خبر : الثورة المصرية والاستقلال الوطني ...بقلم: علي جرادات

الأربعاء 07 أغسطس 2013 03:26 م / بتوقيت القدس +2GMT



رغم ممانعة شعبية لم تنقطع أبرم نظام السادات صفقة كامب ديفيد واعتمد سياسة "الانفتاح الاقتصادي"، وارتد بذلك على العهد الناصري، وضرب سياسته القائمة على الاستقلال الوطني والتوجهات القومية والانحياز للطبقات الشعبية. أما امتداده، نظام مبارك، فعمق الارتداد، وأدرج مصر كلياً في دواليب اقتصاديات "الليبرالية الجديدة" المعولمة خدمة لمصالح شرائح رأس المال المالي والتجاري والعقاري، وزجها، رغم أنف شعبها، في دور مرسوم حوَّلها إلى مجرد رديف سياسي ولوجستي للسياسة الأمريكية في المنطقة، وأفقدها موقعها المركزي عربياً، ودورها المحوري أفريقياً وشرق أوسطياً، وتأثيرها الفاعل في منظومة دول "عدم الانحياز"، عموماً. هنا تداخل الخارجي والداخلي من التحديات المصرية، وصار من غير الممكن استعادة الحق في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من دون استعادة مصر لدورها المركزي، حيث صار التصدي للتحدي الخارجي ممراً إجبارياً، وليس مجرد خيار، لتذليل التحدي الداخلي.

وبتفجر ثورة 25 يناير كقفزة نوعية مهدت لها انتفاضات شعبية عدة أصبحت استعادة مصر لدورها المركزي، عربياً وإقليمياً، إمكانية واقعية عجزت سلطة "الإخوان" عن البدء بتنفيذها فعلياً، ما يفسِّر أن تأتي موجة 30 يونيو للثورة بخطاب أكثر وضوحاً في الربط بين الداخلي والخارجي من مهام الثورة. أما لماذا؟
لقد وجد الشعب المصري نفسه في حالة تناقض موضوعي مع السياسة الداخلية لسلطة "الإخوان"، ومع السياسة الأميركية الداعمة لها بغرض استمرار حبس مصر في دور اللاعب "الصغير" خارجياً، ذلك علاوة على أن دخول الشعب المصري على الخط في 30 يونيو جاء مشحوناً بشعور من الزهو لشعب نجح في اطلاق ثورة أطاحت-بسرعة قياسية- رأس نظام سياسي استبدادي تابع، واكتشف في خضمها مقدار ما عنده من طاقات هائلة مختزنة لا يليق بها التوقف في منتصف الطريق، سواء لجهة مطالبه الداخلية، أو لجهة توقه الوطني لاستعادة مصر لدورها المركزي خارجياً. وبالمثل، وجدت الحوامل السياسية والاجتماعية الفعلية لثورة 25 يناير نفسها أمام تداخل المطلبين لدرجة أن يصبح التحدي الخارجي محركاً أساسياً من محركات خروج عشرات ملايين المصريين إلى الميادين في 30 يونيو. تجلى ذلك في ما ساد هذه الموجة من هتاف ضد الولايات المتحدة وتدخلاتها وابتزازاتها، وضد استكانة سياسة سلطة "الإخوان" أمام دول "صغيرة". كان ذلك تعبيراً عن شعور وطني غاضب امتزج بشعور اليأس من قدرة سلطة "الإخوان" على إحداث تغيير يعتد به داخلياً، ناهيك عن عدم تجرئها على اجراء أي تعديل على معاهدة كامب ديفيد أو حتى على ملاحقها الأمنية المذلة.
وكان لافتاً في هذا السياق هتاف عشرات ملايين المصريين المحتشدين في الميادين بحياة الجيش المصري وقائده العام الفريق أول عبد الفتاح السيسي بصورة تعيد للذاكرة تعلق الشعب المصري بزعيمه الراحل عبد الناصر، وبما تحقق في عهده من إنجازات وطنية وقومية واجتماعية كبيرة. لكن هذا بقدر ما يعكس سخطاً شعبياً على تجربة سلطة الإخوان" فإنه، بالقدر ذاته، وربما أكثر، يضع السلطة المصرية الانتقالية الجديدة، وقبلها، قيادة القوات المسلحة، أمام استحقاق تلبية ما فتحته زلزلة 30 يونيو من امكانية واقعية لبناء سياسة خارجية مصرية جديدة تختلف عن سابقتها في عهديْ مبارك و"الإخوان"، وترتكز، وإن في ظروف ومعطيات مختلفة، إلى أعمدة السياسة الخارجية المصرية الثابتة كما حددها الراحل عبد الناصر في كتاب "فلسفة الثورة"، وهي بالترتيب أعمدة: الدائرة العربية، معبَّراً عنها في إحياء مشروع الوحدة العربية، وفي دعم حركات الاستقلال والتحرر العربي، وفي الدفاع عن القضايا القومية للأمة، وأولاها قضية فلسطين، ثم الدائرة الأفريقية بحسبان النيل عنصراً أساسياً من عناصر الأمن القومي المصري، ثم الدائرة الإسلامية بحسبان الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات الحضارة العربية.
شكلت نظرية الدوائر الثلاث هذه مقرونة بخيار مشروع "باندونغ"، "عدم الانحياز"، مدرسة في السياسة الخارجية المصرية، تعلمت فيها أجيال من السياسيين والدبلوماسيين المصريين، وظلت مصدر إلهام للشعب المصري في رفض ارتداد نظامي السادات ومبارك عليها، ثم في رفض ما اعتمدته سلطة "الإخوان" من سياسة خارجية سارت على خطى سياسة نظام مبارك ذاتها، بل ودخلت في انحيازات جديدة ضربت أعمدة نظرية الدوائر الثلاث السالفة الذكر، وأوقعت السياسة الخارجية المصرية في سقطات "المذهبية" والفئوية وانعدام الخبرة وغياب الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع قضايا الأمن القومي المصري. وكل ذلك بما يخالف منطق تاريخ الدولة المصرية التي كانت تهديداتها الخارجية تأتي إما من الشمال الأوروبي ممثلة في الاحتلال الروماني واليوناني ثم حملة نابليون والاستعمار البريطاني، أو من الشرق ممثلة في تهديدات الفرس وغزوات الهكسوس والتتار والحملات الصليبية وصولاً إلى التهديد الصهيوني.
وكان هذا ما وعاه مبكراً، وتصرف على أساسه، كل من صلاح الدين الذي وحد مصر وسورية قبل خوض معركة حطين الحاسمة مع الصليبيين، والظاهر بيبرس الذي استبق وصول التتار إلى مصر بالزحف لمواجهتهم في بلاد الشام في معركة عين جالوت الفاصلة، ومحمد علي الذي رأى المجال الحيوي للدولة المصرية في بلاد الشام وفي الوصول إلى منابع النيل عبر ضم السودان لسلطته، وصولاً إلى عبد الناصر الذي وعى كل هذا التاريخ، بينما تجاوزه نظاما السادات ومبارك، وحالت أيديولوجية جماعة "الإخوان" وفئويتها دون قراءته قراءة موضوعية تستلهم دروسه، أهمها: المشرق العربي جزء من الأمن القومي المصري، وعروبة مصر ليست مجرد بحث في الأصول، بل معطى موضوعي وناتج حالة تفاعل تاريخي طويل، وبها تحمي مصر نفسها وتقود أمتها العربية، ما يعني أن تركيز عبد الناصر على أولوية الدائرة العربية، دون إغفال الدائرتين الإفريقية والإسلامية، في بناء أعمدة السياسة الخارجية المصرية، لم يكن ناتج شعور قومي، فقط، بل كان ناتج وعي موضوعي للتاريخ المصري، أيضاً. لقد ضعفت مصر عندما فكت نفسها عن المشروع القومي العام وكفت عن قيادته، بينما تعيش اليوم مخاضاً طويلا وعسيراً لاستعادة استقلالها الوطني ودورها القومي. وعلى السلطة المصرية الانتقالية الجديدة الاستجابة لإرادة شعبها في استعادة هذا الدور رغم ما ينطوي عليه ذلك من صدام مع قوى داخلية وإقليمية ودولية تقودها الولايات المتحدة. إذ ثمة أمام السلطة المصرية الجديدة فرصة لاستعادة الدور المركزي لمصر عربياً وإقليمياً، ذلك أن زلزلة ميادين مصر في 30 يونيو ثم في 3 و26 يوليو جعلت الداخل المصري قادراً على فرض التوافق مع مطالبه على الجميع، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي لم تعد- بعد بزرغ أقطاب دولية أخرى- قادرة على فرض إرادتها كيفما وكلما وأينما شاءت. هذا ناهيك عن أن الولايات ليست في وارد الدخول في صدام كامل وسافر مع إرادة الشعب المصري، بسبب ما ينطوي عليه مثل هذا الصدام من تداعيات على مجمل مصالحها، وعلى كامل نفوذها، عربياً وإقليمياً. فالحديث يدور عن صدام مع مصر التي يساوي استقرارها سريان الملاحة في قناة السويس، والحفاظ على معاهدة كامب ديفيد، والإمساك بمفتاح العلاقة مع الأمة العربية وشعوبها. هذا علماً أن مصر التي تعيش مخاضاً طويلاً وعسيراً لن تستقر إلا إذا شعر شعبها بقرب مغادرته لكل شروط الاستبداد والفقر والأمية وامتهان الكرامة المرتبطة بشروط التبعية وصورية الاستقلال الوطني. لقد أضعف الغرب مصر ودورها عربياً وإقليمياً، بينما ينتبه اليوم لأهمية قوتها، لكن القطار فات هذا الغرب، لأنه راهن على نظامي مبارك و"الإخوان"، فيما ينطوي الرهان على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء على اندلاع موجة جديدة للثورة.