في الترابط وفك الترابط بين علم الكلام والفلسفة
يختلف علم الكلام عن الفلسفة في أن علم الكلام خاص بدين معيّن، فهو جدل يدور حول أصول دين بعينه ، أمّا الفلسفة فهي تبحث عن الحقيقة على وجه العموم، كما يلاحظ الإختلاف المنهجي أيضا بين علم الكلام والفلسفة حيث يبدأ الكلام من مسلمات عقائدية يفترض صحتها، فينطلق المتكلم من قاعدة معترف بها كقضية الألوهية مثلا (وجود الله) ثم يلتمس الحجج التي توصل إلى إثبات هذه القاعدة المسلم بها. أمّا الفيلسوف فغالبا ما ينطلق من قواعد المنطق ومن المقدمات البديهية دون مسلمات أولية ليصل وفق منهج عقلي صرف إلى النتائج التي يريد البرهنة عليها، ولكن منهج المتكلم بصفة عامة قد لا يصلح في إقناع غير المسلم أو الجدلي الذي لا يسلم بغير البديهيات، بينما ينشدّ المتكلّم إلى إيمان كامل ومسبق بالأصول الإعتقادية، وإنها المنطلقات الفكرية التي ستولد تدريجيا الوعي المعرفي باختلاف أنظمة المعرفـــــة (les syst’mes de la connaissance) وتعدد مصادرها ومراجعها واختلاف مناهجها وتباين مقاصدها.
إنها حينئذ مرحلة أولى تردّدت فيها الفلسفة الإسلامية منذ استقلالها النسبي (مرحلة الكندي القرن الثالث هجري) بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية واضطرت للإعتراف بكلتا الحقيقتين مع محاولتها نفي التعارض بينهما بالتوفيق بين الحكمة والشريعة-الوحي والعقل، وهو ما وضع الحدّ الفارق بين مرحلة علم الكلام المعتزلي ومرحلة وجود فلسفة عربيــــــة إسلامـية مستـقلّـة ويظهـر ذلـك جـلـيـا مـع الكنديالذي ظل محافظا على ارتباطه الوجداني بالمسلمات اللاهوتية مقربا بين الدين والفلسفة ومؤسسا لمشروع توفيقي سوف تكتمل محدّداته شكلا ومضمونا مع خلفه أبا نصر الفارابي.
بدا حينئذ أنّ واقع التحدّي بالنسبة للفكر الإسلامي في تلك الفترة يتمركز في مدى عقلانية هذا الفكر ومدى مسايرته للمطامح الإنسانية المتغيّرة مما يعكس الطابع العقلاني الذي أخذ يتشكل في تلك المرحلة من تاريخ المسلمين ويطبع واقعهم الثقافي. ومن ثمّ فإن إلتقاء الفلسفة بالدين كان لا بدّ من أن يتمّ نظرا لظهور قصور في المنهج عند المتكلمين الذين لم تتح لهم الحرية الكاملة في استخدام أسلوب التبرير العقلي لأركان العقيدة وقضايا الدين، فاتخذ هذا الإلتقاء صورة التوفيق بين النقل والعقل والتعايش الذي لا مفرّ منه بين طروحات العقل واستدلالاته المنطقية، ومسلمات الوحي والعقيدة القويمة، أو بين ‘صحيح المنقول’ ‘وصريح المعقول’، لأنّ تماسك الأفكار العلمية والفلسفية والدينية كان كذلك من مطالب البيئة الثقافية العربية الإسلامية المزدوجة البنية الذهنية من طريق الجمع بين مركزيتين ثقافيتين-مركزية ثقافية عربية اسلامية قائمة على العلوم العربية أو الشرعية أو النقلية برافديها : العلوم السياسية والعلوم المساعدة، ومركزية ثقافية موروثة عن ثقافات سابقة وموسومة بالعلوم الأعجمية أو العقلية أو الحكمية أو بعلوم الأوائل .
وبهذه الصورة ظهرت الفلسفة الإسلامية التي حاولت في جوانب منها التقريب بين الفلسفة اليونانية في صورتها المتأخـــرة والموسومـــــة ‘بالأفلاطـــونيــــة المحـــدثة’N'oplatonisme وقضايا الإسلام وتشريعاته، هذا وكانت إلى جانب التوفيق بين الفلسفة والدين- العقل والنقل، إتجاهات فلسفية إسلامية تتضمّن أبحاث مبتكرة في المنطق، وفي الإلهيات، ومنها قضية ‘الألوهية’ وأدلة وجود الله وصفاته وأفعاله وعلاقة الباري أو’الموجود الأوّل’ (واجب الوجود بذاته) -كما يسميه الفارابي- بالعالم ومصير الإنسان وأفعاله في الأرض، وينضاف إلى ذلك أبحاث المسلمين المستجدّة في الطبيعيّات والرياضيات والفلك.
يتضح حينئذ أنّ علم الكلام منذ نشأته على أيدي المعتزلة بدأ يتلمس الطريق إلى التعامل مع الفلسفة مادة وأسلوبا وفي ذلك يقول الشهرستاني : ‘ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسّرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنا من فنون العلم وسمتها باسم الكلام، إمّا لأنّ أظهر مسألة تكلموا فيها وتقاتلوا عليها هي مسألة الكلام فسمي النوع باسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان. فكان أبو الهذيل العلاف شيخهم الأكبر وافق الفلاسفة في أن الباري تعالى عالم بعلم وعلمه ذاتــه…’(الملل والنحل جزء1 ص 32).
وبــذلك كان هذا العلم أو كانت مباحثه ومسائله قبل أن يتكون علما منظما أول طريق الفكر العربي الإسلامي إلى ممارسة التفكير الفلسفي، أو كان التمهيد الضروري لتطوّر هذا الفكر في نطاق الخصائص التاريخية المعينة إلى مرحلة
أعلى من المرحلة التي اقتضت هذا التمهيد، أي أعلى شكلا ومضمونا، من مرحلة علم الكلام، ونعني بها مرحلة الفلسفة.
يستوجب منّا الحديث عن تأصيل الفكر العقلاني في البيئة الثقافية العربية الإسلامية الإلمام بالشروط الموضوعية التي أنشأته ويبدو أنّ الإجتهاد بالرأي في الأحكام الشرعية هو أوّل ما ثبت من النظر العقلي عند المسلمين، وقد نما وترعرع في رعاية القرآن وبسبب من الدين. ونشأت منه المذاهب الفقهية وأينع في جنباته علم فلسفي هو علم ‘أصول الفقه’ من جهة استنباط الأحكام بالنظر والتدليل الذي لا يدّخر جهدا قياسيا أو استدلاليا أو برهانيا، وفي مثل هذه البيئة ظهر التصوف (4) وكل ذلك قبل أن تتأثر الفهوم بالفلسفة اليونانية، ويتوجّـه النظــــــرالعقلي عند المسلمين إلى البحث فيما وراء الطبيعة، الفيزيقيا والميتافيزيقيـا، وفي الإلهيـــــــات والطبيعيات والمنطقيّــات والرياضيات. ليتوافق حينئذ علم الكلام حينما بلغ نضجه في مرحلته الإعتزالية مع الفكر الفلسفي من جهة فسحه للعقل مجالات التفكير وتحصيل المعرفة حتى في ما وراء الطبيعة.
يلوح لنا من جهة المنحى الغالب على تصوّر مباحث علم الكلام واكتمال مسائله بعد إلتحامه بالفلسفة في آخر أطواره (القرن 3 هجري) أنّ الرافد الخارجي كان له دور هام في حراك تكوين الثقافة العربية الإسلامية التي تنازع قواعد تكوينها وقواعد تحويلها شكلا ومضمونا، تواصلا وتفاصلا، تقريبا وتبعيدا، تجانسا وتغايرا، تصالحا وتصادما : رافدان أساسيّان هما رافد ذاتي وداخلي ومكتسب (القرآن والسنة وكتب أحكام التشريع والفقه والمعلّقات والمفضليات والأصمعيات والحماسات والخطب والرسائل والمقامات وأمثال العرب وأيامهم ومعاجمهم وكتب آداب السلوك وقواعده وشروط التعلّم والتعليم ومقدمات التصنيف في العلم…) ورافد خارجي وموروث بمكوّناته النظرية (العلم الإلهي والعلم الطبيعي والعلم الرياضي) والعملية (تدبير الفرد وتدبير المنزل وتدبير المدينة(.
هكذا يتنوّع الميراث الثقافي والفكري والروحي للأمة العربية الإسلامية ويتعدّد ويختلف ويتكامل فيه الظاهر والباطن والتأويل مع التنزيل دون أن يلغي أحدهما الآخر وتنمو فيه ‘أنطولوجيا’ تكشف الرمز وتستكشف احتمالات النص الديني وإمكانياته الكبرى والعميقة، وفي شفافيته تكمن عقلانيته، وتنتظم في بؤرته الأصول، بالقدر الذي يتفرّع فيه الكلام والتصوّف والفلسفة وعبره’يكتنه عذاب الروح’ ورضاها في حنينها إلى ‘المطلق’ و’الكينونة’ و’التواصل الأبدي’. وقد
تجذرت تلك العقلية في البيئة الثقافية العربية الإسلامية، وكان من الطبيعي وفقا لقوانين التطوّر العامة أن يتخلى علم الكلام للفلسفة عن مكانه في حركة تطوّر الفكر العربي الإسلامي بناء على كونه-أي علم الكلام- قد استوفى حاجة وجوده واستنفد مهماته التاريخية وحان الوقت لأن يتحوّل إلى ‘كيفية فلسفية خالصة’.
*باحث في الحضارة
Lotfiabidi1311@yahoo.com