قد يرى البعض ان كتاب رشيد الخالدي ‘وسطاء الخداع ‘(Brokers of Deceit) مهم لكونه عَرَضَ الاخطاء التي ارتكبتها السياسة الخارجية الامريكية في مفاوضات السلام الاسرائيلية – الفلسطينية وخضوع رؤساء الجمهورية الامريكيين لضغوط الحركة الصهيونية ونفوذها في الولايات المتحدة. وان هذين الموضوعين وحدهما يشكلان الجوهر الاساسي لهذا الكتاب.
ولكن القراءة المعمّقة لما ورد في كتاب الخالدي من معلومات وتحيليات تشير الى انه يلقي ضوءا مشعا على ما يجري في كثير من الازمات العربية الخطيرة التي تفاقمت في الفترة الاخيرة والمرتبطة بالشأن الفلسطيني. كما انه يعرض بشكل معمق سياسات رئيس امريكا الحالي باراك اوباما من موقع شخص على معرفة وثيقة به.]الكتاب صدر عن ‘دار بيكون للنشر’ في بوسطن، بالانكليزية في الاشهر الماضية، ومن المرجّح انه سيُتَرجم الى العربية قريبا[.
وقد اكتسب اهمية خاصة لكون رشيد الخالدي، فضلا عن انه يحتل كرسي الراحل ادوارد سعيد في جامعة كولومبيا في نيويورك، فانه كان ايضا احد المشاركين في المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية في مطلع التسعينات واطّلع عن كثب على كثير من الامور التي لم تنشر عن هذه المفاوضات كما جمع وثائق عن معظم المفاوضات السابقة واللاحقة (السرّية وغير السرّية) بعدما تم الافراج عنها من قبل وزارة الخارجية الامريكية، وخصوصا وثائق اتفاقات كامب ديفيد لعام 1978.
خلاصة ما استنتجه رشيد الخالدي ان رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق مناحيم بيغين وضع الاسس لمقاربة استخدمها جميع رؤساء وزارات اسرائيل من بعده الا وهي انه من غير المسموح تقديم دولة مستقلة للفلسطينيين تتمتع بكل مقومات الدولة وانه ليس من المقبول ان تعاد الاراضي التي احتلتها اسرائيل الى القيادة الفلسطينية ولا ان ترضى اسرائيل بالتخلي عن مشاريع الاستيطان في هذه الاراضي. وكل ما يمكن تقديمه للفلسطينيين، حسب بيغين، هو سلطة ذاتية على السكان العرب في بعض المناطق، ولكن على ان تبقى ملكية اراضي هذه المناطق لاسرائيل، وان يحق لاسرائيل بتنفيذ عمليات أمنية فيها.
والرؤساء الامريكيون، حسب الخالدي، سمحوا لبيغين بفرض هذا التوجه على السياسة الخارجية الامريكية (هو ومن تبعه من قادة اسرائيل) منذ نهاية السبعينات وحتى الساعة وإن بدرجات متفاوتة.
كما ان الحكومات العربية وقفت موقفا ضعيفا ازاء هذه التطورات لاعتمادها غير المحدود على الدعم الامريكي. فبعدما كانت في العقود الماضية تتلقى الاوامر من واشنطن عن كيفية تنفيذ هذه السياسات، اصبحت الآن اكثر ملكية من الملك، اذ تساهم في تصحيح مواقف القيادات الامريكية اذا انحرفت عن الخطوط السابقة الخاطئة والمنحازة.
ويشير الخالدي في هذا المجال كيف حوّلت بعض القيادات الخليجية، بالتعاون غير المباشر مع قيادات اسرائيل الليكودية، ومع شخصيات ملتزمة بمصلحة اسرائيل في مركز القرار في وزارة الخارجية الامريكية، حولت التركيز الامريكي من السعي لحل النزاع العربي- الاسرائيلي الى اعتماد سياسات المواجهة مع ايران وحلفائها في المنطقة واعطائها الاولويات.
ويرى الخالدي، وهو صديق سابق للرئيس باراك اوباما ومطلع على خلفياته الشخصية وسياساته عموما، ان الرئيس الحالي باراك اوباما حاول منذ فوزه بولايته الرئاسية الاولى اعتماد مشروع مختلف عن مشاريع أسلافه من الرؤساء الامريكيين السابقين في التعامل مع القضايا الاسلامية والعربية ومع قضية فلسطين، ولكن اللوبي الصهيوني القوي في امريكا المدعوم بقوة من جزء كبير من اعضاء الكونغرس الجمهوريين والديمقراطيين، بالاضافة الى ضغوط الاعلام المؤيد لاسرائيل في الولايات المتحدة وسكوت الانظمة العربية وقادتها امور حالت دون نجاحه في هذا التحول، كما حدث سابقا لرؤساء اميركيين جرّبوا هذا الخيار ودفعوا ثمنا له، وبينهم الرئيس الديمقراطي السابق جيمي كارتر والرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الاب (ووزير خارجيته جيمس بيكر) اللذان خسرا ولايتهما الرئاسية الثانية في هذا السياق ،كما يشير الخالدي الى ان العاهل السعودي الوحيد الذي حاول مواجهة قادة امريكا في سياساتهم التعسفية نحو العرب كان الملك فيصل بن عبدالعزيز، الذي مات اغتيالا، مع انه كان يحاول التمسك بعهد ووعد في عام 1945 قدّمه الرئيس الامريكي فرانكلين روزفلت لوالده الملك عبدالعزيز بن سعود تعهّد فيه بالتشاور مع السعودية قبل اعتماد سياسات متعلقة بحقوق الفلسطينيين والعرب.
ويؤكد الكاتب ان العكس تماما حدث منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى الآن، اذ تعهّدت القيادات الامريكية المتتالية بالتشاور مع القيادات الاسرائيلية قبل اتخاذ اي قرار متعلق بسياساتها في الشرق الاوسط المرتبطة بشكل مباشر او غير مباشر باسرائيل وفلسطين واعتمدت هذه الخيارات، حسب الخالدي، بفضل شخصيات اميركية مؤيدة لاسرائيل توصلت الى اعلى المراكز في القيادة الامريكية على شاكلة هنري كيسنغر ودينيس روس واليوت ابراهمز وغيرهم.
ويستشهد الخالدي بأقوال كبار اختصاصيي الشرق االوسط في امريكا، وبينهم رئيس الجامعة الامريكية في بيروت الراحل مالكوم كير، الذي قال إن مبادرات السلام الامريكية ساهمت في فرض الوقائع التي تريدها إسرائيل وتأمين تفوقها العسكري منذ سبعينات القرن الماضي، وفرضت وضعا قائما غير متبدل (ستاتيكو) على الفلسطينيين صبّ في مصلحة التوسع الاسرائيلي. ويذكر ان كير مات مغتالا على مقربة من مكتبه في الجامعة في بيروت في منتصف الثمانينات.
وبخصوص تأثير الانظمة العربية المحافظة واسرائيل على سياسات واشنطن في الشرق الاوسط يقول الخالدي ان حلفاء واشنطن في العالم العربي واسرائيل نجحوا في اقناعها بشن حملة مشتركة معهم مما ادى الى نشوب حملات وحروب طائفية ضد الدول المدعومة ايرانيا والمجموعات المنتمية الى الطائفة الشيعية في البحرين واليمن وفي السعودية نفسها. واتجهت امريكا حسب قوله، الى تأييد حملات حلفائها ضد حماس وحزب الله والمجموعات الشيعية في المنطقة، بفضل تأثير الضغوط الاسرائيلية والخليجية العربية والجناح المتصلب في حزب الجمهوريين الامريكي وفي الكونغرس الامريكي.
ويحذر الخالدي من ان السياسات الامريكية غير المتوازنة التي تستخدمها واشنطن وحلفاؤها أثّرت وستؤثر سلبا على اوضاع دول المنطقة وعلى اوضاع الفلسطينيين. وهذا الامر قد يصبح اكثر خطورة اذا حدثت مواجهات عسكرية مع ايران.
مواقف اوباما ووعوده
يستهل الخالدي الفصل بعنوان: ‘باراك اوباما وفلسطين’ بقوله ان كثيرا من خصوم اوباما انتقدوه بسبب صداقته للمؤلف (رشيد الخالدي) خلال دراستهما معا في جامعة شيكاغو حيث سكنا في حي واحد (حي هايد بارك)، وحيث التقت عائلتاهما آنذاك في مناسبات اجتماعية. وطبعا يعتبر هؤلاء الخصوم ان الاصل الفلسطيني للخالدي ربما دفعه للتأثير على اوباما وجعله اكثر تعاطفا مع القضية الفلسطينية وحذرا ازاء الممارسات الاسرائيلية وبالتالي تذرعوا بهذه الصداقة ليتهموا اوباما بالعداء لاسرائيل، والميل نحو القضايا العربية والاسلامية كون والده مسلما وعاش في بيئة اسلامية في صغره.
ويؤكد الخالدي ان هذه الاتهامات لاوباما باطلة ولا تستحق حتى المواجهة وبعضها يصل الى درجة السخافة. ويعتبر ان سياسات اوباما ازاء فلسطين واسرائيل والقضايا العربية الاخرى لا تختلف جذريا عن سياسات الرؤساء الامريكيين الاربعة الذين سبقوه في هذا المنصب (بوش الابن، كلينتون، بوش الاب وريغان) في السنوات الـ35 الاخيرة، وان هؤلاء الرؤساء واجهوا نفس الضغوط التي واجهها اوباما عندما حاولوا اعتماد سياسات متوازنة ازاء هذه القضايا (باستثناء بوش الابن الذي لم يكترث لتغيير السياسات المنحازة خلافا لوالده).
ويعيد الخالدي هذه المواقف الى ما قاله الرئيس الامريكي هاري ترومان الذي ترأس امريكا مباشرة بعد فرانكلين روزفلت (بعد الحرب العالمية الثانية) الذي قال لوفد من الشخصيات العربية الامريكية زاره انه لا توجد مجموعات عربية فاعلة على الساحة الامريكية تؤثر بالفعل على نتائج الانتخابات الرئاسية والاشتراعية فيما توجد لوبيات اميركية ناشطة وقوية تدعم اسرائيل وتؤثر في النتيجة ولهذا قرر دعم اسرائيل واعترف بها كدولة.
وبالنسبة لاوباما فهو، حسب الخالدي، واجه صعوبات اكثر من غيره من الرؤساء في هذا المجال، إذْ صعدت الى السلطة في اسرائيل حكومة متطرفة الى اقصى الدرجات في شباط (فبراير) 2009 بقيادة بنيامين نتنياهو، مباشرة بعد انتخاب اوباما لولايته الرئاسية الامريكية الاولى. وهذه الحكومة الاسرائيلية تمسكت بسياسة الاستيطان وتشدّدت في مواقفها ازاء الفلسطينيين ووسعت مجال علاقاتها مع اللوبيات المؤيدة لاسرائيل في امريكا والكونغرس الامريكي الى درجة جعلتها قادرة على فرض المواقف على اوباما (وما زالت تفعل هذا الامر حتى الآن بدعم من الجمهوريين وجزء من الديمقراطيين في الكونغرس وخصوصا بعد تصاعد نفوذ مجموعة ‘حزب الشاي’ في الحزب الجمهوري التي تعتنق مبادىء المحافظين الجدد وتؤيد اسرائيل بقوة).
كما يشير الخالدي ان الانقسام بين حماس وفتح في فلسطين والانقسامات بين الانظمة العربية في الشأن السوري والايراني ساهما في جعل امر دعم المواقف العربية من جهة اوباما اكثر صعوبة.
غير ان الخالدي يعتمد موقفا موضوعيا ازاء ميول اوباما في الشأن العربي، اذ يقول ان مواقف اوباما المؤيدة لحقوق الفلسطينيين ومعارضته للتدخل العسكري الامريكي في العراق اتخذت في فترة 2002-2004، عندما لم يكن لديه الشأن الكبير في قرارات امريكا في السياسة الخارجية، وأن اوباما ومنذ ترشحه لمجلس الشيوخ في عام 2004 تجنب المواجهة مع اللوبيات المؤيدة لاسرائيل لادراكه نفوذها القوي في عملية نجاحه او خسارته في الانتخابات. وقد استمر في هذا التوجه خلال حملاته الرئاسية، لكونه، حسب الخالدي، سياسيا براغماتي المواقف، بصرف النظر عما قد يؤمن به شخصيا.
ومع ذلك، يشير الخالدي ان اوباما وفي السنتين الاولى والثانية من ولايته الرئاسية الاولى حاول السير في سياسات ازاء فلسطين واسرائيل اقرب الى سياسات جورج بوش الاب وجيمي كارتر وبيل كلينتون وبعض سياسات رونالد ريغان. ولكن بعد فوز الجمهوريين في الانتخابات الاشتراعية النصفية لمجلس النواب في عام 2010 وحصولهم على سيطرة مجلس النواب بفضل تأييد اللوبي الصهيوني شعر اوباما ان السكين قد تصل الى عنقه في الولاية الرئاسية الثانية. ومن هناك فصاعدا تجنب الخطوات التي قد تؤدي الى هزيمته وعاد الى البراغماتيه المحافظة، كما تأثر الى درجة اكبر بمستشارين مؤيدين لاسرائيل. وكان هو قد اعادهم الى شلة اتخاذ القرار بعدما حاول في فترة سابقة تسليم دفة القرارات بشأن الشرق الاوسط الى السناتور الديمقراطي اللبناني الاصل والمعتدل المواقف جورج ميتشيل. فعاد دينيس روس الى الواجهة على حساب ميتشيل وتوالت التعيينات لصقور في المناصب الحساسة.
ويمكن الاضافة هنا الى ان اوباما، وبعد فوزه في ولايته الثانية، ربما اعاد مراجعة مواقفه وخصوصا بعد تعيينه جون كيري في منصب وزير الخارجية وبعد تبدّل المواقف الى حدّ ما في الشأن الايراني. بيد ان الجهات المتشددة ما زالت فاعلة في قرارات السياسة الخارجية الامريكية وما زال اوباما يواجه ضغوطا في التعامل معها.
وربما ما ينقص هذا الكتاب هو تناول الكاتب لمواقف اوباما العلنية بالمقارنة مع موافقه ومفاوضاته التي تجري خلف الجدران، وخصوصا في العلاقة مع روسيا ومع الرئيس الايراني الجديد حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف، ومع النظام السعودي بقيادة الملك عبدالله ، علما ان اوباما سيزور السعودية قريبا وانه على علاقة جيدة بالملك السعودي قد تثمر مواقف مرطبة للاجواء المتشنجة حاليا بين ايران والسعودية، وفي المنطقة عموما. ولكن، كما ذكر الخالدي في الكتاب، هناك جهات فاعلة لا ترحب بالتطورات السلمية في الشرق الاوسط لكونها تتعارض مع مصالحها وتجاوزاتها وخصوصا في مجال حق توسيع الاستيطان في فلسطين وعدم السماح بنشوء الدولة الفلسطينية وتشجيع تقسيم العالم العربي الى فئات ومجموعات اثنية وطائفية تتواجه مع بعضها بشراسة واعتماد سياسات التفاوض من اجل استمرار التفاوض، وليس لتحقيق النتائج الفعلية في وقت يُشرعَن فيه الاستيطان وتصبح حقوق الانسان حبرا على ورق.
كتاب رشيد الخالدي وثيقة قيّمة تفضح خطورة ما آلت اليه العلاقة الحميمة بين امريكا واسرائيل وتحذر من غض النظر العربي الرسمي عنها. وكاتبه اكاديمي بارز ومفاوض متمرس ومقرب من اصحاب القرار في امريكا.
سمير ناصيف كاتب لبناني