العام الماضي أمضيت شهرين في مصر للتعرف على الحركات الشبابية التي فجرت ثورة 25 يناير..كانت أجواء الانتخابات الرئاسية وكانت هنالك حالة استقطاب سياسي كبيرة.. جزء من معسكر الثورة ضد الإخوان بسبب تحالفهم مع "الجيش" بعد سقوط مبارك وكان يدعون لمقاطعة الانتخابات.. أما الجزء الآخر فهو على استعداد للتعاون مع الإخوان بغض النظر عن تحالفهم السابق مع الجيش بهدف حرمان نظام مبارك من العودة للسلطة عن طريق الانتخابات.. كانت هذه هي الأجواء عندما التقيت بتسعة من نشطاء شباب الإخوان وكان موقف قوى الثورة منهم هو موضوع حوار دائم بيني وبينهم.. ستة منهم كانوا أعضاء عاملين في التنظيم، أما الثلاثة الآخرون فقد كانوا قد تركوا التنظيم بسبب تأخر مشاركة التنظيم في الثورة.
أربعة من بين الستة المنتظمين في الإخوان، قالوا بأنهم قد رفضوا مواقف قيادات تنظيمهم التي دافعت عن سلوك الجيش وتركته ينفرد في شباب الثورة في شارع محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية.. قالوا بأنهم لم يتخلوا عن أصدقائهم من شباب الثورة وشاركوا معهم في تلك الأحداث لأنهم يعتقدون أن الثورة قد جعلتهم "ذهنياً" أقرب الى سلوك شباب الثورة المغامر من التنظيم الإصلاحي الذي ينتمون له.. لكن الأيديولوجيا في النهاية، الرغبة في رؤية "الحلم الإسلامي" يتحقق- دولة العدل بحسب قول أحدهم- هي ما تبقيهم في التنظيم.. أحدهم قال لي.. هذا التنظيم بقيادته المحافظة يجب أن يتغير.. يجب أن يصعد الشباب الذي لم يتلوث بصراع الأيديولوجيا الى قيادة التنظيم.. في تقديره.. القمع الذي تعرض له الإخوان منذ أيام عبد الناصر، قد جعل التنظيم في رعاية قوى محافظة تصارع على البقاء في وجه حملة أمنية قاسية، وما كان بالإمكان الحفاظ على التنظيم دون اعتماد مبدأ أهل الثقة في اختيار القيادات حتى لو كان هؤلاء هم الأقل كفاءة وفهماً لمحيطهم.. المهم أنهم الأكثر ولاءً وقدرة على حماية أسرار التنظيم.. كان متفائلاً بأن الوقت يقترب بسرعة من تحقيق هذا الهدف.. قال لي: انتظر الى حين انتهاء انتخابات الرئاسة وبعدها سنعمل على تغيير التنظيم.. الديمقراطية بالنسبة لهم ليست مجرد طريق للوصول الى السلطة بل طريق لتبادلها وما تفرزه الصناديق يتم الالتزام به.
اثنان ممن التقيتهم كان لديهم إيمان أعمى بقيادتهم.. "القيادة لا تتخذ قراراتها بناء على تحليل كما نفعل نحن، ولكن بناء على معلومات وعلينا أن نحترم ذلك لأنها صادرة من جهات تعلم وتقرر بناء على ما تعلم"..القيادة ليس مثلنا، قال أحدهم.. نحن نتحرك بناء على ما يبدو لنا بأنه الحقيقة..القيادة تتحرك بناء على معلومات مؤكدة. الإخوان في كل مكان في مصر والمعلومات تصل الى القيادة ويتم التأكد منها وتحليلها ويتم اتخاذ المواقف بناء عليها.. لا على المشاعر كما نفعل نحن.. هؤلاء كانوا أبعد ما يكون عن قوى الثورة.. كانت نظرتهم استعلائية للآخرين وعدائية لهم.. صندوق الاقتراع بالنسبة لهم لم يكن أكثر من ممر إجباري للتمكين، ولو كان بالإمكان الحصول على الشرعية بدونه لتم تجاوز هذا الممر دون أن تذرف عليه دمعة واحدة.
الثلاثة الذين تركوا الإخوان خلال الثورة.. تركوها لأنهم شعروا بأن قيادتهم قد خذلتهم.. هم كانوا في الصفوف الأولى في الثورة.. من الذين خططوا للتظاهرات والمسيرات يوم 25 يناير.. هم شعروا بأن نزول الإخوان الى الشارع يوم 28 يناير كان سلوكا انتهازيا لا ينسجم مع القيم الإسلامية لأن الثورة كانت قد نجحت فعليا في إقناع الناس بها ونزول الإخوان لم يكن ليغير شيئا.. في تقديرهم كان على قيادة الإخوان أن تأمر بالمشاركة يوم 25 يناير.. هذا السلوك "الانتهازي" من قبل القيادة، وقربهم من الحركات الثورية التي نسقوا معها للتظاهرات هو ما دفعهم لترك الإخوان.. لم يلتحقوا بتنظيمات أخرى لأنهم لا يتفقون معها أيديولوجيا.. بالنسبة لهم الإخوان تنظيم إسلامي ولكنه لا يمثل الإسلام، ولا يوجد تنظيم يمكنه ادعاء تمثيل الإسلام.. ما يهمهم في الديمقراطية هو محتواها.. هل ستنتصر للفقراء التي قامت الثورة من أجلهم.. بهذا يتفق هؤلاء ويقتربون أكثر في فهمهم لمسألة الحكم من اليسار الثوري الماركسي.
هذا الصراع الفكري في تنظيم الإخوان كان نتيجة خروج التنظيم من العمل السري الى العلن.. من العمل تحت القمع وسلطة البوليس، الى العمل في فضاء مفتوح وحر.. الديمقراطية كانت تتقدم.. ببطء وتثاقل لكنها كانت تتقدم حتى داخل تنظيم محافظ بحجم الإخوان..كان الأمل هو أن يستمر هذا التقدم وأن يختبر الناس سياسات الإخوان وبرامجهم.. وأن يختبر شباب الإخوان قدرات وطريقة تفكير قياداتهم.
نجاح الإخوان أو فشلهم كان سيعزز في النهاية المسار الديمقراطي.. الفشل كان سيزيد من حدة الصراع داخل التنظيم لصالح القوى الديمقراطية فيه.. والنجاح كان سيعزز من فكرة أهمية الالتزام بما تفرزة صناديق الاقتراع لأن النجاح كان سيعيد الإخوان الى السلطة من بوابة الانتخابات مجدداً.
الانقلاب العسكري .. وبعده مذبحة رابعة والنهضة .. والدماء التي تنزف في كل مكان ..أجهزت على الحلم بإمكانية التحول الديمقراطي.
الإخوان التسعة اليوم لم يعودوا مختلفين.. الثلاثة الذين تركوا تنظيم الإخوان عادوا إليها دفاعاً عن "الشرعية".. والأربعة الذين اختلفوا مع قيادتهم لكنهم فضلوا البقاء في التنظيم يتحدثون اليوم عن معركة تستهدف وجودهم ككل.. أما الاثنان المحافظان فقد أصبحا في تفكيرهما أكثر عداء وحقداً على كل ما هو غير إسلامي.. أقرب في فكرهم الى تنظيم القاعدة منه الى الإخوان.
الدماء تستدعي الدماء والأخيرة تستدعي دماء أكثر وخلال كل ذلك يغيب العقل وتختفي الحكمة وصوت الرصاص والكراهية يعلو على صوت المنطق.. وخلال كل ذلك لا يعود مهماً من الألوان غير الأبيض والأسود.
يصرخ الليبراليون العرب.. الإسلاميون اقصائيون.
وجزء منهم كذلك وأكثر.. جزء منهم يسترخص الدماء، كل الدماء.
لكن دعونا نتذكر أن الليبراليين هم من أقصوا الإسلاميين فعلياً في كل مكان في العالم العربي شهد انتخابات حرة ونزيهة وليس العكس.. وهم من جعل الدماء رخيصة الى هذا الحد.
دعونا أيضا أن نكون صادقين للحظة..إقصاء الإسلامين لم يتم على أرضية الخوف من أنهم لن يغادروا السلطة عبر الانتخابات التي أتوا من خلالها للحكم..هذه كانت الذريعة.. لكن الحقيقة أن الليبراليين لم يتعودوا أن يعيشوا بعيداً عن السلطة.
حمى الله مصر وبلاد العرب جميعها من جموح نخبها نحو الجنون.


