غزة / سما / بعيداً عن الرؤية المستقبلية بعيدة المدى لصيرورة صراعنا مع الكيان الاستيطاني على طرفي خط الهدنة عام 1949، فإن المتتبع لمجريات الواقع السياسي والاستيطاني والاجتماعي، ومن يستمع ويراقب لسان حال الكل الاستيطاني وتوجهاتهم وقراراتهم؛ ينتابه شعور أنهم يقفون على أبواب الاستعداد لإيقاد شموع انتصار المشروع الاستيطاني بعد أن أعلنوا من على كل منبر ومحفل نهاية مشروع الدولة الفلسطينية، بعد أن نجحوا في تحويل الاستيطان الى عائق ديموغرافي يقطع أوصالها ويجعل قيامها من دروب المستحيل والتمسك بها هذيان سياسي. في واقع الأمر فقد تحول المشروع الاستيطاني في الضفة والقدس برعاية كل حكومات دولة الاحتلال وبتواطؤ المجتمع الدولي وتقصير فلسطيني وغياب عربي إلى واقع يصعب معه أن نرى قيام دولة فلسطينية بما نمتلك حالياً من أدوات مثلومة متآكلة تعاني من أمراض الشيخوخة وتنخرها صراعات داخلية، في ظل قوة وعنفوان دولة المستوطنين وما يحظون به من دعم وتأييد على مختلف الصعد على المستوى الدولي. ان حصر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في هذه المرحلة على الأقل على جبهتي غزة والضفة صراع إسرائيلي مع كيانين منفصلين على قضايا ذات خصوصية معينة بكل كيان، هدنة وتسهيلات وتخفيف حصار هنا، وتسهيلات ومبادرات اقتصادية ومناورات سياسية هناك؛ مكّن اسرائيل على المزيد من التجرؤ السياسي والانفلات الاستيطاني على الأرض أو عبر المشاريع السياسية وأقوال تنم عن العنصرية والاستخفاف، فمن وجهة نظرهم فإن اسرائيل القوية قادرة على الانتصار دوماً وبأقل الاثمان على شعب بسيط خلف الجدار محاصر داخل معازل مدنية يحتاج للتنسيق مع اسرائيل في كل مجالات حياته حتى بما فيها حاجته للماء والهواء، وهو فوق ذلك مسلوب الإرادة ومسكون بهواجس الصراع الداخلي وفاتورة الرواتب. ان حالة الانتشاء الصهيوني التي تصل أحياناً حد الهذيان السياسي تعود لشعورهم القوى بالانتصار على انتفاضة الأقصى، وبما آلت إليه الحالة الفلسطينية، والى نجاح أقطاب المستوطنين من شارون حتى نتنياهو من دفع مشروعهم قدماً دون أثمان سياسية تذكر على الحلبة الدولية مما كان يحذر منه "اليسار الصهيوني" من نبذ وفرض مبادرات وعزلة... الخ، الأمر الذى أحدث تحولات عميقة في المجتمع الصهيوني، تحولات على مستوى الفكر الصهيوني وعلى المستوى السياسي والاجتماعي، فأصبح فكر الصهيونية الدينية مسيطراً على التيار المركزي للفكر الصهيوني الذى كان يجتهد أن يبدو معتدلاً متمسكاً بقناع السلام، فصهيونية اليوم وقحة وأكثر عنفاً سياسياً ولا تخشى أن تظهر حقيقة نواياها، يطلق عليها بعض الكتاب الاسرائيليين اسم "الصهيونية النفاثة". كما أن هذه التحولات دفعت قيادات متطرفة تشهر علناً ولائها للوبي المستوطنين، الى مواقع القيادة السياسية والتنفيذية والتشريعية، وباتوا يشكلون الأغلبية وهو ما يعكس حجم التشريعات والقرارات العنصرية للكنيست والحكومة، ويتمثل التحول الأكثر في أن الاستيطان بات من مواضيع الاجماع الصهيوني، وانتقال تأييده الى الاكاديمية ومختلف المؤسسات الثقافية والمجتمعية. ان حالة الضعف والانقسام الفلسطيني مقارنة بحالة العنفوان الصهيوني والاستيطاني هي التي جعلت نفتالي بينيت زعيم حزب المستوطنين "البيت اليهودي" يقدم مشروعه السياسي الذى يستند الى فهمه ورؤيته للفلسطينيين في الضفة على أنهم ليسوا أكثر من شظية في المؤخرة غير مؤثرة، ويمكن التعايش معها، ولم يعبأ أن قوله هذا سيستفز كرامة ووطنية كل فلسطيني، صغيراً كان أم كبيراً لشعورهم بعمق الإهانة ولتجرؤ الصهيوني على عظمة شعبنا وتضحيات شهداءه، لم يعبأ بذلك لأنه على ما يبدو مسلح بقراءة عميقة للواقع الفلسطيني الراهن في ظل الانقسام و مخرجاته وفي ظل التهالك السياسي. فلا غرابة والحالة هذه أن يكتب الكثير من الفلسطينيين والصهاينة مؤبنين مشروع الدولة الفلسطينية من منطلقات وأهداف مختلفة، فالفلسطيني وبحق عندما يجد أن فرص إقامة الدولة في ظل الاستيطان معدومة فإنه يسعى لطرح البديل المتمثل بالدولة الواحدة كشعار تحشيد وتأطير أكثر منه هدفاً عملياً، الا أن الكتاب الصهاينة والمحسوبون على اليمين تحديداً فإنهم يسعون من خلاله للتمهيد لحلول تكرس الاحلال والاستيطان، وتحول الفلسطينيين الى مجرد أقلية بلا هوية سياسية يمكن اسناد ادارتها الى دولة عربية أو منحهم حكماً ذاتياً تحت السيادة الاسرائيلية. حتى لا نكون مجرد شظية، ولكي نستطيع محاصرة الاستيطان ودولته قبل ان نستطيع أن نحلم بالدولة؛ علينا اعادة الاعتبار لكفاحنا الوطني ولشهدائنا وأسرانا ولتضحيات شعبنا على مدار سنين القهر والتشرد والعدوان، عبر الوحدة ونبذ الانقسام واعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير ومؤسساتها لتعبر عن الإرادة الفلسطينية لتكون الذراع السياسي والإطار التنظيمي الذي يحمل ويقود مشروعنا التحرري، ولتستطيع أن تكون ناظماً لجبهة عربية اسلامية أممية في مواجهة المشروع الصهيوني وحلفاؤه.