دائماً كان هناك مهندسون للحروب عرضوا خرائطهم، حركوا مؤشراتهم، وسيروا دباباتهم على خطوط ملساء ناعمة رسمت في غرف هادئة حين كان العدو غائباً، وكثير من أولئك صدمتهم وعورة الطرق على الأرض وشراسة العدو فما بين معركة ترسم على فنجان قهوة وأخرى تسير فوق نهر من الدم فرق كبير وهذا ما أوقع البشرية وكلفها كثيراً في تلك الملايين من الضحايا إلا نتاج استسهال الحروب.
هناك من يطلق رصاصة أولى دوماً وببرود أعصاب وبحسابات كثيرة يعد لها خشبة المسرح وزوايا الإطلاق، معتقداً أنها ستحسم معركته وكثيراً من الذين بدؤوا حروبهم ليحسموها ورسموا خرائطها باحتراف اكتشفوا أن الحرب انتهت بدونهم أو كان شرط نهايتها إقصاءهم من التاريخ على نمط هتلر.
الولايات المتحدة هذه المرة مترددة وقد غاب الحسم الذي ميز حروبها في السنوات والعقود الماضية فلا اندفاع هادئ ميز قراصنة أميركا الأوائل، ولا اندفاع متهور كما نمط رعاة البقر بل حسابات هادئة هذه المرة بعيداً عن لغة الـ48 "ساعة على نمط صدام حسين ولهجة عليه أن يغادر فوراً" كما تحدث الرئيس الأميركي مخاطباً نظيره المصري قبل عامين ونصف العام، فالحسابات هذه المرة مختلفة والأسد ليس القذافي ودمشق ليست طرابلس أو بغداد التي يحيطها العداء السياسي والمذهبي من الشرق ومن الغرب.
فالاقتراب من دمشق كما بدا واضحاً للولايات المتحدة قد يكون هادئاً ولكنه قد يعني نبش عش الدبابير في المنطقة، فهي جزء من محور بل وتشكل قلبه النابض وهذا المحور تمكن خلال السنوات الماضية من تشكيل قوة إقليمية لا يستهان بها وإلا لكانت الولايات المتحدة وإسرائيل أنهتا الملف النووي الإيراني لولا حسابات العقل وحسابات القوة وحجم المكاسب والخسائر. وهنا السؤال الأكبر لدى مهندسي الحروب إلى أين ستمتد مساحة النيران؟ فأسهل شيء هو إطلاق الرصاصة الأولى ولكن حجم الحقول التي ستحترق بنارها هو الأهم وشكل النهاية سؤال لا يقل أهمية عن السؤال الأول في حسابات الحروب وهذه المرة أيضاً بات من الواضح أن اندلاع الحرب ضد سورية يفتح أسئلة معلومة ولكنه يترك إجاباتها معلقة للمجهول لأن توازنات القوة هذه المرة مختلفة وأسئلة كثيرة أيضاً عن نوع التسليح والصواريخ ومدى الدعم الروسي والقوة على الأرض.
يبدو أن التردد الأميركي يعود للعجز عن توقع النتائج الشائكة والمعقدة فقد حسم محور إيران أمره بالدفاع عن الرئيس الأسد لأن استهدافه سيضعف الحلف إلى حد كبير وبالتالي إيران تدافع عن نفسها في سورية وكذلك "حزب الله". إذاً، الأسئلة الأميركية من نوع هل نذهب باتجاه ضربة تستهدف إسقاط النظام وهذا له تداعياته الكبرى في كثير من المدن وأهمها المدن الإسرائيلية وهي تشكيل ذروة حسابات العقل لدى مهندسي الحرب، أم أن توجه القوات الأميركية ضربات ضد النظام ليس بهدف إسقاطه بشكل مباشر ولكن بهدف إضعافه وتترك لقوات المعارضة مهمة إسقاط النظام ولا تبدو الولايات المتحدة أنها هي التي تقوم بشكل مباشر بتجريد إيران "حزب الله" من دمشق.
ليس مهماً السيناريوهات هنا والتي انهمكت مراكز الدراسات والخبراء العسكريون في وضعها ولكن المهم هنا هو الحسابات والتعقل الأميركي المدهش حقاً قياساً بالمؤتمر الصحافي الكاريكاتوري الذي عقده الرئيس السابق جورج بوش قبل عشر سنوات حين عرض كيساً صغيراً من السكر ليحزم أن واحداً من هذا مليئاً بالإنتراكس "الموجود لدى صدام حسين" كفيل بقتل سكان مدينة كاملة، وقيامه بالربط الكاذب بين الرئيس العراقي السابق و"القاعدة".
فالحرب هذه المرة مكلفة وحلفاء دمشق لديهم من القوة ما يمكن أن يتسبب بحريق كبير. هذا لا يعني أن القوة الأميركية ليست قادرة على ضرب كل العواصم مجتمعة ولكن القوة المقابلة لديها ما يمكن أن يؤذي ويشكل تهديداً ليس فقط للمدن الإسرائيلية بل وللاقتصاد العالمي فيما لو اتسعت النيران لتطال طهران والخليج وسبق أن وضعت تلك التقديرات حين بدا أن الولايات المتحدة وإسرائيل تقتربان من حسم الملف النووي عسكرياً والآن قد تمتد النار إلى هناك من يدري الرصاصة الأولى سهلة ولكن أين نهاية النار؟.
المشهد العربي مشهد على درجة من البؤس وهو غارق بحالة التيه في صحراء الدم، والسياسة أكثر انكشافاً من سنوات كان هناك آمال وطموحات بقوة عربية قادرة على إحداث توازن في المنطقة التي تتنازعها ثلاث قوى إقليمية ليست عربية هي إيران وتركيا وإسرائيل فيما العرب لم ينجحوا خلال العقود الماضية في تشكيل قوة تجعل أعداءها لديهم درجة من العقل الذي يميز السياسات الخارجية للدول التي تتربص بسورية، تتقدم مرة وتتراجع مرة، تعلن الحرب خلال ساعات وأخرى تقول إنها تحتاج لأيام لمناقشة الموضوع فيما أن الدول العربية لم تأخذ أياماً قليلة مع إسرائيل خلال حرب حزيران التي تجاوزت على الأرض ما رسمته الخرائط. وكانت الجغرافيا أسهل كثيراً من نعومة الورق المرسومة عليه لأن النمور الورقية العربية انهارت بلا عناء كبير، فقد اعتادت إسرائيل على حروب بغير حساب حتى وهي تضرب سورية وحدها وهذا الفعل تكرر مرتين هذا العام دون رد ولكن عندما أصبحت الحسابات كبيرة أصبح الأمر مختلفاً.
لو كتب هذا المقال قبل أعوام لدعوت العرب إلى أخذ العبرة، ولكن بعد هذا التفتت في الدولة الواحدة وتسعير الصراعات الطائفية والمذهبية وتكسر الدولة والرغبة الداخلية بتحطيم الجيوش ونزيف الدم تبدو الدعوة نوعاً من العبث، ولكن ذلك قد يفسر سبب استقواء إسرائيل فالعرب كما قالت التجربة، يدهم على الزناد ولكن حين يتعلق الأمر بإسرائيل يصبحون أكثر العقلاء وإسرائيل العكس.
Atallah.akram@hotmail.com


