منذ أن طرحت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في عهد بوش الابن، كوندوليزا رايس مقولتها حول الشرق الأوسط الكبير، والفوضى الخلاقة، وناس الشرق الأوسط عموماً، لا يدركون بالضبط ما الذي تعنيه، وظل المحللون والمراقبون يتكهنون بما تنطوي عليه تلك المقولة من اتجاهات عمل ومخططات وتفاصيل.
لقد كانت المنطقة عموماً، خاضعة للهيمنة الأميركية، وكانت تتمتع بقدر من الهدوء والاستقرار، إلا ما يحصل على الجبهتين الإسرائيلية واللبنانية والإسرائيلية والفلسطينية. ربما فاتني، أو أن محدودية اطلاعي، هي ما تدفعني للقول إن أحداً لم ينشر أي وثيقة أميركية أصلية، تشير إلى ما ذهبت إليه رايس، لكن بعض الإشارات، والأحداث في المنطقة، قد ألهمت البعض لوصف ما نطقت به رايس، على أنه "سايكس بيكو" جديد.
حتى الآن لا أعلم أن ثمة وثيقة من هذا النوع، لكن الأحداث الجارية في المنطقة، منذ مطلع العقد الماضي، تشير إلى ما تعنيه رايس، كعنوان لإستراتيجية أميركية جديدة، تستهدف فك وإعادة تركيب المنطقة، بما يضمن، ثبات وتوسع المصالح الأميركية لعقود طويلة، ورهنها بالكامل للإرادة الأميركية، مما يستدعي أيضاً:
أولاً: بقاء إسرائيل، الدولة الأقوى، والأكثر مناعة، والأقدر على أن تكون الذراع الطويلة التي تلعب دوراً أسياسياً، في وأد أية محاولات لتغيير الواقع، من قبل قوى ثورية عربية. لقد انكفأت إسرائيل في السنوات الأخيرة، بل إنها أصبحت تحت تهديد جدي من قبل قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتصاعد الدور الإيراني.
ثانياً: قطع الطريق أمام أي محاولات من قبل روسيا والصين، لإعادة تجديد دورهما، وبناء تحالفات جديدة في المنطقة، بل ومحاصرة هاتين الدولتين، اللتين تشهدان تطوراً بما يؤدي إلى تهديد الهيمنة الأميركية في العالم، والعودة بالعلاقات الدولية إلى زمن التنافس، والحرب البادرة.
لا بد من ملاحظة الدور الأميركي الأوروبي، في حروب البلقان واستمالة دول وسط آسيا، والهند وباكستان، إلى ما يجري في المنطقة العربية، بهدف تطويق كل من روسيا والصين، ولضمان السيطرة على منابع النفط، والغاز، وطرق إمداده.
ولأجل ذلك، خاضت الولايات المتحدة، وحلفاؤها حروباً لم تتوقف، ونشرت قواعدها العسكرية في كل مكان استطاعت فيه أن تفعل ذلك. إن الولايات المتحدة، لا ترغب في أن تتكبد موازنات ضخمة لبسط سيطرتها ونفوذها، ولضمان مصالحها، فالخيار الأفضل والأقل تكلفة هو في أن تعتمد على وكلاء موثوقين للقيام بذلك.
ثالثاً: لا توجد خطوط حمر أو محرمات لدى الولايات المتحدة، من أجل ضمان مصالحها، فلقد ضحت بأقرب حلفائها من الزعماء العرب، وأشدهم ولاءً، عبر تجارب طويلة، ولذلك فإن إستراتيجياتها تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير والفوضى الخلاقة، لا تستثني أي دولة من دول الشرق الأوسط، بما في ذلك تلك التي تعتقد أنها على علاقة جيدة مع الولايات المتحدة.
رابعاً: تقتضي مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، بأن ما يجري تفتيت الوحدات الجيوسياسية الكبيرة في المنطقة، والمرشحة لأن تحتفظ للعرب أو أي دولة عربية، بقدر من قوة التأثير والاستقلالية، خصوصاً الوحدات الكبيرة مثل مصر والسعودية والعراق وسورية.
خامساً: إن إنهاء وليس حل القضية الفلسطينية، لصالح الدور الإستراتيجي الذي أنشئت إسرائيل من أجله، لا بد من منع أي دولة عربية من امتلاك القدرة على التهديد، ونحو تهيئة الأوضاع العربية، لتحمل أعباء معالجة هذه القضية، أي ما دأب المفكر العربي محمد حسنين هيكل على تسميته بالحل الإقليمي.
يقضي الحل الإقليمي للقضية الفلسطينية، بأن تسمح الظروف بتوسيع قطاع غزة على حساب سيناء المصرية، وإقامة الدولة الفلسطينية التي عليها أن تستوعب اللاجئين في سورية ولبنان. عملياً فإن هذا المخطط يتطابق مع الرؤية الإسرائيلية، التي تعرف باسم خطة الانطواء، التي تقضي باحتفاظ إسرائيل بالقدس كاملةً، وبنحو ستين في المئة من الضفة الغربية، يزاح ما تبقى منها باتجاه الأردن.
إذا كانت هذه هي ملامح ما يعرف بإستراتيجية الفوضى الخلاقة، والشرق الأوسط الكبير، التي تشير إليها وقائع الأحداث في المنطقة، فإن ثمة سؤالاً كبيراً بشأن مدى وأبعاد الدور الأميركي في أحداث الربيع العربي. لقد كان الدور أساسياً في العراق، وفي اليمن وفي السودان، الذي شهد انفصالاً لا يبدو أنه الأخير، وفي ليبيا وسورية، ويتضح أكثر فأكثر إزاء الأحداث الجارية في مصر.
إن على من يتجاهل ذلك، أن ينظر بتمعن إلى خارطة المنطقة. الفلسطينيون منقسمون على أنفسهم، والعراق وحدته الإقليمية مهددة، عدا أنه لم يعد يشكل تهديداً لإسرائيل. وسورية النظام والدولة تخضع لعملية تهشيم وتدمير منهجية، وليبيا مهددة وحدتها الجغرافية من خلال النزاعات القبلية الانفصالية.
أما في مصر، فقد فوجئنا بتوزيع بيانات على نطاق واسع، تدعو الناس للتوقيع في إطار حملة ما يسمى بانفصال الصعيد، الذي يشكل 60% من أرض مصر، و50% من سكانها. ليس هذا فحسب، بل إن الأخطر هو ما تشهده سيناء من أعمال عنف، في ظل "الفيتو" الإسرائيلي، الذي يمنع بموجب اتفاقيات كامب ديفيد، الجيش المصري من أن يقوم بما يتوجب القيام به، وهو قادر على حماية الأراضي المصرية.
إن هذا هو ما يفسر السعار الأميركي والغربي تجاه التطورات التي تشهدها مصر، باعتبار أن نجاح خارطة الطريق المصرية، تشكل العامل الأبرز، والأقوى في مواجهة مخططات تفتيت المنطقة، والأبرز والأقوى في إفشال الإستراتيجية التي تحدثت عنها كوندوليزا رايس. وهذا أيضاً هو ما يفسر الموقف التاريخي، الحاسم والقوي، الذي اتخذته المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات، والدول العربية الأخرى، التي وقفت وتقف إلى جانب مصر، منذ أن وقع التغيير الأخير.
وفي الواقع، فإن الانحياز إلى مصر، أو ضدها، قد أصبح يشكل معيار الإخلاص الوطني والقومي، وفي الأخير نقول، إن من لا خير له في أهله، لا خير له في الآخرين، وطالما أن الولايات المتحدة لا تسعى إلا وراء مصالحها ومصالح إسرائيل، فإنها بسهولة يمكن أن تضحي بأقرب الحلفاء، كما ضحت بهم في قريب الأيام.


