بمن الطبيعي أن يتواصل على نحو مكثف، الاهتمام العربي والإقليمي والدولي بالتطورات التي تشهدها مصر لكونها الدولة العربية الأكبر، وصمام أمان الأمن القومي العربي، وصاحبة الدور الفاصل في مستقبل المنطقة العربية، وعقدة التقاء الاستراتيجيات والمصالح الدولية.
وبالنسبة للفلسطينيين فإن ما يجري في مصر يشكل العامل الإقليمي المقرر، سواء أكان يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، أو كان يتعلق بالتوازنات الداخلية واتجاهات تطور الوضع الفلسطيني.
الكل يدرك أن مصر هي التي تحدد طبيعة ومحتوى الاستراتيجيات والخيارات التي تنتظر استقرار الحراك الجاري تحت عنوان الربيع العربي، بعد أن كان ممثلو الإسلام السياسي يتحدثون عن ربيع عربي، وشتاء إسلامي، أخذوا يتحدثون عن ربيع يتلوه خريف، ثم يستدركون قولاً وعملاً أن الربيع لا يمكن إلا أن يمر بفصل صيف حار، قبل أن يبلغ الخريف.
الظاهر من القول والفعل أن الإسلام السياسي لن يسمح بالانتقال من الربيع إلى الخريف، بدون صيف ساخن جداً، تسيطر عليه لغة الانتقام والعنف، والإقصاء والاتهامات، والمقاومة الشرسة، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار والديمقراطية، ووحدة المجتمع، وسلامة الدولة الوطنية.
لقد سبق لبعض قادة جماعة الإخوان في مصر، أن صرحوا علنياً، بأنه ما لم يكن الدكتور مرسي رئيساً فإنه لن يكون هناك رئيس لمصر. المشهد السياسي المتفاعل مع التطورات المصرية ينقسم إلى ثلاثة أقسام، فثمة من استقبل هذه التطورات بارتياح ظاهر، وبتقديم الدعم السريع للحكومة الانتقالية كما هو حال السعودية والإمارات، والكويت، فضلاً عن التيارات الليبرالية والديمقراطية والتقدمية العربية، بالإضافة إلى روسيا والصين، وثمة من اصطف بسرعة إلى جانب الإخوان المسلمين، كما هو حال فروع الجماعة في الوطن العربي والعالم، سواء منهم من كان خارج الحكم أو من كان على سدة الحكم مثل تركيا وتونس والسودان، وحركة حماس.
أما التيار الثالث فإنه ينطوي على طيف واسع من الدول والحركات، ففي مصر، تقف بعض الجماعات الإسلامية إلى جانب الجماعة، أما أغلبيتها فتقف على خط الوسط مع ميل لصالح الإخوان. يضم هذا التيار خصوصاً، الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وقطر، وإلى حد ما الاتحاد الإفريقي الذي استعجل بتعليق عضوية مصر في الاتحاد، وهؤلاء مضطرون للتعامل بواقعية أكثر من أصحاب التيار الثاني، حيث أنهم يدركون استحالة عودة الأوضاع إلى الخلف، رغم أنهم في الأساس منحوا دعمهم لحكم الإخوان، لكنهم يبحثون عن مصالحهم أولاً.
من هذا المنطلق، يأتي البحث عن المصالح الخاصة ولفحص مدى إمكانية إيجاد حلول تعيد لمصر التوازن بين القوى التي تستقطب المشهد، وبأمل الاحتفاظ بعلاقة مع الأطراف المتصارعة، وقبل الانتقال إلى جانب القوة المستقبلية، هرعت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي لإرسال مبعوثين على مستويات رفيعة.
وفيما لم تنقطع الاتصالات بين نائب رئيس الوزراء، القائد العام للقوات المسلحة المصرية الفريق السيسي، مع وزير الدفاع الأميركي تشيك هاغل، فقد توافد على القاهرة، كل من وزير الخارجية جون كيري، ونائبه وليام بيرنز، وعضوي لجنة الدفاع في الكونغرس جون ماكين وليندسي غراهام.
أوروبا أرسلت المسؤولة عن العلاقات الخارجية في الاتحاد كاثرين أشتون، ثم تبعها الممثل الأوروبي لجنوب المتوسط برنار دينوليون، وبحضور وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، ووزير الخارجية القطري خالد بن حمد آل عطية، ووفد الحكماء الإفريقي، أصبح هناك ما يشبه الفريق الدولي، الذي يسعى لتوليف حلول وسط بين منطقين متناقضين كلياً، قبل أن تنتقل الأوضاع إلى مربع الصراع المفتوح.
الفارق واسع بين من يتمسك بشرعية صندوق الانتخابات، ولا يرى مخرجاً للأزمة إلا بالعودة إلى ما كان عليه الوضع قبل الثالث من تموز الماضي، مع استعداد ربما للقبول ببعض ما سبق لجماعة الإخوان أن رفضوه، وبين من يستند إلى شرعية شعبية كاسحة ترددت على الشارع مرتين في 30 حزيران، وفي السادس والعشرين من تموز، ولا يرى أي إمكانية للعودة إلى الخلف بأي حال من الأحوال.
رغم مضي كثير من الوقت على المحاولات الدولية لتعديل خارطة الطريق، التي فرضها الحكم الجديد، بدعم شعبي واسع، إلا أن الأمور لم تتحرك، ذلك أنه كان لابد لتسهيل التوصل إلى حل، من أن يجري الإقرار مبدئياً وعملياً بضرورة نبذ العنف، ووقف كل أشكال ممارسته من القول إلى الفعل.
إن استمرار العنف بالمستويات الجاري ممارستها في سيناء، وفي المحافظات المصرية، واستمرار نزيف الدم، من شأنه أن يزج المجتمع المصري في المزيد من العنف والصراع الدموي، وبما يضخم الملف الجنائي، بحيث لا تعود السياسة قادرة على معالجة ملف القضاء.
رغم ذلك، ثمة إمكانية لحلول وسط، تقوم على مبدأ استعداد جماعة الإخوان للتكيف مع التطورات الجارية، ونحو الانخراط في العملية والحياة السياسية، لتمارس دورها كمعارضة قوية طامحة عبر صناديق الاقتراع، للعودة إلى الحكم، وإلا فإن الأمور تذهب في اتجاه صراع مفتوح، وتدخلات دولية وإقليمية، تلحق أفدح الأضرار بالتماسك الاجتماعي، وبكيان الدولة المصرية، وبما يسمح لإسرائيل الدخول من البوابات الخلفية لكي تعبث باستقرار مصر، وأمنها القومي وسيادتها.
يترتب على جماعة الإخوان في مصر أن يقرأوا الواقع بشكل جيد، فإذا كانوا يراهنون على دعم أميركي وغربي، وربما من بعض الدول العربية، فإن هذه جميعها لا تبحث عنهم، وإنما تبحث عن مصالحها، وهي لن تقف إلا مع الأقوى، والذي يمسك بمفاتيح المستقبل.
لست أدري لماذا يتجاهل الإخوان المسلمين المنطق الذي اختاره راشد الغنوشي، المرشد العام لحركة النهضة التونسية، الذي أتيحت له فرصة الاستفراد بالحكم، لكنه آثر إقامة تحالف ثلاثي، ثم أنه هذه الأيام، يبدي استعداداً للجوء إلى الاستفتاء الشعبي.
قد تنجح حركة النهضة أو لا تنجح، لكنها أدلت بعمق، طبيعة التحولات الجارية في تونس والمنطقة، وأظهرت استعداداً للتكيف قدر الإمكان دون أن تتنازل عن ما تعتبره حقها في ممارسة الحكم انطلاقاً مما أفرزته العملية الانتخابية.
ثمة مكابرة، وعناد لا يشيران إلى نضوج التجربة السياسية للإخوان في مصر، إذ لا يمكن في السياسة أن تكون محكومة للونين فقط إما الأسود وإما الأبيض، فثمة ألوان أخرى ينبغي البحث واختيار أقربها إلى التوفيق بين المصلحة الفئوية والمصلحة الوطنية.
وينبغي أن يكون واضحاً لدى أصحاب القرار عند جماعة الإخوان، أن لقرارهم وخيارهم تداعيات أكيدة على وجود ودور كل فروع الجماعة في المنطقة العربية، فإما أن ينفتحوا على الحياة السياسية والمجتمعية، وإما أنهم خارج التاريخ.


