حينما تتوقف الجيوش عن محاربة أعدائها في الخارج فإنها وقد استؤنست وتم تدجينها وترويضها من لدن قادة أو زعماء طغاة ومستبدين، سرعان ما تتحول إلى الانخراط والارتداد في توجيه نيران مدافعها أو بنادقها إلى الداخل إلى صدور شعوبها أو أعدائها المفترضين من بين أبنائها، وذلك مع أول فرصة تحدثها ثورة شعبيه تطيح بهؤلاء الزعماء الطغاة. وحينئذ تكون الثورات المضادة التي تقودها هذه الجيوش من الشراسة والعنف، بحيث تغرق البلاد في بحر من الدماء، ويتحول حكم الطغمة العسكرية بهذا القدر من القسوة، إلى الدرجة والحد الذي ينظر فيه إلى عهود الطغاة السابقين على أنها عهود من الحكمة الرحيمة، التي تستدعي الترحم عليها مقارنة بهول الأوضاع الراهنة التي آلت إليها أمور حكم البلاد.
إن مأزق العلاقة أو المعادلة بين الجيوش والسياسة عبر الأزمان يتلخص بالعبارة التالية: الجيوش إما أن تحارب أعداء لها في الخارج أو أن ترتد لخوض هذه الحروب في الداخل. والأمثلة التي تظهر أمامنا على اللوحة واضحة الدلالة، انخراط الجيشين السوري والمصري في حروب الداخل فيما الجيش الوحيد الذي نجا من هذا الوحل، هو الجيش العراقي الذي دمره أعداؤه الخارجيون، وقد استغرق كل تاريخه في حروب خارجية ومع أعداء خارجيين.
ولكن سواء تعلق الأمر بحروب تخوضها هذه الجيوش ضد أعداء في الخارج أم في الداخل، فإن علاقتها بالدولة أشبه ما تكون بأم الصبي، حجر الزاوية أو المدماك الذي يحافظ على بقاء الدولة ويرتهن مصير هذه الدولة عليه، بأكثر من كونها أي هذه الجيوش أداة أو امتداداً لبنية الدولة. وهكذا بعد دراسة مقارنة في الوضع التاريخي الراهن لعلاقة هذه الجيوش الثلاثة، ذات دلالة كاشفة بأقوى من أي عنصر آخر عن هشاشة بنية الدولة العربية، من حيث نموذجها التكوين الهجين الذي يجعل منها اقرب إلى نموذجها (المملوكي) أو (السلطنة) كما لاحظ المفكر المغربي عبد الله العروي، قبل نصف قرن بحيث أدى حل الجيش العراقي على سبيل المثال بعد الاحتلال الأميركي للعراق، وهو ما اعتبر لاحقاً خطأ فادحاً إلى تفكك الدولة العراقية ودخول الدولة العراقية التي ما زالت دولة صورية إلى ما اصبح معروفاً بنماذج الدول الفاشلة. بينما على العكس من ذلك يلعب الجيش السوري اليوم الدور المركزي والحاسم في الحؤول دون سقوط الدولة والضمانة الرئيسية للحفاظ على الوحدة الجغرافية لسورية، وبالتالي إفشال مخطط قتل الدولة السورية.
أما في مصر فإن انخراط الجيش المصري في السياسة منذ ثورة 25 يناير، بعد الإطاحة بحكم حسني مبارك، فإن هذا التدخل هو جزء من الصراع على هوية الدولة المصرية، أقدم دولة في التاريخ المعروف، وهو تدخل يصدر عن أزمة مشابهة للتدخل في نموذج الجزائر وتركيا وباكستان وتشيلي، بعد انتصار الشيوعيين في هذا البلد الأخير العام 1973 بزعامة سلفادور اليندي، الذي يمكن مقارنة مصيره مقتولاً بمصير محمد مرسي محبوساً، مع فارق أن اليندي اختار أن يحمل رشاشه مدافعاً عن شرعيته وقتل في قصره، بينما استسلم مرسي إلى مصيره دون أي مقاومة.
وهو صراع على الهوية يكتنفه الغموض، هنا أيضا في الحالة المصرية المتحركة، إذا كان الصراع الجاري اليوم في مصر يتجاوز الاستقطاب الظاهر على السطح بين العلمانيين والإسلام السياسي، أي بين العلمانية والدين، كما حدث في الجزائر وتركيا وهو التباس سوف يظل يمظهر الأزمة المصرية بهذا القدر من الجدل والسجال والتعقيد، الذي يظل يطرح التساؤلات حول المحور الرئيسي لهذه الأزمة، عن علاقة الجيوش بالسياسة والدولة بالثورة، وماهية الدولة العربية حتى في أقوى وأقدم رسوخ تاريخي لها أي في مصر. إذا كان الاستنتاج الأخير يتحدد في كون أن هذه الدولة لا تجد ملاذها الأخير في قوة مؤسساتها البنيوية الراسخة، أمام أزمة حادة تواجهها بالرجوع إلى تقاليدها أي بالاهتداء إلى قوتها الناعمة، وإنما إلى قوتها الصلبة الوحيدة. وهو تعبير آخر عن فشل الدولة العربية المعاصرة، من حيث إن تطورها التاريخي كان ملتبساً بالأساس، ولذا فإن قابليتها للعطب والاختراق كما الانقلابات والتحولات المفاجئة هي السمة الغالبة في تاريخها.
فهل لهذا السبب أي الدافع إلى الاستقرار أقام الأميركيون رهانهم على الإخوان المسلمين في مصر؟ كتأطير جديد للاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، باعتبارهم القوة الوازنة الأكثر شعبياً وتنظيماً في موازاة الجيش. وكانت الاستراتيجية الأميركية على ما يبدو تراهن على التداعم بين هذين المدماكين الجيش والإخوان، القوتين الأكثر تنظيماً في مصر، والعامود الثالث هو السفارة الأميركية مكان السفير البريطاني سابقاً زمن الملكية. فهل حدث إذن تدخل طرف ثالث، شيطان آخر، ليوقع بين هاتين القوتين ليحطمهما معاً، وهذا الطرف ليس سوى اسرائيل، كما ذهب إلى ذلك رجب طيب اردوغان باتهام صريح لاسرائيل أنها تقف وراء إسقاط حكم الإخوان في مصر. أم أن الجيش تحرك بالفعل يوم 3 تموز لدوافع مصرية وطنية خالصة، تنطلق أساساً من حسابات استراتيجية خالصة تتعلق برؤية مصر لدورها في مرحلة ما بعد الانكفاء أو الخروج الأميركي من الشرق الأوسط؟ وهي استراتيجية الانكفاء التي اشرنا إليها هنا، وحيث كان التصور الأميركي يمكن تلخيصه بالفكرة التالية: حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عبر العودة إلى المفاوضات، بالتوازي مع تلزيم المحور التركي القطري الإخواني المصري، القيادة الإقليمية في المنطقة.
هنا إذن تتضح عناصر اللعبة: يستعد المحور السعودي الإماراتي والأردني وهم الممثلون لمعسكر الاعتدال القديم الذي يضمهم إلى جانب مصر، التقدم إلى صدارة المشهد لاسترجاع الدور المركزي بصورة معاكسة للتصور الأميركي، الذي بدأ ينهار مع سقوط حكم مرسي في مصر. وهذا فقط وحده ما يفسر ما بدا أن السعودية والجيش المصري يخرجان عن النص القديم، في مواجهة الأميركيين بل والأوربيين معاً، في نزعة غير معهوده تتسم بالتحدي، والتأكيد على استقلالية مصرية تحاول الإيحاء بنوع من التماهي مع الخطاب الناصري، إلى حد التلويح المبطن في مواجهة أميركا وأوروبا بالعودة الى التحالف القديم مع روسيا. كما يفسر على المقلب الآخر هذا الارتباك الأميركي والأوروبي في ممارسة ضغط جدي على الجيش المصري، أو التلويح بقلب الطاولة، بانتظار تداعيات الأزمة على الأرض في اختبار القوة بين الإخوان والجيش.
ثلاثة جيوش عربية كبيرة قدر لها أن تلعب أدواراً مصيرية في أوضاع مختلفة ومتقلبة في بلدانها، كما في الصراع العربي مع اسرائيل. ولكن بعد (صمت المدافع) بعد العام 1973 وقد كان هذا التعبير عنوان كتاب شهير لباحث مصري مرموق هو السيد ياسين، فإن هذه الأدوار تراجعت من الحدود مع الخارج إلى أن أصبحت منخرطة في حروبها الداخلية. فهل هي مصادفة اليوم أن هذا التحول في الدور أو غيابه هو الذي يظهر على سطح الأحداث مقدار هذا الكم من الدم المخيف الذي يسفك على نحو صادم ويكاد ينحصر هنا فقط في هذه الدول الثلاث، في العراق وسورية ومصر أخيراً، وحيث لا مغيث أو منقذ أو مخلص من هذا الدمار. إذا كانت الحلول الأمنية في هذه الأزمات الثلاث هي الوصفة الوحيدة للفشل.


