لا يختلط علي الضحك والبكاء في موقف قدر ما يختلط عندما يعاودني ذلك المشهد من التغريبة الفلسطينية ، اثنان من رجال ابو عزمي العلي ، الاقطاعي الوجيه ، عين اعيان المنطقة، الذي عرف نفسه من البداية بأنه " صاحب كل اشي مالوش صاحب " في اشارة الى نهمه الشديد لسلب الارض والاستيلاء على الممتلكات العامة او المشاع ، كانا مسلحين بالبواريد ، واحدهما يمد يده بطربوش للفلاحين البسطاء العائدين من الحقول والبساتين والبيادر بعد يوم روت فيه قطرات عرقهم حبات رمل ارضهم ، ويقول " طربوش ابو عزمي العلي " فيخرج الفلاح المغلوب على امره ما تيسر من مال قد يكون اخر قرش من قوت عياله ، وعينه على البندقية التي يفترض انها جاهزة لتقبض روح من يرفض الدفع لاي سبب من الاسباب ، مع ان وجهة نظر ابو عزمي هي ان الرصاصة ، في تلك الايام طبعا ، اغلى من هؤلاء الفلاحين ، لكن لا يهم ، البندقية التي تقبض روح المواطن يمكن ان تقبض ثمن رصاصتها من مواطن اخر يخشى ذات المصير ..
ابو عزمي هذا كان راضيا تماما عن نهبه لقوت الفلاحين ، او ( تكشيط ) سرقة رجاله لهم تحت تهديد السلاح ، لا لشيء الا لانه يفعل ذلك في الظاهر من اجل قضية كبرى الا وهي شراء السلاح وتمويل الثورة لمقاومة اليهود والانجليز ، وايضا و حسب قوله بعضمة لسانه ، " مش بس ضد اليهود والانجليز ، كمان ضد ولاد بلدنا اللي ما بينفذوا اوامرنا ، الثورة مفش فيها نص نص ، اللي مش معي بيكون علي ، واللي علي ، انا الثورة " ..
واضح ان الثورة كانت من ابو عزمي وطربوشه براء ، لكنه يأبى بما له من صفة اعتبارية وتطلعات تتناسب مع كونه زعيم ابن زعما ، على قولة ابو عايد ، الا ان يركب الموجة حاله حال كل الانظمة في كل الازمنة .. والواضح ايضا انه لم يبق في طربوش ابو عزمي من الثورة اليوم الا الجزء الخاص بمقولته ، اللي مش معي بيكون علي ، و ... انا الثورة . طبعا الثورة اللي مفش فيها نص نص
مسلسل التغريبة الفلسطينية قد سكن روحي منذ اول مرة تابعته فيها ، ولا اذكر كم مرة شاهدته بعد ذلك ، وان احتسبت المرات التي شاركت فيها اولادي متابعة ولو اجزاء منه فسيكون الناتج انني اكاد احفظ كل مشهد فيه ، اتدرون ، انا لا اشاهد التغريبة الفلسطينية بل اعيشها ، وعندما اعود اليها في كل مرة اكون كمن عاد لزيارة اهله واقربائه في مسقط رأسه .
حاتم علي و وليد سيف وبقية طاقم الممثلين حتى الكومبارس منهم استطاعوا ان يقنعوني تماما بان ما اراه هو واقع على الارض وليس تمثيلا ، ولانني احن الى فلسطين في كل الاوقات فقد اقتنعت وعشت وعايشت ، وايضا تعلمت ، الفلاحون البسطاء الذين كانوا يسقطون قرشا او نصف قرش ( تعريفه ) او حتى مليم في طربوش ابو عزمي العلي لم يكونوا يفعلون ذلك خوفا فحسب ، ولكن ايضا رغبة في دعم المجهود الثوري ..
ولكم ان تتخيلوا كم يظلمنا بعض العرب عندما يتحدثون عن امجادهم الوهمية في الدفاع عن فلسطين ، ويقارنوها بتقاعسنا نحن الفلسطينيون عن حماية ارضنا حسب ادعائهم ، تخيلوا كيف ان القرش والتعريفة كانت تقتطع من قوت الفلاح الفلسطيني لتواجه ملايين الدولارات تصبها الصهيونية العالمية صبا في خزائن اليهود الذين حطوا على فلسطين كاسراب جراد جائع ، وبساطة الفلاحين وشهامة القائد ابو صالح واندفاعه التلقائي للدفاع عن ارضه بعفوية الفارس الشجاع الذي لا يهاب الموت ولكن دون خطة او استراتيجية محددة او حتى امكانات من اي نوع ، في مواجهة عقول وبرتوكولات حكماء صهيون ومخططات النخبة اليهودية ، والاستعمار العالمي بكل ما لديهم من قدرات ..
دعونا من السياسة وتاريخ النكبة فكلكم يحفظه عن ظهر قلب ، وتوقفوا معي عند القائد ابو صالح ، انا عشقت هذه الشخصية الفلسطينية ، ورايت فيها ابي واخي وابني وزوجي ، وفوق ذلك كله احسست معها بالامان ، نعم ، هذا القائد ( الكايد ) ابو صالح جسد لي الفلسطيني كما احب ان اراه واعايشه ، قوي ، صادق ، امين ، عفوي وتلقائي ، لا يتاجر ولا يزايد ، ولا تخش وانت في حماه بطش احد او استغلال احد ، ولا ادري لماذا لا اكف عن التساؤل ، ترى هل يقبل ابو صالح التنازل عن حقه في العودة الى بيته وارضه في قريته التاريخية مقابل بيت في العريش او الشيخ زويد ، او حتى رفح المصرية ؟ انا ادعو كل المصريين الذين يحاولون بكل السبل اقناع انفسهم بان اهل غزة بالتحديد طامعون في سيناء مصر ، ادعوهم الى التامل في شخصية ابو صالح هذا وسبر اغوار عقله وقلبه ، وليسألوا انفسهم بعد ذلك ، هل يمكن ان يرضى فلسطيني كهذا اي وطن بديل لوطنه فلسطين ؟
ومرة اخرى لا اريد ان انضم الى جوقة المحللين للاوضاع سياسيا وتاريخا ، واتحدث عن مخططات التهجير وطمس الهوية واعادة التوطين ، ولا عن مواجهة الفلسطينيين الشرسة وبكل ما اتوا من قوة لهذه المخططات ورفضهم لها ، بدءا بمشروع دلاس ( وزير خارجية امريكا آنذاك ) في الخمسينيات من القرن الماضي ، والذي وبمحض الصدفة كان يقضي بتوطين اللاجئين في سيناء ، وانتهاء باي مشروع في اي زمان ومكان ، لا يتفق مع ارادة اللاجئ واصراره على العودة الى ارضه ، ارضه هو ، فلسطين التاريخية ولا مكان الا فلسطين ، لكني ساعود الى شخصنة القضية بعيدا عن ايديولوجيات واستراتيجيات ومصالح هذا الطرف او ذاك ، القائد ابو صالح ما كان ليتخلى عن حبة رمل من ارضه في قريته حتى لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره.
وقد يقول قائل ، لكن ابا صالح مجرد شخصية افتراضية من بنات افكار كاتب ، لا بأس ، فلننحي ابو صالح جانبا مع كل الاحترام والحب له ، ولنتركه ينعم باستراحة محارب على انغام اليرغول الذي جاء به مع بندقيته ذلك المجاهد القادم من سوريا الشقيقة ، والذي قال عنه " النغمة متل الرصاصة يا خيو ابو صالح ، بتسر صديقك وبتضرعدوك وبتفش قلبك " بصراحة كان قولا رسخ في اعماق قلبي قبل عقلي ، وكم نحن بحاجة في زمننا هذا للايمان به وتطبيقه وتعميمه ..
اعود وانتحي بكم جانبا ، بعيدا عن الكايد ابو صالح ، و ادعوكم الى الغوص في اعماق نفوسكم كفلسطينيين ، واعماق عقولكم كعرب ، وتسالوا ما الذي يمكن ان يجعل اي فلسطيني ، لاجئ ام مواطن ، يفكر اصلا في النزوح من جديد واعادة التوطن في صحراء سيناء ؟! اراهنكم انه حتى الفارين من الموت لن يقبلوا ذلك ..
ولماذا نذهب بعيدا ، دعونا نبقى مع شخصنة الامور المستحب هنا ، انا لاجئة فلسطينية من قبيبة شاهين احدى قرى قضاء الرملة ، ولدت وترعرعت ربع قرن من الزمان في مخيم اليرموك بالعاصمة السورية ، واكذب لو قلت انني لا اعشق سورية واتمنى لو استطعت ان ابقى هناك ولا يقطفني الزمان من بستان ذكرياتي واحلام وامال والام حياتي ، ويلقى بي في اي مكان اخر ، الا فلسطين ..
انا قد سألت نفسي الاف المرات ، هل كنت اقبل ان نعطى قطعة من سورية لنقيم عليها دولة فلسطين ، مع كل هذا العشق للتراب السوري ؟ وفي كل مرة كنت اهز رأسي يمنة ويسرة علامة الرفض ..
صدقوني انني في طفولتي بمخيم اليرموك كنت اقف على سطح منزلنا لأتأمل القمر وهو يطلع رويدا رويدا من خلف المنزل ، وكان يبدو لي كبيرا وقريبا الى حد انني كنت احلم بان امسكه بيدي عندما اصبح اكبر واطول ، المهم في حكايتي مع القمر هي انني كنت اعتقد انه قادم من قريتي بفلسطين ، والبركة في فيروز ونحنا والقمر جيران ، بيته خلف تلالنا ، بيطلع من قبالنا ، يسمع الالحان .. كان هذا القمر يجسد فلسطين في مخيلتي وينقش صورتها على جدران ذاكرتي كبديل واحد و وحيد لعيشي في مخيم اليرموك ، حتى غزة الان بكل فلسطينيتها لا تشكل في خريطة طريقي الا محطة اخرى على درب العودة الى فلسطين ، تماما كمخيم اليرموك في سورية ..
اعرف ان هناك من سيقول الان ، انت لسه بتحلمي بفلسطين التاريخية يا لنا، نعم احلم ، والحلم بطبيعته لا يعرف حدودا ولا يتقيد بواقع او اية معطيات سياسية وموازين قوى .. اليهود حلموا بفلسطين منذ مطلع التاريخ الميلادي ، وكذبوا وروجوا الشائعات ، ولعبوا على كل الحبال والتناقضات ، وقتلوا ونهبوا وارتكبوا ابشع المجازر ، وتجردوا من ابسط القيم والاعراف الانسانية حتى تحقق لهم ما يريدون وبسطوا نفوذهم على ما سلبوه من ارض فلسطين ، و مع بداية حلمهم هذا لم يكن حالهم احسن من حالنا نحن الفلسطينيون الان ، ولم تكن مقومات حلمهم اقوى واكثر منطقية وعقلانية من مقومات حلمنا ، ويكفي اننا اصحاب حق ليس تاريخيا فقط بل واقعا على الارض ، فهل نيأس نحن شعب الجبارين في السنة الخامسة والستين فقط من مشوار عودتنا ، فندير ظهورنا لفلسطيننا ونيمم شطر سيناء !!
هل بعد كل هذا يمكن لاي عاقل ان يقبل او حتى يفكر في تحويل اتجاه البوصلة الفلسطينية !! ترى ايكون المقصود هو ان نبدأ الطريق من اوله فنتوه في سيناء اربعين عاما !! معقول ؟! ونعود بعد الاف السنين الى الثورة اللي مفش فيها نص نص !! وهل ينتظرنا طربوش ابو عزمي العلي كل هذا الوقت !!