خبر : مصر: ثلاث مهمات متكاملة ...بقلم: علي جرادات

الأربعاء 21 أغسطس 2013 12:12 م / بتوقيت القدس +2GMT





في تاريخها الحديث مرت مصر بتجربتين أساسيتين للنهوض. قاد الأولى محمد علي بينما قاد الثانية عبد الناصر. وبثورة 25 يناير 2011 سقط رأس النظام القائم ودخلت الحركة الوطنية الديمقراطية الشعبية المصرية في محطة نوعية من الصراع مع قوى محلية وخارجية تصر على استبقاء مصر تابعة وخاضعة لمشيئة نظام السيطرة الإمبريالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة. على سلَّم هذا الصراع المعقد صعدت جماعة "الإخوان" إلى منصب رئاسة مصر، ساعدها في ذلك ما حظيت به من دعم غربي، أميركي أساساً، وما عقدته من تفاهمات ملغومة مع "المجلس العسكري" للجيش، وما حازته من تأييد سياسي وطني غرضه الحيلولة دون فوز مرشح النظام المُطاح، وما رفعته من مشروع لـ"نهضة" مصر، وما وعدت به من نأي عن "المغالبة" والتفرد بالسلطة. لكن قيادة الجماعة-بسرعة البرق- تنصلت من وعودها وتعهداتها على المستوى الوطني، بينما التزمت بما قطعته على نفسها للولايات المتحدة وبقية الدول الغربية، من وعود وتعهدات، تستحيل معها- بلا أدنى شك- نهضة مصر المشروطة بإخراج مصر من نظام العولمة الليبرالية الفجة المتوحشة، الذي كان نظام مبارك-بعد السادات- قد زجها فيه لعقود أفضت إلى تفكيك منظومة مصر الانتاجية وإلى تخريب قطاعها العام لمصلحة تنمية غنى شرائح مضاربي رأس المال المالي وسماسرة رأس المال العقاري ونصابي شركات رأس المال التجاري العامل جلها مقاولاً من الباطن للاحتكارات الرأسمالية الغربية الإمبريالية، وجلها وأقواها أميركية، مع ما رافق ذلك من شهادات حول معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي في مصر، قدمتها، ولا تزال، الأدوات الاقتصادية لنظام السيطرة والنهب والتحكم الغربي، وهي: منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدوليين. شهادات خادعة ومضللة، ذلك أن هذا النمو كان نمواً هشاً ومعرضاً للتراجع ومصحوباً بارتفاع مذهل في مستويات البطالة والأمية واللامساواة بين أغلبية ساحقة تعيش حالة فقر مدقع وأقلية تعيش حالة ثراء وفساد فاحشين، ما جعله نمواً قابلا للانفجار، وقد انفجر بالفعل في ثورة 25 يناير 2011، ذروة انتفاضات شعبية سبقتها، ومهدت لها، وعكست اختمار شروطها الموضوعية، حيث استغرقت مصر لأربعة عقود في حالة من الردة، والاستسلام لمتطلبات الليبرالية المعولمة والإستراتيجية الأميركية، وتآكل دورها الفاعل في السياسة عربياً وإقليمياً. وهو الدور الذي احتله حليف الولايات المتحدة الإستراتيجي الوحيد، إسرائيل، وبصورة أقل عضو حلف الناتو، تركيا.
هنا حريٌ التذكير بأنه كان بين الأقلية المصرية المتخمة عدد من رجال المال والأعمال والتجارة ممن ينتمون أو يناصرون أو يقودون الـتنظيم الدولي لـ"الإخوان". فقد صار معروفاً أن "الإخوان" بعد صراعهم مع التجربة الناصرية، قد "تفرقوا أيدي سبأ"، عندما رحل الكثير من قياداتهم وأعضائهم إلى دول الخليج العربي وأوروبا الغربية وأميركا الشمالية، وبنوا تنظيمهم الدولي من قيادات اعتبارية تقدم لمركز الجماعة في مصر المشورة والدعم السياسي والإعلامي والمالي، إذ لم يعد مخفياً أن لدى الجماعة، مثلاً، بنك في جزر الباهاما. وفي كتاب يحمل عنوان "الملعوب" كشف الشهيد فرج فودة مصادر تمويل وآليات تنمية تمويل "الإخوان" وحركات "الإسلام السياسي" عموماً، بينما صار معروفاً لكل مهتم أسماء شركات "الإخوان" التي وظفت الأموال في مصر، منها، مثلاً، شركة "الريان"، وشركة "السعد"، وشركة "البركة"، وشركات أخرى تحولت إلى إخطبوطات مالية لدرجة أن تصبح مصدر إقراض للحكومة المصرية، قبل أن يتنبه لها وينهيها نظام مبارك في تسعينيات القرن الماضي، إنما بعد أن امتصت الكثير من أموال المصريين مقابل تقديم فوائد أعلى مما تقدمه البنوك، وأفقرت عبر النصب والاحتيال حوالي 2 مليون مصري تحت غطاء "شرعي"، يطلق عليه "عقود المرابحة" أو "الصكوك الإسلامية".
إذاً لا غرابة في أن يصحح الشعب المصري مسار ثورته ويطلق موجتها الثانية في 30 يونيو الماضي التي أطاحت سلطة مرسي و"جماعته" بوصفها مجرد جملة معترضة في تاريخ مصر الحديث وتاريخ نضالها الوطني المعاصر الذي لم يتوقف عن محاولات استعادة وتجديد ما بنته التجربة الناصرية على تجربة محمد علي، من نظام سياسي اقتصادي اجتماعي، اعتمد، (رغم ربع كأسه الفارغ)، سياسة انتاجية، اعتمدت التصنيع وإعادة توزيع الدخل لمصلحة الطبقات الوسطى والشعبية، مخرجاً مصر بذلك من نظام تقسيم العمل الدولي الذي حشرها في دور المُصدر للقطن. وهو الدور الذي قبلت به مصر الخديوية بعد أن قضت دول الاستعمار الغربي ومعها الإمبراطوريتان العثمانية والروسية على حكم محمد علي ومحاولته بناء دولة عربية حديثة قوية ناهضة ذات تأثير ونفوذ فاعلين إقليمياً ودولياً.
على ما تقدم كان من المنطقي ألا تدوم سلطة مرسي أكثر من عام. فما أقامه كرئيس لمصر من "زواج" مع "جماعته" ومرشدها العام، يعيد للذاكرة تجربة عز الدين آيبيك، قائد الجيش المملوكي أيام الدولة الفاطمية، الذي تزوجته شجرة الدر من أجل أن تحكم مصر باسمه، لكن حكمها لم يدم سوى مدة وجيزة، حيث ثار عليها المصريون وقتلوها. أما انحياز الجيش المصري لإرادة شعبه في 30 يونيو الماضي، فيذكِّر بخصوصيته، بل، بفرادته، قياساً بغيره من الجيوش العربية، بوصفه مؤسسة وطنية، وجيشا لدولة وركناً أساسياً من أركان بنائها في تاريخها الحديث، بل ولاعباً أساسياً في مجابهة المس باستقلالها الوطني واستقرارها، ما يفسر تعلق المصريين بجيشهم وتسميته بـ"جيش محمد علي" تارة، وبـ"جيش عرابي" تارة ثانية، وبـ"جيش عبد الناصر" تارة ثالثة، حيث ساهم في بناء الدولة المصرية الحديثة، سواء عندما قام محمد علي بإعادة بنائه وتحديثه وتقويته بهدف الوصول إلى منابع نهر النيل وضم السودان للسلطة المصرية وإلى بلاد الشام ونجد والحجاز لبناء دولة عربية حديثة قادرة، أو عندما تمرد أحمد عرابي على الأوامر الخديوية القاضية بعدم مواجهة قوات الاستعمار الإنجليزي، وواجهها في معركة التل الكبير في العام 1982، أو عندما قاد عبد الناصر حركة "الضباط الأحرار" وأطاح حكم آخر ملوك مصر، فاروق، مطلقاً بذلك ثورة 23 يوليو 1952 التي التف حولها الشعب المصري وحقق من خلالها انجازات وطنية وقومية واجتماعية لا يمكن إنكارها رغم ربع كأسها الفارغ الذي سهل ارتداد نظامي السادات ومبارك عليها. وهما من دخل معهما الجيش المصري في حالة صراع معلن حيناً ومكتوم حيناً آخر، ارتباطاً بتهميشهما لدوره لمصلحة تقوية دور قوى الأمن الداخلي، بعد اعتماد سياسة "حرب 1973 آخر الحروب" التي لم يقبل بها، بل وناهضها أحياناً، أكثر من وزير دفاع وقائد جيش، بدءاً بوزير الدفاع، محمد فوزي، الذي سجنه السادات ضمن حملة تصفية "مراكز القوى"، مروراً بوزير الدفاع، محمد صادق، الذي اختلف مع قرار السادات طرد الخبراء السوفييت، عرجاً على رئيس أركان الجيش، سعد الدين الشاذلي، الذي اختلف مع السادات وسياسته قبل الحرب وبعدها، وتم عزله وفرض الإقامة الجبرية عليه ثم نفيه إلى الجزائر، وصولاً إلى وزير الدفاع، محمد عبد الغني الجمسي، الذي استقال احتجاجاً على اتفاق فك الاشتباك المعروف باسم باتفاق "الكيلو 101". هذا بينما أنهى مبارك خدمة وزيرين للدفاع، هما: عبد الحليم أبو غزالة، وكمال حسن علي. ولم تستقر الأمور إلا بمجيء المشير طنطاوي الذي يبدو أنه، رغم رفضه مسألة توريث السلطة، إلا أنه رضي من الغنيمة بالإياب.
بقي القول: كل ما تقدم يدفع باتجاه دعم الشعب المصري لجيشه في مواجهة العنف والإرهاب، إنما مع استمرار ممارسة الضغط على الحكومة الانتقالية المدعومة من الجيش بهدف تحقيق مطالبه في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. فالشعب المصري اليوم يقف أمام مهمات ثلاث متكاملة، هي: " التصدي للإرهاب والعنف التكفيري"، و"تحقيق جرعة مركزة وعاجلة من العدالة الاجتماعية"، و"استعادة الاستقلال والسيادة الوطنيين". هكذا يرى الأمر ويصوغه القائد الوطني والقومي التقدمي، حمدين صباحي.