كان بمقدور الرئيس الاميركي باراك اوباما، ان يقوم بأمر قواته بتوجيه ضربة عسكرية موجعة لقوات "أسد سورية" اذ ان الدستور الاميركي لا يلزمه في مثل هذه الحالات العودة الى الكونغرس، اسباب عديدة دعته الى ان يتجه للكونغرس لحشد التأييد لمثل هذه الضربة، من بينها، انه لا ينوي فعلاً القيام بهذا الامر، لأسباب عديدة، لكن العودة الى الكونغرس، تمنح وقتاً اضافيا، لمفاوضات ومباحثات ومبادرات من شأنها ان تعفيه من هذه الضربة وتكاليفها الباهظة على المستوى السياسي بالدرجة الاولى، وبينما كان يواجه عقبات حقيقية لحشد الكونغرس بشيوخه ونوابه، خاصة من اعضاء حزبه الديمقراطي، وظهر ان هناك اغلبية لا تؤيد في هذه الخطوة، ظهر هناك من وراء الافق امكانية للتهرب منها، هناك من منحه السلم الضروري للنزول عن الشجرة التي اضطر الى تسلقها، والغريب في هذا الامر، ان من اعطاه هذا السلم، اضطر بدوره الى ان يفعل دون قصد، اذ كانت موسكو، وليس غيرها هي من امدته بهذا السلم، بينما كانت تريد ان تنقذ حليفها، الاسد ونظامه المهددين بضربات عسكرية اميركية على خلفية استخدام الحرب الكيماوية في الحرب الاهلية. ونجح رهان اوباما على الوقت، وها هو الآن يناقش كيفية استخدام السلم، بدلا من سيناريوهات الضربة المحتملة ضد نظام الاسد!!
الوقت والتوقيت، عنصران بالغا الاهمية في هذا السياق، اذ جاءت المبادرة الروسية بوضع الامكانيات التسليحية السورية تحت الرقابة الدولية تمهيدا لتفكيكها، اثناء النقاش في الكونغرس، وقبل يوم واحد تقريبا، من انعقاد الجمعية الوطنية، اي البرلمان الفرنسي، لنقاش الدور الفرنسي في هذه العملية، نقاش بدون تصويت كون الرئيس الفرنسي يعلم ان اي نقاش لن يكون لصالحه، خاصة بعد تجربة رئيس الوزراء البريطاني مع مجلس العموم واخفاقه في الحصول على الدعم اللازم لمشاركة اميركا في هذه الضربة.
وكنت مضطراً لهذا التمهيد، كونه يتعلق بحديث الساعة والتطور الاخير الذي طرأ على هذا الملف، مع اني كنت انوي الحديث هذه المرة عن "اللغز الفرنسي" المتعلق بهذه التطورات، ذلك ان الموقف الفرنسي غير المسبوق تقريباً، ازاء الانضمام الى الولايات المتحدة، كبديل عن الدور البريطاني التقليدي بهذا الشأن، ظل لغزاً بحاجة الى تفسير، بعد سنوات وعقود من موقف فرنسي معارض للولايات المتحدة، ما ادى الى تجميد عضويتها في الاطلسي لعدة سنوات، وظلت ترفع شعار "القرار المستقل"!!
يقال، وفقاً لمصادر وسائل الاعلام الفرنسية، ان الامر يعود الى النتائج الداخلية، للحرب التي اعلنتها فرنسا على "مالي" وفصائل الارهاب بداية العام الحالي، اذ ان وزارة الدفاع الفرنسية، هي التي تولت صناعة قرار الحرب في مالي، وهي التي نفذته من دون العودة للعوامل السياسية وتحديداً من دون مراجعة وزارة الخارجية الفرنسية بهذا الشأن، الأمر الذي ادى الى تهميش وزارة الدفاع ووزيرها لوران فابيوس تحديداً، وتراجعت تأثيراته داخل مجلس الوزراء، بعدما تم تقييم الحرب على الارهاب في مالي، قد نجحت بفضل جهود وزارة الدفاع التي برزت وكأنها اللاعب الاساسي السياسي في الشأن السياسي الفرنسي.
يشار في هذا السياق الى ان وزارة الدفاع الفرنسية، وخلال مناقشة الملف السوري، خلفية السلاح الكيماوي، لم تطرح اي رأي واضح، حتى ان تحركات القوات البحرية الفرنسية، ظلت دون اعلان واضح، وكأنها تنأى بنفسها عن تهور وزارة الخارجية بهذا الشأن، وحسب صحيفة لوفيغارو الفرنسية، فإن احد كبار الجنرالات المقربين من الرئاسة الفرنسية قد قال للصحيفة ان فابيوس - وزير الخارجية - هو الداعي الحقيقي لحرب داخل الحكومة الفرنسية، وهو الذي اقنع اولاند بالوقوف خلف الولايات المتحدة في هذه الحرب، وهو عمليا - اي فابيوس - الذي يدير المعركة السياسية مع الولايات المتحدة وداخل الاتحاد الاوروبي في سبيل الحشد وراء هذه الضربة، وانه وجد في التطور البريطاني ما يجعل فرنسا الاداة الاميركية البديلة! واخيراً، تقول لوفيغارو، ان موقف فابيوس اقرب من الانتقام من تصاعد دور وزارة الدفاع اكثر منه حرصا على الدور الفرنسي !! [البديل - 9 / 9 / 2013].
لا اعتقد ان هذا وحده، يفسر لغز الحماس الفرنسي للانقياد وراء الادارة الاميركية في مغامرتها المحتملة في سورية، وعلى الارجح ان فرنسا التي كادت تغيب عن الساحة العربية سياسيا، رغم دورها الاستعماري التقليدي القديم، وجدت في الملف السوري وسيلة لعودة دورها في التأثير دوليا واقليميا على عوامل الصراع في المنطقة الاكثر تفجراً على الصعيد الدولي، تدخلها القوي في ليبيا يشير الى هذا الاستنتاج، لكن دورها في المشرق العربي اكثر تأثيراً بما لا يقاس، العودة الى المسرح السياسي والامني في لبنان وسورية، يظل هدفاً ينبغي العمل على تحقيقه، وهذا الامر من غير الممكن من دون ان تلتحق بالسياسة الخارجية الاميركية التي تعتبر الراعي الوحيد لكافة التبدلات والمتغيرات في هذه المنطقة، وربما هذا ما يفسر لغز الاندفاعة "المفاجئة" لفرنسا وراء اميركا، وتتخلى عن "القرار المستقل" التقليدي، للعودة الى المنطقة برعاية اميركية تكفل لها دوراً، اميركا ذاتها بحاجة اليه على ضوء اوضاعها الداخلية المعادية للحرب!!
hanihabib272@hotmai.com


