أول ما تعنيه المبادرة الروسية هو ان نظام بشار الأسد لم يعد يملك قراره وان هذا القرار في الواقع المعاش بات مرهوناً بالإرادة الروسية والإيرانية.
أما ثاني ما تعنيه هذه المبادرة المنسقة مع النظام وكما ظهر من تصريحات وزير الخارجية السوري هو ان الضربة الأميركية التي كان مقررا ان تُقدِم عليها الولايات المتحدة لم تكن ضربة محدودة كما تشيع الأوساط الأميركية والغربية.
حتى ان كلمة "محدودة" أخذت أبعاداً جديدة في تصورات الغرب وتحولت في غضون عدة ايام فقط الى ضربة تطال القطاعات العسكرية ومراكز البحث ومراكز القيادة ومجمل أنواع الأسلحة وكل المخابئ المتوقعة لتخزين السلاح وغيرها من قواعد، ومطارات، ومنشآت، وهو الأمر الذي يعني نهاية النظام او انهاك النظام الى ما قبل لحظة السقوط المدوية.
وأما ثالث ما تعنيه المبادرة الروسية هو أن روسيا باتت تدرك ان عليها في ضوء تطور الأحداث بين نظام الأسد والغرب ان تختار ما بين نظام ضعيف سيتم تجريده من أحد أسلحته الهامة ان لم نقل السلاح الوحيد الذي يمكن ان يحدث فرقا ما في معادلة التوازن العسكري على مستوى الإقليم، وما بين نظام سيسقط في غضون عدة ايام او اسابيع، وبالتالي دخول سورية في مرحلة مجهولة قد تؤدي الى نهاية الدولة وتفتيت المجتمع السوري وما يمكن ان يحدثه هذا السقوط من تداعيات دراماتيكية في المحيط الإقليمي.
وروسيا في الحالة الأولى ستظل لاعباً قوياً في ادارة الصراع في سورية وعليها، في حين ان سورية ستخرج من هذه المعادلة في الحالة الثانية.
يستحيل على بلد كروسيا ان تقبل الخروج من معادلة الصراع بعد كل ما قامت به وكل ما أقدمت عليه من سياسات واستراتيجيات لحفظ مصالحها "القومية" في المنطقة من خلال النافذة السورية، ولم يكن متصوراً على الإطلاق ان يقتصر دورها في التفرج على مشهد الحرب وانتظار نتائج الضربة الأميركية.
وعندما يقبل النظام بسرعة البرق هذه المبادرة، وعندما ينبري وزير خارجية سورية لتوضيح كل الاستعدادات لإنهاء ملف السلاح الكيماوي بما في ذلك القبول بالوصاية والرقابة، والذي يعني في الواقع "التخلص" من هذه الأسلحة، ثم التوقيع على اتفاقية منع انتشار الأسلحة الكيماوية، فإن روسيا تكون في الواقع قد أفهمت النظام ان عليه ان يختار ما بين السقوط المحتم وما بين المناورة في دائرة لم تعد كبيرة، يتحول بموجب الواقع بقاء النظام الى مجرد مرحلة انتقالية على طريق نظام جديد تحت الوصاية الغربية وبالتفاهم مع روسيا وحتى مع إيران على طبيعتها العامة وعلى مداها الزمني وعلى شروطها السياسية.
النظام قَبِل اذن ان يبقى وبشروط تجرده من أسلحته الكيماوية وتكبل قدراته وتجبره على الدخول في مفاوضات تسليم السلطة على مراحل.
كأن روسيا اليوم تختار ما بين النظام والدولة السورية، او كأنها تختار ما بين مصالح روسية مُقَنّنَه وما بين مصالح ضائعة لا محالة.
وأما النظام فكأنه يختار ما بين الانصياع والسقوط، الانصياع لشروط الغرب والبقاء المؤقت او الهزيمة الساحقة.
ليست المبادرة الروسية إذن مبادرة للمناورة، وشراء الوقت حتى وان كانت تنطوي على شيء من هذا القبيل، وانما هي المبادرة الاستراتيجية لتحسين الشروط المطلوبة لانتقال السلطة في سورية، الى سلطة جديدة على مدى زمني مقبول يتيح المحافظة على وحدة الدولة السورية وتفادي الانقسام المجتمعي الذي سيكرس التقسيم والانشطار والتفتت.
لم يعد أمام النظام من خيار غير القبول بهذه الشروط والاستعداد للدخول الى المرحلة الجديدة.
اذن تتطور الأحداث باتجاه تفادي العمل العسكري والقبول الروسي والايراني بالدخول الى المرحلة الجديدة وتحويل الهزيمة الى مجرد نكسة، والى نكسة قابلة للتجاوز.
وتراهن روسيا وكذلك إيران على انخراط النظام في شروط الحل السياسي، ما سيقطع الطريق على المعارضة ذات التوجهات الإرهابية من تصدر المشهد في المعادلة السورية القادمة، كما تراهنان من خلال وقف الضربة العسكرية الى التوصل الى نوع من وقف إطلاق النار على دخول فصائل معينة من الجيش الحر في صراع عسكري مكشوف مع تلك المنظمات، ما سيؤدي الى تعزيز فرص بقاء النظام وتخفيف الضغوط على هذا النظام ولفترة قد تطول الى مراحل جديدة وقد تؤدي الى مساومات افضل من شروط المساومات الحالية.
لا شك ان روسيا قد أنقذت النظام السوري على مدى سنوات الصراع، ولا شك ايضا ان روسيا تتدخل لإنقاذ سورية اليوم.
المبادرة الروسية هي واحدة من اكبر واهم المبادرات الاستراتيجية منذ سقوط النظام السوفياتي وحتى يومنا هذا.
لم تكن روسيا في وضع يمكنها من الدفاع عن الدولة اليوغسلافية، ولم يكن لدى روسيا اية إمكانية لتفادي نتائج الضربات العسكرية في البوسنة، ولا في كوسوفو ولا في ليبيا، اما اليوم فإن روسيا تمسك بالكثير من خيوط اللعبة في سورية وهي العامل الأهم والأكبر في منع انهيار النظام وفي منع انهيار الدولة أيضا، وقد تعلمت روسيا الدرس جيدا من كامل ما بعد مرحلة الحرب الباردة.
ليس لعربي شريف واحد مصلحة في ضرب سورية، لأن ما يقال عن ضرب النظام وقدرات النظام ليس سوى تدمير لأسس الدولة السورية ووجودها ومستقبلها، اما المعارضة السورية فقد سقطت شوطا مروعا باستدعائها لأميركا والمراهنة على أميركا لإسقاط النظام، هذه المعارضة الآن ليست سوى هوامش باهتة للمشروع الأميركي وليست بعض المعارضة المسلحة في سورية سوى نسخ من الإرهاب في صوره الأكثر ظلامية وبشاعة وغرائزية.
المبادرة الروسية تقطع الطريق على الغرب وعلى المعارضة وعلى النظام نفسه (في ضوء تطور الأحداث) من الفتك بسورية وشعبها وفتح الطريق امام حلول سياسية هي في الواقع الحلول الممكنة وبأقل الخسائر المؤكدة.
اذا نجحت المبادرة الروسية فإن الشعب السوري مدين لها الى الأبد، والشعوب العربية ستظل ممتنة لها أيضا مع ان هذه المبادرة ليست مضمونة النجاح بعد.
الشيء المؤكد أيضا ان الجهة التي "استخدمت" السلاح الكيماوي في الغوطتين لم تحسب جيدا ولم يخطر ببالها ان روسيا لها القدرة على الفعل والمبادرة، ولها من القدرات الاستراتيجية على مستوى التفكير والتخطيط - كما قال لي الزميل والصديق د. سمير عوض - ما يفوق ويتوفق على القدرات الغربية.


