لم يتفق منظرو التحول الديمقراطي على وصفة سحرية يتم عبرها نقل النظم من طور الديكتاتورية والشمولية والسلطوية إلى المشاركة والانتخابات والتداول السلمي والتعددية. إن الوصفة الديمقراطية لم تكن جاهزة يوماً، ولم يستدل من تاريخ الشعوب على وصفة واحدة أو خبرة نقية من غير شوائب. ويمكن بمراجعة ما حدث في عمليات انتقال في مناطق مختلفة من العالم أن يتم استخلاص قائمة طويلة من المعايير والمراحل التي ستختلف وفق السياق بالطبع، وتكون رهينة الثقافة السياسية في مرات كثيرة أو خبرات الحكم التي ستؤخذ بالحسبان. والثابت في ذلك أن تأويل مسار عمليات التحول لا يمكن فهمه ضمن نسق واحد من الثنائيات المتضادة أو النافية لبعضها بحيث إذا توفر عامل انتفى العامل الآخر.
بل إن ثمة صدى لحكمة قديمة، دللت عليها تجارب ممارسة الديمقراطية القديمة في أثينا، تقول، إن الديمقراطية ناقصة دائماً. ولم تكن أثينا التي قدر لتجربتها (لأننا لا نعرف كثيراً عن نظم الحكم الأخرى في مناطق أخرى من هذا الكوكب) أن تكون الأنموذج الأول في استنساخ تجربة الحكم الناجح، ديمقراطية كاملة بالمعنى الذي نعرفه اليوم. فالمرأة لم تكن تشارك في الحكم ولا تختار من يمثلها، كما أن تقسيمات المجتمع الأثيني كانت ترسخ اكثر نظام التمييز العنصري من اقترابها من المساواة. ولم يكن ينعم بالمساواة إلا الأسياد، فالمجتمع مقسم إلى طبقات وشرائح يصعب تجاوزها في الممارسة السياسية.
كما أن المعايير التي تطبق اليوم في مقياس نجاح الديمقراطية لم تتمكن جل الدول الغربية التي توصف بأنها واحات الديمقراطية من تطبيقها إلا بعد مئات السنين من الحكم الذي اتسم في مراحل كثيرة منه بالقمع والتسلطية. وحتى تلك الدول التي يدلل تاريخها على تجربة ديمقراطية طويلة نسبياً خاصة في شمال أوروبا فإن بعض قطاعات المجتمع لم تكن تمنح حق الاقتراع حتى عهد قريب. وستبدو المفارقة أن تتم مطالبة الدول التي تخضع لعمليات التحول بأن تصل بغمضة عين إلى النعيم الديمقراطي أو تصل إلى آخر السلم بدون لحن أو نشوز. إن ما يقترحه هذا التحليل أن التدرجية في الممارسة وفي تحقيق غايات عمليات التحول الديمقراطي أمر هو من صميم التجربة الديمقراطية. ليس لأن الناس تتعالم بالخبرة وتكتسب معارفها من خلال عيشها، وهذا أمر صحيح رغم ذلك، ولكن لأن مفاعيل انتقال النظام السياسي ليست أمراً ميكانيكياً يتم بصفة آلية بمجرد إرادة الناس التخلص من الحكم. فالناس التي ستخرج للشارع كما فعلت في القاهرة وتونس وطرابلس تعتقد جازمة بأن مجرد خروجها سيجلب لها السعادة. فالتخلص من النظام السابق بحد ذاته سيكون إنجازاً ولكن ما أن تنتهي الفرحة بالتخلص من النظام السابق حتى يأتي السؤال على شكل كابوس "كيف نتأكد أن النظام القادم أفضل؟". هناك ألف طريقة للتأكد من ذلك، ولكن المؤكد أن المشاعر والعواطف ليست واحدة منها بأي حال.
وعليه فإن اختيار الناس لنظام جديد لا يعني رضاهم الكامل عليه، ولا يعني بأي حال أنهم سيقبلون بهذا النظام طوال فترته القانونية. فالناس يكونون في مرحلة اختيار، وهم أيضاً في طور تأثير الحاجة للتخلص من النظام القديم. وعليه تتسم عادة خياراتهم بردات الفعل أو بالجنوح إلى التجريب. والخبرات السابقة للشعوب تدلل على أن النظم السياسية تستقر بعد مراحل من الاضطراب. ولم يكن انحصار النظام السياسي الأميركي بين حزبين كبيرين ولا النظام البريطاني بين اثنين وثالث صغير إلا نتيجة حالات من التردد والخيارات المتنوعة. وإذا ما أعيد إنتاج السؤال الشرعي حول ديمقراطية الديمقراطية، فهل يمكن التصديق بأن خيارات قرابة 300 مليون مواطن أميركي محصورة بين وجهتي نظر فقط!! لكن مرة أخرى من قال إن الديمقراطية بلا عيوب وبلا أخطاء! ومن قال إن الوصول إليها ليس بلا عثرات. وكأن ثمة من يصر محقاً بأن العثرات الديمقراطية جزء من عملية التعلم.
وبالعودة إلى خيارات الناس فإن الناس المندفعين بروح التغير الذي أحدثته سيظلون أيضاً مندفعين بالحاجة للبحث عن الأفضل. وهذا ما حدث في مصر تحديداً. خرج الناس منتفضين على النظام القديم وجاءت الانتخابات الشرعية برئيس جديد وحكومة جديدة، لكن الناس الذين ما زالوا يعيشون بنشوة لحظة "القوة الجماهيرية" لم يجدوا فيمن اختاروا الطموح الذي يرغبون به. لم يتحققوا أن ما اختاروه هو الحل الأمثل للتعبير عن تطلعاتهم وآمالهم ومستقبلهم، لذا خرجوا عليه. لم يخرجوا عليه لأنهم أرادوا أن ينقلبوا عليه، كما يطيب لبعض وسائل الإعلام أن تصف ما تم، بل لأنهم هم من "خلعوا" من قبله وهم بالتالي يعتقدون أنهم يستطيعون دائماً فعل ذلك. مرد ذلك أن خبرات إقالة النظام السابق بقوة الفعل الجماهيري ليست بعيدة وبالتالي إعادة تكرارها ليس صعباً.
إن قراءة سريعة لتاريخ عمليات التحول تدلل على أن شيئاً من هذا القبيل حدث دون أن يعني أنه الطريقة المثلى لاستكمال عملية التحول. القلاقل وعدم الاستقرار شيء فطري في البشر الذين ينزعون إلى عاطفتهم تارة وإلى خياراتهم المنطقية تارة أخرى، لكن المؤكد أن كل هذا يساهم في بناء تراكم معقول من الخبرة السياسية التي تساهم مع الزمن في بناء نظام ديمقراطي مستقر. فالناس الذين لم يعرفوا طوال حياتها إلا خياراً واحداً ورئيساً واحداً وإعلاماً واحداً صاروا مفتوحين على فكرة الخيار والاختيار والتي هي جوهر علم السياسة وممارسته. فالسياسة ليست أكثر من القيام بالاختيار من بين خيارات متنوعة، حيث يصبح فعل الاختيار نفسه أمراً سياسياً بامتياز. من هنا اكتسبت "طريقة" الحكم أهمية في عقل البشر لأنها ترجمة لخياراتهم. والديمقراطية ليست إلا عملية بحث عن الخيار الأمثل، من هنا يكون التداول على السلطة في جوهر عملية السلطة لأنه تعبير عن تغير خيارات الناس وترجمة لهذه الخيارات المتغيرة.


