شكلت تجربة الحركة الأسيرة الفلسطينية بئراً لا تنضب من الحكايات العظيمة عن الصمود والتضحية والعطاء.
الفلسطيني الذي حمل السلاح وهزم إرادة جلاديه وتحول من مجرد لاجئ إلى مقاتل باحث عن الحرية ساعٍ وراء النصر.
وإسرائيل التي لم تعترف به بعد النكبة إنساناً صاحب قضية سياسية أيضاً لم تعترف في البداية به أسيراً له حقوق مستوجبة ومستحقة في القانون الدولي ناهيك في أعراف البشر.
لقد تحولت هذه السجون التي أرادت لها إسرائيل ان تصبح مقابر لارادات المناضلين إلى اكاديميات يتم فيها تطوير القدرات وتنظيم الذات الجماعية وصولاً لتحقيق جملة من الأهداف العامة التي تصب في محصلتها في إنجاز ولو قليلا من المأمول.
إن احصاءات الحركة الاسيرة مذهلة إذا تم تأملها من حيث تعداد الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن عزة وشرف الأسير الفلسطيني وإنسانيته وتحدياً لآلة القمع والبطش التي كانت تواجههم بها إدارة السجون، إلى الإضرابات الباسلة التي خاضها الأسرى ضمن معاركهم لتحسين شروط حياتهم بما يتلاءم مع إنسانيتهم التي يعتدون بها، إلى الجرحى والمرضي وكبار السن ممن أفنوا أجمل سني عمرهم خلف القضبان الداكنة لإدارة السجون.
حتى يصعب تخيل بيت فلسطيني لا يحمل ذكريات ما عن أيام الاعتقال من أحد أفراده او من مجموعة منهم.
تاريخ وذكريات مازال الآلاف يعيشونها في السجون المختلفة المنتشرة على ثرى هذه البلاد ينتظرون لحظة يفتح باب الزنزانة ويخرجون لشمس النهار.
إنها القصة نفسها التي عاشها "موسى الشيخ" وأرخها بشكل ادبي رفيع في روايته الموسومة "الشمس تولد من الجبل" الصادرة عن مركز ابو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس.
في هذا الكتاب الذاكرة يقوم موسى الشيخ بسرد قصة حياة مليئة بالتفاصيل والحكايات والقصص عن فترة ثرية بعوالمها الملونة والمزركشة بالبطولة والتضحية والإرادة.
ما يفعله موسى الشيخ هو إشراكنا في هذه الذاكرة لأنها جزء منها ولأننا عشناها بتفاصيلها بمرها وحلوها، بقدها وقديدها.
وثمة قسط كبير من هذه الذاكرة لسنوات الاعتقال ولتجربة الحركة الأسيرة وتضحياتها وتكونها في مرحلتها المبكرة في نهايات سبعينيات القرن الماضي.
الشمس تولد من الجبل، هكذا كان يظن الطفل الذي كان يصحو فيرى الشمس تنهض من خلف الجبال شرق بلدته عقربا قرب نابلس.
لكن في حقيقة الامر ثمة شمس أخرى كانت تولد في مكان ما كان على الطفل اللحاق بها والاندماج داخلها كي يصبح هو الآخر شعاعاً في وهجها. مع اول الشباب يخرج الشاب كما فعل غيره آلاف بحثاً عن العمل في ممالك النفط لكنه يكتشف أنه خرج في حقيقة الامر لشيء آخر.
حيث لا يطول به المقام في الكويت قبل أن يلتحق بجيش التحرير الفلسطيني الذين أعلن عن تشكيله المرحوم احمد الشقيري.
هناك تبدأ رحلة جديدة ويدخل الشاب عالما جديدا.
ومن جيش التحرير الفلسطيني إلى الثورة الفلسطينية التي كانت قد انطلقت وبدأت عملياتها تملأ نشرات الاخبار وتنشر في الناس أملاً ضاع منهم امام وعود احمد سعيد الكاذبة.
هناك تبدأ الرحلة الحقيقية بتفاصيلها الغنية وعالمها المكثف حيث عشرات الأسماء وعشرات الاماكن وغيرها من الشواهد والاحداث والعمليات والتنظيمات والشخصيات السياسية والحوارات والمواقف والبيانات، وبالطبع الشهداء والجرحي والأسرى.
تاريخ حافل من سجل الحياة التي خبرها الكاتب وعاشها وكان جزءاً منها. لكن في الحقيقة ثمة شمس مخبأة خلف جبل موصدة الطريق إليه بسلاسل وقيود وأرتجة سيجد الكاتب نفسه خلفه خلال مشاركته في إحدى العمليات داخل الأرض المحتلة حيث سيمضي هناك حتى إتمام صفقة التبادل في منتصف الثمانينيات.
لكن يظل الجزء الأجمل في الكتاب هو تلك الفصول الجميلة التي يتحدث فيها الكاتب عن تجربته في الأسر من مرحلة التحقيق حتى خروجه من باب السجن للحرية.
ينجح موسى الشيخ بالتأريخ لمرحلة مهمة من عمر الحركة الوطنية الأسيرة بقلم شاهد العيان الذي كان جزءاً من التجربة ومؤثراً فيها.
من سجن نابلس إلى سجن عسقلان إلى سجن غزة المركزي إلى سجن جنين، رحلة مسجلة بتفاصيل حية ودقيقة تعكس ذاكرة لاقطة كانت تعرف قيمة ما يدمغ فيها من احداث.
يكشف لنا الكاتب بلغة جميلة ورشيقة عالماً كلنا يعرفه وبعضنا عاش اجزاءً منه، لكنه يفعل ذلك بسرد شيق متماسك.
واهم من كل شيء ربما أنه يفي الشخوص الآخرين حقهم.
فموسى الشيخ وفيّ لكل من عاش معه لو لحظة واحدة وقابله في الزنزانة او في "الفورة".
في متن هذا التأريخ المهم للذاكرة الوطنية نقابل ياسر عرفات كما نقابل أبو علي شاهين وعبد الفتاح حمايل وعبد القادر أبو الفحم ومحمود العالول وحافظ ابو عباية وغيرهم المئات من الأشخاص الذي كانوا أبطالاً حقيقيين لهذه الحقبة المهمة من التاريخ.
وبذلك لا يعود هذا كتابا شخصيا يحكي قصة حياة كاتبه بل كتاب جماعي يؤرخ لحياة شعب، لحياة مجموعة من الأبطال الذين عاشوا خلف قضبان السجون.
نرى كيف بدأ اول إضراب للحركة الاسيرة وكيف استشهد عبد القادر أبو الفحم وكيف استطاع السجناء تنظيم حياتهم والكفاح المرير الذي خاضوه من اجل أن يحولوا سجونهم إلى اكاديميات بطولة.
لم يكن الأسرى فقط فلسطينيين فثمة ظهور متواصل للأسرى العرب والعراقيين تحديداً في تجسيد لعروبة فلسطين وعمقها.
لقد قام بعض قادة الحركة الأسيرة بتسجيل تجربتهم في الأسر وربما كان الأشهر في ذلك مؤسس الحركة الأسيرة أبو علي شاهين الذي غادرنا قبل أشهر في كتابه الجميل "الهواء المقنع" الذي ساعده في صياغته الشاعر الراحل محمد القيسي، كما قام فاضل يونس بكتابة تفاصيل الاسر في كتابة الزنزانة رقم "7"، وكذلك فعل هشام عبد الرازق وعبد الحق شحادة وكثيرون غيرهم.
هناك كنوز كثيرة بحاجة لأن تخرج من ذاكرة الأسرى حتى تزداد مصابيح الطريق المعتم فيضيء لو قليلاً.
وهذا يتطلب تكثيف الجهود الوطنية المبذولة من اجل الحفاظ على تراث الحركة الاسيرة وادبياتها وطباعتها وتعميمها حتى يزداد وعي المواطنين بها. وربما بموازاة ذلك نشر هذا التراث عربياً وتعميمه دولياً للمساهمة في فضح إسرائيل.
وأقل القليل وأصغر الواجب تجاه هؤلاء الأبطال الذين وحدهم يملكون الشمس ووحدهم يملكون الجبل، فلا شمس ستشرق علينا دونهم.


