فرغت للتو من قراءة تقارير، حول الانتخابات التي اجريت حديثا في أربعة دول هي: ايران وباكستان وفنزويلا وماليزيا. ما أدهشني هو ما تظهره قراءة المشهد الانتخابي في كل منها، بأن الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، كعامل خارجي، كان له أثر ذو دلالات على العملية الانتخابية نفسها وعلى سلوك الناخبين واتجاهات تصويتهم، وما يمثله ذلك من تحديات تواجه الأنظمة السياسية في تلك البلدان.
فإيران حكم عاملها الخارجي، وطغى على مشهدها الانتخابي الولايات المتحدة لاسميا ذلك المتعلق بالملف النووي وتفرعات السياسة الأمريكية في ملفات سوريا على وجه الخصوص، والربيع العربي على وجه العموم وملف العراق-الخليج.
أما في باكستان فقد ارتبط ما هو خارجي في مشهد الانتخابات ذلك المتعلق بمناطقها الحدودية وما تقوم به القوات الأمريكية من استباحة لها بطائراتها بدون طيار و"الحرب الامريكية على الارهاب" وضرورة اعادة النظر في العلاقة لجهة دور باكستان في تلك الحرب.
وتركز الخارجي في فنزويلا بدوره في العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية وما تشهده من توتر، فمن اتهامهما "بالتآمر في موت تشافيز" إلى دورها "المؤامراتي" في فنزويلا و"دعم مرشحي المعارضة" في محاولة مستميتة لاسقاط النظام التشافيزي وخلخلة أنظمة الحكم الأخرى في اميركا اللاتينية.
والخارجي في ماليزيا، تركز أساسا، في ذلك التنافس المتنامي بين القطبين الصيني والامريكي الذي بدا واضحا في عهد اوباما، لمنطقة من الكون اصبحت ذات اهتمام خاص للإدارة الأمريكية الحالية، وهو ما عكس تباينا واضحا بين من هم في الحكم ومن هم في المعارضة.
تؤشر التفاعلات الداخلية لتلك الدول، أن الخارجي الأمريكي على وجه الخصوص حاضر بقوة، بثأيراته التي ينظر اليها ناخبو تلك البلدان بريبة واضحة من جهة وهو ما يجري توظيفه من قبل الخصوم توظيفا انتخابيا نفعيا بالغ الدلالة والخطورة من جهة ثانية، وكأن المصالح الأمريكية والحفاظ عليها وما يستتبع ذلك من تطورات محلية او اقليمية هي مسألة قدرية وجب قبولها أوتحسين شروطها او رفضها في محاولة لخلق شروط أكثر توازنا في نظام المصالح المشترك.
التجارب الأربعة المذكورة أعلاه ، تشكل في ظني مدخلا مناسبا لتناول الحالة العامة في اقليمنا الذي يتعرض لاهتزازات عنيفة وسيولة سياسية اصابت الكثيرين بما هو عصي على استيعاب تطوراتها المتلاحقة والتي كلما بدا انه اقتراب نحو إعادة ترتيب الاقليم أو ما يشبه ذلك، تعود حالة الفوضى مرة ثانية لتكون طاغية على المشهد. إنها فوضى السياسة الأمريكية، شديدة النفعية في علاقاتها الدولية، لاسيما في عهد اوباما في دفاعه، غير السوي وغير المتوازن، عن مصالحه والذي يكاد يكون سمة الإشتباك السياسي لادارته في مختلف مناطق الكون.
تبنى بوش الأبن، في فترة ولايته ما اطلق عليه "برنامج الحرية" والذي نتج عنه دعم لا محدود من الأنظمة العربية لسياسات البيت الأبيض لتطبيق برنامج الحرية ومكافحة الارهاب، مقابل عدم المطالبة بإصلاحات سياسية في تلك البلدان وغض الطرف عن الاستبداد والفساد والقمع الذي مارسته تلك الأنظمة.
ومع تولي اوباما الحكم بدا انه ذاهب نحو التصالح مع الاقليم والتوازن في المصالح، ويظهر ذلك على وجه الخصوص من خطاب اوباما في جامعة القاهرة. تظهر السياسة التي تبناها اوباما ولازال بعدم التدخل مباشرة في النزاعات إلى رفدها، بما هو غير مباشر، بتبني القيام بأعمال سرية وفاضحة في مناطق عديدة من العالم كاليمن وباكستان ...الخ وحتى في الولايات المتحدة نفسها بالتلصص على مواطنيها أنفسهم بدعوى الحفاظ على الأمن القومي.
التطورات السياسية اللاحقة ولاسيما إدارة ملف الربيع العربي والتطورات اللاحقة عكست سياسة أمريكية، نفعية بامتياز وبدون أي مضمون حقيقي سوى البحث بطريقة مرتبكة ومريبة، عن مصالح الولايات المتحدة في عالم مضطرب وشديد التغير. نتج عن ذلك كله انقلابا على خطاب التصالح والاحترام كما بدا واضحا في سوريا ومصر وليبيا. وليس هناك ما هو أوضح مما يقوله وزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كيسنجر في مقال نشرته جريدة الحياة اللندنية بأن "الباعث على القلق الاستراتيجي الاميركي هو عملية تنتهي إلى نشوء حكومات اقليمية ضعيفة أو تغالي في معاداة الغرب، وتعجز تاليا عن دعم الأهداف الاميريكية، مهما كانت الاولويات الانتخابية التي حملت هذه الحكومات إلى السلطة."
وتتمظهر تلك السياسة الرثة وغير المتوازنة والعدائية في آن معا أيضا، في دعم الادارة الأمريكية اللامحدود لإسرائيل والتساهل مع ما ترتكبه في الاراضي الفلسطينية عدوان حتى لو تسبب لها ذلك باهانتها واحراجها كقوة عظمى، وعجزها حتى عن انتقاد ما تقوم به دولة الاحتلال من استيطان في قلب تلك الاراضي، ويشير مروان بشارة إلى ذلك بصدق إلى أن أوباما "استمر في توفير الدعم لإسرائيل بطرق مختلفة ما جعله في الواقع أحد أصدقاء اسرائيل الأكثر اخلاصا في التاريخ الحديث".
إن السياسة الأمريكية حتى في نظرتها النفعية والمصلحية، بدت في ارتباك واضح، لاسيما في معالجة الملف السوري والثورة المصرية، وكذلك الحال في تونس، وفي ليبيا وما تشهده من تفتت للدولة في تهديد خطير لوحدة التراب الوطني. فمن جهة هناك تخبط واضح وفشل في السياسات والخيارات التي تم تبنيها حتى الآن، ومن جهة ثانية، هناك ميل إلى الانتظار، في سلوك أقرب للانتهازية، لما ستسفر عنه الاحداث ومآلات الأمور في تلك البلدان لتحدد شكل الإشتباك وقواعده دون أي اعتبار لخطاب المباديء ولا حتى للقيم المدعاة من الادارة الامريكية. وهو مادفع، على سبيل المثال، مارتن انديك سفير امريكا الأسبق في إسرائيل ومنسق عملية السلام المعين حديثا للتعليق على ارتباك ادارة اوباما فيما يتعلق بمصر، في مقال منشور في الحياة اللندنية بأن "السياسة الامريكية لاتجافي الصواب، لكن إخراجها في العلن غير موفق."
ومثال الملف السوري وإدارته من قبل الادارة الأمريكية الحالية يدلل على ذلك بوضوح، حيث يبدو ان الولايات المتحدة قد عادت إلى تبني سياستها القديمة بالتدخل المباشر، حتى لو وصل الأمر إلى التدخل عسكريا، دون توفر أي إجماع دولي أو حتى غطاء قانوني لذلك، خدمة لأمن اسرائيل ومصالحها في المنطقة ومهما كانت تكلفة ذلك العدوان وتأثيراته بعيدة المدى على الاقليم الذي يعج بفسيفسائة فريدة، طائفية واثنية وسكانية.
ضرب سوريا يعيد إلى الأذهان ضرب العراق وتحطيم مقدراته وتدمير مقوماته ووحدة اراضيه، وهو ما ادى من الناحية الفعلية إلى تقسيمه وتشظي هويتة الوطنية الجامعة. إن أمن اسرائيل كثابت مطلق في السياسة الأمريكية، وتأمين إمدادات النفط من الخليج، هي ما حكمت ولازالت تحكم وسوف تحكم السياسة الأمريكية وهو ما يؤكده أيضا كيسنجر بانه "طوال أكثر من نصف قرن كانت محور السياسة الامريكية في الشرق الأوسط اهداف امنية حيوية: الحؤول دون هيمنة أي قوة في المنطقة، والحرص على تدفق الطاقة من مصادرها من غير انقطاع أو عرقلة، والسعي في ابرام اتفاق سلام مستدام بين اسرائيل ودول الجوار والعرب الفلسطينيين. "
وتظهر سنوات محاولة "إبرام اتفاق سلام مستدام" التي تبنتها الولايات المتحدة إلى إعطاء دولة الإحتلال مساحة من الوقت للإنقلاب على السلام وأي ممكنات له عبر تغيير معالم الجغرافيا والديمغرفيا بشكل خطير. إن ما تظهره السياسة الأمريكية في عهد أوباما هو مزيد من الفوضى "غير الخلاقة" والاهتزازات الشديدة مصحوبة بشيوع حالة من الفلتان السياسي والأمني، وما يبشر به الاقليم من تقسيمه وتشظيه إلى كيانات سياسية طائفية وقبلية والبحث عن هويات مصطنعة.
إن السياسة الأمريكية التي لم تراعي أبدا أي توازن في المصالح وتنحاز إلى دولة الاحتلال بشكل مطلق، لن تؤدي إلا إلى مزيد من التدهور في الاقليم، والسياسة الإستشراقية التي تتعامل بها مع مجتمعاتنا وفق المنطق التجريبي لن تؤدي إلا إلى ما هو أسوأ وهو آت لا محالة. إدراكا بأنه لايمكن لأحد ان يختار خصمه أو يحتار من يكون قوة عظمى أو خلافها، فإنه لاخيار سوى الاصرار على مطالبة الولايات المتحدة بعلاقات تستند إلى توازن المصالح وبالكف عن هذا الشكل بالغ الاسفاف في العلاقة مع اسرائيل والحفاظ على تفوقها الأمني، حتى لو وصل الأمر إلى تفتييت دول كالعراق ومن بعده سوريا. إن إسرائيل تنتهك قواعد القانون الدولي بشكل منظم وهو ما ينطوي على تهديد خطير للأمن والسلم الدوليين في انتهاك واضح لمقاصد الأمم المتحدة وميثاقها ولقيم العدالة المنشئة للولايات المتحدة نفسها. إن مصالح الولايات المتحدة، تقتضي اشتباكا مختلفا مع هذا المكان من العالم يحفظ للشعوب كراماتها وحقوقها ويؤسس لمصالحة حقيقية وتوازنا في علاقاتها وتصحيحا لوضع خاطيء من حصاد مرير لسنوات من فجور تعظيم المصالح حتى لو كان بالدوس على رقاب من في الاقليم وكراماتهم.


