بعد الانقسام الذي أعقب الأحداث المأساوية المسلحة في يونيه 2007, تباعد قطاع غزة عن الضفة الغربية سياسياً, وغدت هناك حكومتان؛ واحدة في رام الله برئاسة د. سلام فياض, وأخرى في غزة يترأسها إسماعيل هنية، والذي أعلن رئيس السلطة الأخ أبو مازن عن إقالته.
في ظل أجواء الانقسام تلك ظلت حالة التوتر والتحريض والتشهير قائمة بين شطري الوطن, بل إن الاتهامات لم تتوقف, وتعمد كلُّ طرف في سحب الشرعية عن الطرف الأخر.
سبع سنوات عجاف من الصراع تعرض فيها قطاع غزة لعدوانيين سافرين في ديسمبر2008م, ونوفمبر2012م, وقد نجحت المقاومة في تسجيل صمود اسطوري أفشل مخططات جيش الاحتلال من تحقيق أهدافه، الأمر اعتبره البعض انتصاراً للمقاومة وللحكومة في غزة.
لا شك أن ما يتعرض له قطاع غزة من احتلال وحصار من قبل إسرائيل قد أثقل كاهل الشعب الفلسطيني، والذي يعاني نقصاً في الخدمات وتراجعاً في بنيته التحتية، جراء التدمير الإسرائيلي خلال اعتداءاته المتكررة على القطاع.. ويمكننا هنا الإشارة فقط إلى القطع المتكرر بشكل يومي للكهرباء, وهذا ما يجعل حياة الناس معاناة دائمة، وإذا ألحقنا بذلك الشح في توفر مياه الشرب، والتراجع في حجم المساعدات التي تقدمها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (UNRWA) في القطاعين الصحي والإغاثي، فإن بإمكاننا إدراك طبيعة الضغوط التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاعنا الحبيب.
وإذا أضفنا لكل ما سبق ما يقاسيه الفلسطينيون خلال تحركاتهم لخارج قطاع غزة عن طريق معبر رفح وحتى حاجز إيرز, تفهمنا وضعية الحصار الظالم المفروض على شعبنا، بهدف كسر إرادته وإضعاف قدرات مقاومتنا الباسلة.
لا شك أن شكل المعاناة التي يمر بها شعبنا في الجزء الآخر من شطر الوطن, أي الضفة الغربية، لا تقل في أعبائها عما هو قائم في قطاع غزة؛ فالاحتلال ضارب أطنابه في جميع أرجاء البلاد, وأجهزة أمنه وجيشه بإمكانهما الوصول إلى بيت كل فلسطيني يعيش هناك, وهيبة السلطة بسبب ممارسات الاحتلال تلك مجروحة, وسياسات ابتلاع الأرض الفلسطينية تجري على قدم وساق, والتعدي على ممتلكات ومزارع أهلنا في الضفة الغربية وحرق أشجار الزيتون لا تتوقف ولا رادع لها.. وإذا أضفنا ما يقوم به جيش الاحتلال والمستوطنين في المدينة المقدسة من عمليات تهويد واعتداءات على مساكن المواطنين الآمنين، ومحاولات اقتلاعهم بالقوة والإكراه من بيوتهم، وقطع الطريق أمام المصلين وزوار المسجد الأقصى، أدركنا أننا جميعاً في الضفة الغربية وقطاع غزة لا يفضل أحدنا حال الآخر، فكلنا في الهمِّ شرق.
إن واقعنا الفلسطيني بعد تعثر كل الخطوات التي قطعناها على مدار أربع سنوات من الحوارات والجلسات والاتفاقات التي وقَّعنا بعضاً منها في القاهرة وأيضاً في قطر, يعيش حالة مثقلة بالخذلان، وفي وضعية من الاحباط لا يعلم مداها إلا الله .
أربع سنوات كانت تدغدغ مشاعر الجميع أحاديث قرب تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام, وظلت أقدامنا تراوح مكانها إلى أن جاءت الضغوط الأمريكية, وفرضت على السلطة في رام الله العودة للمفاوضات.. هذا بالطبع استدعى أن يتم وضع ملفات المصالحة على الرفّ، ومعاودة حديث المناكفات السياسية والأمنية، وكأن كل ما حاولنا التعافي منه خلال تلك السنوات الأربع شدَّنا إليه من جديد مربع الردح وتبادل الاتهامات بالخيانة والارتباط بجهات أجنبية..!!
يا حسرتاه على العباد.. للأسف نحن طرفيَّ الأزمة نعشق لغة التشهير ببعضنا البعض، وقد استمرأ الكثير هذه البضاعة واستطابها، لأنه لا يملك غيرها، ولا تعينه مفردات الخير والتسامح والحب على تناولها أو تداولها في المواجهة والخطاب.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، هل وصل كل طرفٍ منا – نحن الفلسطينيين - إلى قناعة بأن الواقع الذي يعيشه بين شطري الوطن هو أفضل الموجود، وبالتالي فإن تكرسيه هو الحال المرتجى والمأمول..!!
إذا سلّمنا بأن هناك شبه حالة سياسية تتجذر سنة بعد أخرى إلى واقع كيان سياسي فيه ملامح الدولة، أفلا يدفعنا ذلك للتفكير بالبحث عن صيغة يمكن من خلالها أن نمدَّ حبل الود بيننا وبين إخواننا في الطرف الآخر، بهدف التنسيق والتعاون للتخفيف من معاناة شعبنا، والذي يوشك الاحتلال والحصار وتردي الحال في دول الجوار أن يزهق روحه.؟
لقد أسعدتني زيارات بعض الإخوة الوزراء من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، ومساعيهم في البحث عن صيغة للتعامل في مساحات المشترك، وخاصة في المجالات التي تتطلب تعاوناً وتنسيقاً عاليين لتداخل أوجه الدعم الخارجي لها، مثل: الصحة والتعليم والشئون الاجتماعية، وربما لاحقاً فضاءات أخرى تحمي مستقبل الشباب وتسهم في ضبط إيقاع حياتنا المجتمعية.
في غابر الأزمان القريبة كانت هناك صيغ للتعايش والارتباط بين الشعوب، فرضت عليها نوعاً من التعاون والتنسيق لتحقيق العيش المشترك، وقد تمكنت تلك الشعوب، من تطوير أشكال العلاقة تلك لتصبح على ما تشاهده اليوم من أوضاع الدول، أي على الصيغ الكونفدرالية أو الفيدرالية التي أعادت بناء تركيبية الشعوب لتخلق منها أمَّة؛ لها ما يجمعها ويوحدها.
وإذا كانت المقارنة غير صائبة في مثل حالتنا الفلسطينية، إلا أنيَّ في هذا التحليل أميل – تجاوزاً - إلى التطرف في توصيف الحالة، والبحث بعد ذلك على ما يردنا إلى الصواب، حتى يجتمع الشمل ونعيش مشهد الشعب الذي ربطته حبال التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والثقافة والحضارة لأكثر من خمسة آلاف سنة، وهو اليوم –للأسف- يترنح للسقوط في الدرك القاتل من الانقسام والتشرذم وغياب صحوة العقل في الراشدين من قياداته وأبناء فصائله الوطنية والإسلامية.
إن خطوة التواصل مع الضفة الغربية من خلال هذه الزيارات التي بدأ يقوم بها بعض الوزراء وبتشجيع مُقدَّر من الأخ الرئيس أبو مازن وتفهم مشكور من الحكومة في قطاع غزة، وهو - إن شاء الله - بداية الوعي لما نأمله ونتطلع إليه في عودة المياه إلى مجاريها، والشعب لقيادته، والوطن لأهله.
من ناحيتي, وكما كنت مبادراً مع آخرين في ساحة غزة، بذلوا جهداً مع جنود مجهولين كثر تحركوا لجعل هذا الحلم حقيقة، ونزع الألغام لتمهيد الطريق لمثل تلك الخطوات، والتي سنرى أثرها في الشهور القادمة انفراجاً في أوضاعنا الداخلية، وإيجاد مخارج للكثير من مشاكلنا الحياتية، وترميماً لجراحات الماضي الذي نكأناه بأيدينا أكثر من مرة كلما قاربت على التشافي, وأوشكنا أن نطوي صفحاتها.
في ضوء ما تقدم، كنت ولا زلت أتمنى مع الكثيرين أن نتشرف بزيارة د. رامي الحمد الله؛ رئيس الوزراء المكلف، إلى قطاع غزة، والجلوس مع إخوانه في فصائل العمل الوطني والإسلامي للتشاور معهم ومدارسة إمكانية تشكيل حكومة شراكة وطنية، حيث إن الأجواء والمناخات الآن مهيئة أكثر من أي وقت مضى، فالسنوات الست العجاف التي قضيناها كشعب بحكومتين، وكنا فيها في حالة مزرية من الضعف والتشتت، تفرض علينا إعادة النظر والاستدراك للخروج من "سمِّ الخياط" إذا استدعت المكابدة ذلك.
قناعتي أن الجميع يريد أن تتحقق المصالحة وأن ينتهي الانقسام، ولكن – للأسف- كلٌّ له رأيه ورؤيته، ويريد أن يأتي الآخر صاغراً إليه أو وفق شروطه، كلُّ طرف لا يعرف كيف يقدم خطوة أو خطوتين للخلف ليعين أخاه على التقدم نحوه، ثم يمضى الطرفان في قفزة واحدة كاسبة للأمام (Win- Win Situation) .
إن تعقيدات الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة تجعل إمكانيات تحقيق المصالحة دفعة واحدة أمراً بالغ الصعوبة، وذلك لحجم التدخلات الخارجية وأجندات البعض هنا وهناك.. من هنا، تأتي قيمة تلك الزيارات لبعض إخواننا من وزراء الضفة الغربية وحفاوة اللقاء بهم من إخوانهم في قطاع غزة، فالاتفاق على العمل المشترك يعتبر بمثابة البلسم لجرحنا المفتوح منذ أكثر من ست سنوات، واشراقة ضياء في عتمة نفق الحيرة والضياع، والذي يبدو أن البعض مازال يتخبط فيه، ولا يبدي رغبةً جادة في مسعى الخروج منه.
نداء عاجل..
لأخي الرئيس محمود عباس (أبو مازن) ولمسئولي السابق رئيس الحكومة الأخ إسماعيل هنية (أبو العبد) أتوجه بالنداء الحار لاستمرار تشجيع كل خطوات التواصل بين الضفة والقطاع، بما يحقق كافة أشكال التعاون والتنسيق الذي يجدد الحياة ويبعث الأمل في نفوس أبنائنا جميعاً في شطري الوطن، وينقلنا من حالة المراوحة في المكان إلى واقع التحرك - بإيجابية - داخل ساحاته المشلولة وأركانه المعطلة.
وإذا أخفقنا في السابق في تكييف علاقاتنا - كأكبر تنظيميين داخل الساحة الفلسطينية - بشكل مثمر للشعب والقضية, فإن ما نشاهده اليوم من كوارث الربيع العربي هو ما يدفعنا – قبل غيرنا- للبحث عن دوائر المشترك وإشغالها بتوافقاتنا الوطنية، حتى نحمي مشروعنا الوطني وأهداف شعبنا ومصالحه الوطنية العليا من التبدد والضياع.
وإذا كانت الكنفدرالية - بطبعتها الفلسطينية الخاصة جداً - يمكنها أن تحقق لشعبنا ما يطمح إليه من تواصل على طريق المصالحة، وتعاون في سبيل تخفيف حجم الأعباء وقهر حالة الاحباط التي سدَّت واجهات المستقبل في وجه شعبنا، وأنهكت عريكته، فأهلاً وسهلاً بها، وألف تحية لمن يبادر ويتخذ الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.
لهذا فإن شكل التواصل والتعاون والتنسيق الذي نطلق عليها - تجاوزاً - وصف "الكونفدرالية"، ونتمنى تهيئة أفضل الأجواء لديمومته واستمراره كي نطوي صفحة الأحداث الدامية التي فرقتنا في يونيه 2007م، ونعيد ترتيب واقعنا السياسي بشكل يسمح لنا - من جديد - بقيام انتخابات برلمانية ورئاسية، لا يستطيع تعطيلها فصيل أو أن يقف محتجاً عليها أحد.
ربما اليوم هناك فرصة لتمهيد الطريق أمام تلك الانتخابات، وذلك بالتوافق على تشكيل مجالس بلدية يتمثل فيها الجميع من ناحية، ويضع كل طرف جهده وماله للنهوض بها من ناحية ثانية، كمقدمة لتهدئة الخواطر وتعويد الجميع على العمل المشترك في سياق المصلحة الوطنية العليا.
وتأسيساً على ذلك، علينا العمل لبناء مؤسساتنا الوطنية واحدة تلو الأخرى، ولتكن البلديات والمجالس المحلية هي البداية والمنطلق.. ثم علينا - كذلك - أن نفتح الأبواب لاستيعاب كل من غادر الساحة مستنكفاً أو فصل من عمله على خلفية تنظيمية أو حزبية، كما أن علينا معاودة التأكيد على أن الوطن مداخله مشرعة بالتحية والترحاب لكل أبنائه.. ومن ضاقت عليه الرحمة والأمان والعيش بكرامة في دول المحيط والجوار فدار أهله أحق به؛ نتقاسم معه لقمة العيش وشربة الماء، وأن الساحة التي تأوينا إذا اتسعت أخلاق الرجال - بإذن الله - تأويه.
ختاماً: وللأمر الواقع ضروراته
نصيحتي لأبناء شعبي من أصحاب الحناجر والعواطف المتقدة أن يعودوا لأنفسهم أو يُعوِّدوها على استخدام لغة العقل والمنطق؛ فالأصوات العالية منكرة، وغالباً ما يقابلها الطرف الأخر باللامبالاة، وقديماً كانت العرب تردُّ باستخفاف على من يتوعدها بالتهديد، بالقول: "زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مربع"، فنحن لسنا بحاجة للمبالغة في التهديد وهمهمة الوعد والوعيد، بل للقول اللين الذي يحوز الرضى ويُقرِّب القلوب، ولا يعطي الفرصة للحقد أن يكشر عن أنيابه أو للكراهية أن تظهر أو تبين.
إن ما هو معلوم في علم السياسة أن النظام الكونفدرالي هو بناء علاقة تعاون وتنسيق بين نظامين سياسيين مستقلين، لتوحيد ما لديهما من إمكانيات وقدرات وتعزيزها لصالح الطرفين، وهي حالة غير متوفرة لنا كفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.. ولذا، فنحن عندما نتحدث عن كونفدرالية فلسطينية فهذا - فقط - من باب التفكُّه أو التبكيت، لأننا في واقع الحال وأمام القانون الدولي مازلنا شعب تحت الاحتلال، وأن ما حصلنا عليه من مكانة الدولة بصفة مراقب ليس له - في الحقيقة - أي قيمة عملية على الأرض، التي تسرح بها إسرائيل وتمرح؛ تصادرها حيناً وتقتلع أشجارها وساكنيها حيناً آخر.
للأسف، لقد عجزت حكمتنا السياسية – حتى اللحظة - في جَسرِّ ما انقطع بيننا من تواصل وما تمزق من حواصل.. من هنا، تأتي تطلعاتنا وتفاؤلنا بأهمية تكثيف مثل هذه الزيارات والتفاهمات، وأن يقوم كلُّ طرف بمدِّ يد العون باتجاه أخيه، بأمل النجاح في بناء نظام سياسي يتحرك – على الأقل - بديناميكية كونفدرالية.


