آن". وأن المطلوب هو "توليدُ حركةٍ شعبيّةٍ جديدة، انطلاقاً من الحاجات اليوميّة، ومن ضرورة إعادة بناء الهويّة الوطنيّة والقوميّة.
ومع أنّ الهويّة الإيديولوجيّة ـ السياسيّة ضرورةٌ أكيدةٌ لكلّ حركةٍ نضاليّةٍ تبحث عن أفق، فإنّ على الهويّة الشيوعيّة المحتملة أن تنتسب، قبل أيّ شيءٍ آخر، إلى نقد أخطاء الحركة الشيوعيّة الماضية... ولهذا فإنّ الحديث عن "علميّة الماركسية" لا معنى له، لأنّ المطلوب هو آثارُها الماديّة في الفعل السياسيّ؛ مثلما أنّ الحديث عن "نظريّةٍ ثوريّةٍ جديدة" فقير المعنى، لأنّ المعنى الحقيقيّ للنظريّة يقوم في "البحث الجماعيّ" عنها" .
الجمود الفكري والتنظيمي و ظاهرة الانشقاق في أحزاب اليسار
توجد أهمية إلى ما تعلمه الانتفاضات الشعبية من دروس لتنظيمات اليسار في العالم العربي، وهو أمر تبرزه الأوراق المتضمنة في هذا الكتاب بشيء من التفصيل. وهو الحاجة إلى إدراك مخاطر الجمود الفكري والتنظيمي على دور اليسار والحاجة إلى ربطه هذا الجمود بتفشي ظاهرة الانشقاقات داخل تنظيمات اليسار، وبغياب تجارب ناجحة في تشكيل كتل يسارية تعمل وفق مشروع تغيير موحد في المجتمع المعني أولا وبإستراتيجية موحدة على صعيد العالم العربي ككل .
وهن اليسار ساهم في تعريض المجتمعات العربية لأنواع ثلاثة من المخاطر: "النوع الأول هو الاستبداد في السلطة الذي غيَّب وهمش الدور المفترض للدولة ولمؤسساتها، وعمّق التخلف ... وفاقم الظلم الاجتماعي إلى الحدود القصوى، وجعلها مكشوفة أمام التدخلات الخارجية فيها، من كل الجهات والاتجاهات والمطامع. النوع الثاني هو الاستبداد في المجتمع الذي تمارسه الأصوليات الدينية بتنويعاتها المختلفة، من خلال استيلائها على عقول ومشاعر كثرة من الناس الذين أصيبوا باليأس من احتمال إحداث التغيير في حياتهم. وهو الذي أحدثه فشل مشاريع التغيير باسم اليسار، وانحسار وتراجع وتهميش دور اليسار في بلداننا.النوع الثالث هو ما يتمثل بهمجية الرأسمال المعولم، دولاً ومؤسسات مالية وصناعية، هذا الرأس مال المعولم الذي يمارس من دون رادع التدخل في شؤوننا بأشكال ووسائل وصيغ مختلفة بهدف التحكم بمصائر بلداننا وشعوبنا بالمفرد وبالجمع" .
اليسار والتحولات في المنطقة والعالم
تطرح التحولات التي تشهدها المنطقة والمتغيرات على الصعيد العالمي تحديات على قوى اليسار في العالم العربي. الانتفاضات الشعبية العربية طرحت الحاجة الملحة إلى التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول العربية على أسس ديمقراطية عميقة. وهي وإن استنفرت قوى داخلية وقوى خارجية ضد أهداف هذه الانتفاضات ولاحتوائها، إلا أنه بات مستحيلا العودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه قبل العام 2011, ومن المتوقع أن يستمر الصراع الداخلي والخارجي بين أجندتين متعارضين فترة قد تطول؛ بين أجندا ثورية تستهدف تشييد نظم سياسية ديمقراطية همها مصالح الشعب بفئاته الأوسع؛ والثانية أجندا لا تريد تغييرات بنيوية تهدد استقرار مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة (إسرائيل والأنظمة الخليجية النفطية المحافظة). في سياق هذا الصراع على اليسار استجماع قواه دفاعا عن أهداف الانتفاضات الشعبية. ولا بد في السياق ذاته من ملاحظة أن الولايات المتحدة سعت ولكنها فشلت في تثبيت قيادتها على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وملاحظة العودة إلى عالم متعدد الأقطاب، وما كشفه انفجار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الأخيرة (وهي تفجرت أول ما تفجرت في الولايات المتحدة) من تناقضات في النظام الرأسمالي وبخاصة في صيغته النيوليبرالية.
وعلى صعيد المنطقة فشلت الولايات المتحدة في إنجاز "عملية سلام" على الساحتين الفلسطينية والعربية، وفي التعامل مع الانتفاضات العربية والسيطرة على مساراتها . استعادة اليسار لدوره باتت قضية وجودية يؤشر إليها ما تحمله العولمة الرأسمالية بأبعادها المختلفة من تداعيات (مقصودة وغير مقصودة) ومن تناقضات (توحيد العالم عبر وسائل الاتصال الحديثة زمنيا ومكانيا وتذريره (تفتيته) عبر استنفار الهويات الموروثة المذهبية والأثنية والقومية والدينية والمناطقية)، ومن توسيع للفوارق بين الفقر المدقع والغنى الفاحش. وعلى اليسار أن يستنبط الأساليب الناجعة لإفشال سيطرة الخارجية (والأمريكية خاصة) على المنطقة كمصدر هام جدا للنفط والغاز وكمستقبل لعائداتهما في مصارفها وأسواقها المالية، وفي التوعية لما لتداعيات تبعية العالم العربي الاقتصادية والتجارية للمراكز الرأسمالية، ولمواصلة التزام الإمبريالية (الولايات المتحدة بشكل خاص) بحماية إسرائيل وضمان تفوقها العسكري على الدول العربية لإبقائها أداة ضاربة بيدها في المنطقة.
يُتوقع من اليسار التمايز عن القوى الأخرى بدوره التنويري (الفكري والثقافي) والتقدمي الاجتماعي (الدفاع عن مصالح الفئات المسوقة والمحرمة والمستغلة والمهمشة) والتعبوي التمكيني (المساهمة في تنظيم وتمثيل الفئات الشعبية)، وفي بذل اهتمام وجهد أعمق لفهم الواقع ومتغيراته، وبالتالي في صياغة استراتيجيات للتغير. كما يٌتوقع من اليسار جهد أوسع في بناء تضامنيات تربط الشعوب المتضررة من السيطرة الإمبريالية الاقتصادية (عبر الشركات العابرة للجنسيات) والعسكرية (حيث التدخل العسكري المباشر وغير المباشر) والسياسية عبر أدوات متعددة منها المساعدات المالية والعسكرية وغيرها، وعبر الوسائل الأمنية والمخابراتية. كما يُتوقع أن يأخذ اليسار دورا متقدما في دعم الحركات الاجتماعية العالمية الصاعدة ضد الرأسمالية والعنصرية والتمييز وتدمير البيئة جريا وراء الربح. على اليسار إنجاز برامجه في ظل غياب المعسكر الاشتراكي وحركة عدم الانحياز وصعود حركات التحرر في العالم وفي ظل حضور العولمة الرأسمالية وصعود التيارات السياسية الدينية ووجود الحركات الدينية والمذهبية والاثنية، واتساع الفجوات الاجتماعية ومعدلات الفقر والبطالة.
هذا الحجم من التحديات في ظل الواقع الذي تعيشه قوى اليسار دفع بعض المثقفين اليساريين إلى التعبير عن "عبثية انتظار مبادرة من قيادات اليسار الحالية للقيام بالتغيير المطلوب بسبب عجز بعضها التام عن تولي المهمة ورفض البعض الآخر له دفاعا عن مواقعه ومصالحه المكتسبة. وتفشي العصبوية شبه القبلية داخل صفوف ما تبقى من تنظيمات بسارية". ولعل دور الشباب في الانتفاضات الشعبية العربية هو ما يفسر رهان الكثيرين على "العناصر الشابة" لانتشال اليسار من مأزقه ونقله إلى "ميدان الفعل السياسي ومن حيز النقاش إلى ميدان المبادرات العملية ذات الفرص الحقيقية بالنجاح " . كما دفعت الانتفاضات الشعبية إلى دعوة اليسار إلى "استعادة وجهه التعبويّ الط