صاحب الدعاء حاضر كما يقولون ، ويبدو ان قدماي ومن خلفهما سائر اعضاء الحركة في جسدي تهتف " آمين " ، كانتا تدعوان الله ان يجعل لنا مخرجا غير السير على الاقدام بعيدا عن فيلم الرعب هذا .. على غير انتظار وبدون ادنى توقعات ، توقفت سيارة الى جانبي ودعاني السائق للركوب
- وحياة ربنا ماهي ناقصاك انت التاني
- جرى ايه يا استاذه لنا ، بتقولي يا شر اشتر ليه ؟
- الله ، هو انت ، جيت في وقتك ، كنت بتدور علينا وللا ايه ؟
- ابدا ، مجرد صدفه ، انا رايح المكتب وده طريقي ، عندي وردية ليل ، اذا مش عايزين تركبو بلاش
- بلاش ايه يا ابني ، دنا قتيلة العربية دي الليله .. يا اللا ياجماعه اركبو ، فرجت اهي
قدر ولطف ، كان ذلك هو احد الزملاء وقد ساقه الله في هذا الطريق وهذا التوقيت بالذات لينقذنا مما نحن فيه .. عدت الى الفندق تلك الليلة مجهدة منهكة ، خالصه خالص بالبلدي ، لكني لم احاول النوم بل ادرت التلفاز وجلست احدق فيه متابعة تطورات الاخبار .. قاتلك الله ايها الحس الصحفي ، اتعبناك واتعبتنا معك .
لم يكن وصف الكتل الجماهرية بالبحر متلاطم الامواج عبثا ، ليس لان الحشود الهائلة تأخذ ذات الشكل والطبيعة في حركتها المتقدمة والمرتدة والروتينية والمفاجئة في آن واحد ، ولكن لسبب ربما لا يخطر على بال الكثيرين الا من عايش هذه التجمعات الكبيرة من بني البشر وجرب البقاء وسط امواجها المتلاطمة ، ذلك السبب جربته انا بنفسي تجربة شخصية وعرفت معناه وكيفيته بالطريق الصعب ، وبما كاد ان يكلفني الكثير ، اوله حياتي ، واخره احتمال قائم بانتهاك ادميتي .. دعوني ابدأ الحكاية من اول سطر فيها ..
- جاهزه يا استاذه ؟
- وحياة ربنا جاهزة ، انت سألتني السؤال ده يجي عشروميت مرة
ابتسم السائق في ودية الناس العشريين في كل انحاء مصر ، قال محاولا تبرير تكراره للسؤال
- لا مؤاخذه يا استاذه ، اصل حضرتك بتقولي جاهزه وبتفضلي قاعده مكانك ، فأنا يعني بحب افكرك بس ، وذكر ان نفعت الذكرى
- معلش حقك على راسي ، انا مشغوله بترتيب شوية حاجات في دماغي ، والوقت لسه بدري على الميدان
- براحتك يا استاذه
امس السبت كان يوما عاديا في ميدان التحرير ، كتلك الايام التي يقول عنها المصريون بظرفهم المعهود ، مالهاش لازمه ، استيقظت في ذلك اليوم اللي مالهوش لازمه متاخرة بعض الشيء فقد عدت ليلة الجمعة / السبت عودة الناجين من الموت ، وعودة من ذاق الامرين في ميدان التحرير طيلة يوم جمعة مليونية تسليم السلطة ، وما انتهى به ذلك اليوم من اشتباكات بين انصار الرئيس السابق او المعزول مرسي وقوات الامن وانصار المعارضة ، اسفرت عن سقوط قتلى وجرحى ، وايضا عودة من عانى القلق والرعب في انتظار فرصة للافلات من مكان الصراع والوصول الى الهدف النهائي وهو الفندق الذي اقيم فيه ، واضطراري في اجزاء متكررة من رحلة الاهوال تلك ، للسير على قدمي المنتفختين اصلا من طول الوقوف والتنقل في داخل الميدان وان كان حركة في دوائر لا نهاية لها ولا بداية ولا هدف .
- الحمد لله على السلامه يا هانم ، محتاجه مساعدة حضرتك ، اجيب لحضرتك كرسي تستريحي عليه على ما ينزل الاسانسير ؟
- شكرا ، مش للدرجة دي
اجبت موظف الاستقبال بالفندق وانا استند بيدي الى الحائط ، ويبدو انه لاحظ اني كنت اسير على قدمي بصعوبه .. رد الموظف بأدب جم
- اللي تشوفيه حضرتك ، اصله باين على حضرتك التعب اوي
همست لنفسي ، ومش عايزه يبان علي ازاي مع كل ما واجهته في تلك الليلة وذلك النهار من العقبات والمصاعب والمخاطر والاهوال ، ليس للوصول الى القمة ولكن فقط للوصول الى الفندق في نهاية الامر لأستريح جسديا على الاقل ، وهي وان كانت مسافة غير بعيدة بقياس المسافات الا انها في تلك الليلة وبقياس الوضع الطارئ شديد الخطورة كانت بعيدة بعد الثريا عن الثرى ، فأي شبر في ذلك الطريق كان يمكن ان يتحول في لمح البصر الى محرقة تلتهمنا نارها بفعل الخرطوش الذي يتطاير في جميع الاتجاهات ومن مختلف الاماكن كسرب طيور جارحة تحط على جيفة ، او الى موضع تدريب على الرماية نصبح نحن فيه الشخوص التي يمكن ان تتساقط برصاص من هب ودب ، ودون ان يعرف احد على وجه التحديد في رقبة من يقع دمنا ..
دق جرس هاتف غرفتي وانا لم اكد اغلق الباب بعد
انهرت على السرير كبناية ينسفها المحترفون فتتحول الى ركام في لحظات وفي نفس المكان .. ورغم انتفاخ قدماي وتصلب ساقاي وتحول ظهري الى نصل سكين تنغرز في روحي ، لم يطاوعني عقلي بان يدعني انسى كل شيء وأخلد الى النوم ، بل أصر على الاطلاع على تطورات الاخبار ، فاستلقيت على سريري وعيناي المجهدتين تحدق في شاشة التلفاز .. في النهاية سقطت نائمة ليلتها ، ولا اعتقد اني وجدت القدرة حتى على الحلم ، ولم اشعر بأي شي مما يشعر به النائم ، وعندما استيقظت في الصباح كان الوقت متاخرا لأبعد الحدود ، ورغم كل ما اشعر به من آلام في المفاصل الا انني كنت اقف امام الكاميرا في ميدان التحرير في الوقت المحدد ..
- جاهزه يا استاذه ؟
- يي علينا ، ياعم انتو عليكو عفريت اسمه جاهزه يا استاذه ، ما انت شايفني اهو واقفه على سنجة عشره وماسكه المايك في ايدي وببص ناحية الكاميرا ، ابقى جاهزه وللا مش جاهزه ؟
اجاب المصور ببرود
- هدي اعصابك يا استاذه ،
مفيش حاجه تقلق النهارده ، اصلا ده شكله يوم مالهوش لازمه
مر الجزء الاكبر من ذلك اليوم الذي مالهوش لازمه بسلام ، رغم انه بدأ بداية مثيرة للقلق حيث انشغل الشباب المعتصمون والمحتفلون باحاطة كل مداخل الميدان بالاسلاك الشائكة تحسبا لاي هجوم اخواني مباغت ، ولكن بقيت اعداد المتواجدين بالميدان محدودة للغاية ما فسره من اجريت معهم لقاءات من مسؤولين عن التنظيم او التنسيق بأنه يرجع لكون يوم السبت هذا واقع بين يومين مهمين ، يوم جمعة تسليم السلطة بحشدها الهائل ويوم احد مليوينة الشرعية الشعبية ، ولذلك فان غالبية معتادي الاعتصام في الميدان قد غادروه للاطئمنان على ذويهم ، خاصة بعد الانباء التي تحدثت عن اشتباكات في اماكن متفرقة من البلاد ، ولنيل قسط من الراحة استعدادا ليوم مليونية الشرعية الشعبية ودعم اهداف الثورة ..
- تفضلي يا مدام ، دي فانيلة تمرد ، بقت شعار ثورة 30 يونيه ، حهاودك في سعرها واريحك عالاخر
اشتريت تلك الفانيلة من احد الباعة ولم افكر في ارتدائها بالطبع حتى لا احسب على فريق دون الاخر ، لكنها قد اعجبتني برمزيتها فقررت الاحتفاظ بها كذكرى لزمان الميدان
- مناديل ، اعلام ، فانيلات ، شرابات ، ، قمصان ، شنط ، معالق ، سكاكين ، اطباق .. حاجه ساقعه ، لبان .. فول سوداني ، لب ، شاي، ابو حلاوة يا تين
- يا عم يا بياع التين استنى
صحت ببائع التين الشوكي الذي كان يمر بعربية على مقربة من مكاننا لاستوقفه و انا أمني النفس بتحقيق ما قد أصبح أمنية لكثرة تعذر الوصول اليه..
- جاهزة يا استاذه، مفيش وقت،حنطلع على الهوا فورا.
-لا اله الا الله، انتو مستقصدني بأه و كل مرة تعملوها في وانا عايزة اشتري تين شوكي،نفسي فيه يا عالم.
-يا ستي ما هو بيقف عند المدخل اللي هناك ده،ابقي فوتي عليه و انتي مروحة.
أنهيت الرسالة المطلوبة ، و التين الشوكي لايزال عالقا في مخيلتي،نحن نسميه الصبر او الصبار،كلمتان أحلاهما مر بطعم العلقم،على العموم أنا أحبه أيا كانت تسميته،و إن كان اسمه قد اصبح مقترنا في مخيلتي بما عايشته و عانيته في مهمتي هذه، و هو في مصر له مذاق آخر و لا ادري لماذا كنت كلما اشعر ان الفرصة قد اصبحت مواتية لأشبع نهمي اليه يحدث مالم يكن متوقعا،و حتى عندما كنت أقرر ان امر بالمكان الذي يقف فيه بائع الصبر ،كنت اما لا اجده هناك، و اما اضطر الى تغيير خط السير و الخروج م بوابة أخرى.
-شاي.. الشاي
- اتفضلي الشاي يا استاذه
- شكرا يا محمد ، سلم ايديك
انقدته ثمن كوب الشاي ونفحته البقشيش ايضا فاخذه بأدب جم .. كان شابا في اواسط العشرينات اعجبتني فيه اخلاق ولاد البلد الجدعان وتقديمه لخدماته في أدب ودون إلحاح او إلحاف ، ويبدو انه لا يختلف عن الكثيرين من شباب مصر الذين لا يخجلهم العمل ايا كان مستواه مادام شريفا وبعيدا عن الكسب الحرام ، وبالطبع فقد وجد ضالته كغيره في الميدان
انبتهت فجأة الى وجود الباعة الجائلين المكثف في ميدان التحرير وانتشارهم كالدودة في حقول القطن ، بضائع من كل جنس ولون ، وحاجيات يستغرب المرء لماذا تباع هنا اصلا وهي لا تمت للموقف ذاته بصله ، لكن على ما يبدو ان بعض المشاركين في الاعتصامات والاحتفالات يضرب عصفورين بحجر ، يدلي بدلوه في الاحداث ، ويتزود بما قد يحتاجه العيال في البيت ، واهو كله مصلحه ، نفع واستنفع
اغراني الهدوء النسبي في الميدان باعداد تقرير عن الباعة الجائلين فكان اول صدام او اول صدمة يتبدى لي فيها الوجه الاخر لهذه الكتل البشرية .. ما كدت أبدأ الاوبنر الذي افتتح به التقرير وكانت فيه عبارة التجارة شطارة ، حتى ثارت ثائرة احد المتحلقين حولي من الفضوليين ، ولا ادري ما اذا كانت تلك العبارة هي التي استفزته فعلا ام انه كان مستفزا اصلا ويبحث عن اي مدخل يثير من خلاله الفوضى حولنا لغاية في نفسه ، وربما في نفوس اخرين ..
- ايه ده ، بتقول ايه دي .. طلعوها بره الميدان ، دي دسيسة
كلمة السر كانت " دي دسيسة ، ارموها بره الميدان " وربما لقربها من كلمة ديليسيبس التي استخدمها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في خطابه الشهير عام 1956 ككلمة سر ، تذكرت تأميم قناة السويس وتخليصها من ربقة الاستعمار المستغل .. ولا أدري ما الذي حدث بالتفصيل بعد ذلك ، بعد ان تداعى القوم لاجلائي عن الميدان ، وليس بعد تأميم قناة السويس طبعا، ما اذكره هو انني حاولت ان اجادل على امل الاقناع ، لكن ردود فعل الجماهير كانت غير متوقعة بالنسبة لي ، كشروا عن انيابهم ولم يعودوا يسمعون او يرون او يفهمون ، فلم اجد بدا من تحاشيهم بالابتعاد عن مكان تجمعهم ، وذهب التقرير ادراج الرياح ، ومعه وهم كنت اتعلق باهدابه ، وهم الشعور بالامان المطلق وسط هذه الحشود التي كنت لا ارى فيها الا الطيبة والبساطة والحرص على المجاملة المحببة ، ولكن كل ذلك لم يفقدني الثقة بالناس الطيبين او يدفعني الى التعميم ، والقول ماقالت بائعة الترمس العجوز الجالسة على قارعة الطريق في طرف الميدان والتي شاهدت ما حدث وسمعتني أنفث ما بنفسي من شعور بالغضب والاستياء ، او ابرطم ، كما يقولونها بالمصرية الدارجة ، "صوابعك مش زي بعضيها يا بنتي"
صوابعي مش زي بعضيها فعلا ، لكن حظي العاثر على ما يبدو زي بعضيه .. ضربتين في الرأس بتوجع .. حرب الهوانم في انتظاري.
يتبع ..


