"التدخل الخارجي" في بلد ما ليس سلوكاً سياسيا ودوليا جديدا، بل قديم ومارسته الدول والقوى والحضارات المختلفة على مر القرون.
وكان على الدوام مثار خلاف وموضع سجال سياسي وتاريخي محتدم. ودوما تختلف الاطراف المتخاصمة على موضعته وتأريخه.
ووقائع وامثلة "التدخل الخارجي" واستدعائه والاستنجاد به، سواء في الإطار العربي ام غير العربي، تكاد لا تُحصى.
تاريخيا تحفل هذه المنطقة من التاريخ بكل الروايات المتناقضة التي يمكن تخيلها، رغم ان جوهر التدخل الخارجي يكون نفس القصة: حاكم يضطهد شعبه إلى درجة تستفز هذا الشعب الى الاستنجاد بـ "العدو" الخارجي، أو حاكم يقوم بعملية طائشة في فضائه "القومي" او "الديني" تستفز جزءا من هذا الفضاء إلى الاستنجاد بالخارج لردعه.
والخارج بطبيعة الحال ومدفوعا بحوافز وعوامل كثيرة يكون في انتظار مثل هذه الدعوة ليقبلها ويأتي على الفور.
والإشكالية التي كانت تواجه الناس عامة والمؤرخين خاصة ان قبول "العدو" دعوة الاستعانة وقدومه سيترافق مع تضحيات كبيرة، ذلك ان للعدو مصالح هي التي تقوده للتضحية بجيشه ومقدراته وخوض حرب باسم الشعب الواقع تحت الاضطهاد.
فالموازنة بين مضار ومنافع الاستنجاد بالعدو الخارجي، وإلى اي جهة تميل، تقع في قلب عملية تقليب الحدث التاريخي ثم تأريخه، وهي محط الخلاف الكبير والذي لا ينتهي.
وقد اتسع نطاق الاستنجاد حتى صارت له فصول في الفقه الاسلامي تحت باب "حكم الاستعانة بالمشركين"، ما يشير إلى تعدد الحوادث وتكرارها. لكن المثير دوما هو التأمل في الكيفية التي أرخ بها المؤرخون اي حادثة "استنجاد" وكيفية تركيب الوقائع وتسلسلها بحيث تقود إلى تفسير معين، او تخدم فكرة مسبقة التحديد.
في التعامل مثلا مع الغزو الاسلامي لبلدان واراضي الآخرين نجد ان كثيرا من التأريخ الاسلامي يستدعي فكرة الاستنجاد ويعلي من شأنها في تسويغ تحرك الجيوش الاسلامية لهذا البلد او ذاك واحتلاله.
وحسب التاريخ التقليدي لـ "فتح مصر" او "فتوح الاندلس" او "فتوح آسيا الوسطى" فهناك استنجادات دائمة من قبل سكان هذه البلدان، القبط في مصر، او القوط في الاندلس، او حواضر في آسيا الوسطى، بالحكام المسلمين ليخلصوهم من ظلم حكامهم المحليين.
وفي كتب التاريخ الاسلامي والرواية الاسلامية الكلاسيكية لتلك الحروب ترصد عملية استجابة خلفاء المسلمين وامرائهم لـ "استنجاد النصارى" بكونها دليلا على مروءتهم وانتصارهم للمظلوم واحقاقهم لقيم العدل.
وهناك تجاهل متعمد لتحليل وتأريخ الدوافع الاخرى والحقيقية وراء استجابات اولئك الخلفاء لدعوات الاستنجاد، إذا افترضنا انها وقعت وكانت حقيقية.
ما يعرفه طلبه التاريخ الاسلامي في المدارس والجامعات العربية والاسلامية هو رواية المؤرخين المسلمين لتلك الوقائع، ولا يدرسون رواية مؤرخين من تلك البلدان والتي في الغالب تكون مختلفة إن لم نقل متناقضة.
كيف سيتعامل مؤرخ المستقبل مع غزو صدام حسين للكويت، وكيف سيرصد تسلسل الوقائع التي سبقت الغزو، وما هي الاهمية والوزن الذي سوف يمنحه لهذا العنصر او تلك الواقعة في السياق الاجمالي للغزو؟ وكيف سيتم تأريخ تدخل التحالف الغربي مع دول الخليج بهدف طرد صدام حسين من الكويت، والاستجابة السريعة والواسعة للغرب، وموضعة مسألة القدوم من اجل الدفاع عن مصالحه، إزاء القدوم استجابة لمطلب الكويتيين لتحرير بلدهم؟ هل كان التدخل الغربي مدفوعا بهاجس تحرير الكويتيين ام انه استغل الفرصة للقضاء على الجيش العراقي الذي اصبح قويا في شبه غفلة من العين الغربية، وكاد يحقق تغييرا استراتيجيا في ميزان القوى مع إسرائيل؟
في العصر الراهن تواجه كتابة التأريخ معضلات وتحديات إضافية تتعلق بفيضان المعلومات، او بحسب المصطلح الذي نحت حديثا بـ "المعلومات الضخمة – Big Data".
مشكلة المؤرخ هنا لم تعد في شح المعلومة والاخبار عنها، ولا في بذل الجهد الكبير للوصول إليها، بل تتمثل في الامر المعاكس تماما، اي في فيضان المعرفة وطوفان الاخبار والمعلومات والتحليلات.
لكن هذا الفيضان لا يعني توفر كل شيء، بل التغطية على الأشياء والعناصر المهمة الخاصة بحدث معين.
فالذي يتم، سواء بقصد ام بغيره، هو إغراق الحدث بكم هائل من المعلومات والتحليلات والصور المتلفزة والوثائق بحيث تصبح مهمة المؤرخ شبه مستحيلة.
هذا كله من دون الانخراط في جدل التشكك في اهمية الوثيقة اصلا ومدى صلاحية الاعتماد عليها كأساس في التأريخ، وفي ما إن كان ذلك الاعتماد يعزز من منهج التأريخ ام يعزز التضليل غير المقصود.
مثلاً، هي يمكن ان يوثق حاكم ما رغبته وسياسته في إبادة جزء من السكان ثم يوثق طرائق التنفيذ؟ وهل يمكن ان يوثق قادة وسياسيون نياتهم الحقيقية الدافعة لغزو بلد مجاور؟ ما هو موثق في هذه الحالات تبريرات وتفسيرات مغايرة تماما وتخفي النيات الحقيقية.
كيف نوثق إذن النوايا والاهداف الحقيقية وراء الفعل والحادثة التاريخية؟
في ضوء ذلك وفي اللحظة الراهنة تقدم الحرب في سورية ومسألة التدخل الخارجي المتوقع على خلفية القتل اليومي فيها وسقوط ازيد من مائة الف قتيل جلهم من الابرياء وتشريد ملايين من اهلها مثالا طازجا وتحديا كبيرا للتاريخ والتأريخ والمؤرخين.
اين نضع هذا التدخل من منظور التأريخ وكيف سيتم وصفه: هل هو انحياز القوى الغربية والولايات المتحدة على رأسها لقيم العدالة ووصول الامر في سورية إلى درجة لم يعد بالإمكان السكوت عنها، وصار لا بد من الانتصار للضحايا؟ ام هو تدخل هدفه خدمة المصالح الاميركية فقط، وخدمة اسرائيل عن طريق انتهاز فرصة غباء وتوحش النظام القائم وتقديم المسوغ للولايات المتحدة لضرب البنية العسكرية التحتية لسورية من مطارات وقواعد وسوى ذلك، وبالتالي إزالة اي خطر سوري مستقبلي عن اسرائيل؟ ليس هناك جواب بنعم مطلقة او لا مطلقة عن هذه الاسئلة ذلك ان اجزاء متداخلة من النوايا والاهداف والضغوط هي التي تقود إلى سياسة معينة.
لكن اين يمكن رسم الحدود من ناحية التأريخ لهذا الحدث، إلى اين يمتد تأثير ضغوط "القيم الانسانية" في قرار التدخل الخارجي، والى اين يمتد تأثير ضغوط المصلحة والاهداف الاستراتيجية؟ مهمة لا يُحسد عليها مؤرخ هذه الحرب سواء كان بين ظهرانينا، او من ابناء المستقبل.
Email: khaled.hroub@yahoo.com


