النكبة التي ألمت بالشعب الفلسطيني في 15 مايو 1948 من سرقة وطنه بكل ما يعنيه الوطن من مقدرات مادية، بيوت ومزارع ومصانع وطرق ومدارس وموانئ ومنشآت حكومية ومدن وقرى ومقدرات غير مادية اجتماعية وثقافية وسياسية ومسقط رأس وحياة وادعة ومستقبل وتشريد الشعب الفلسطيني الى مخيمات اللجوء والمنافي وما عاناه على مدار العقود الماضية من معاناة وعذابات واذلال وقتل ومجازر وتنكر لأبسط حقوقه وتواطؤ على مشروعية نضاله واهدافه... الخ؛ لم تكن بفعل عجز عربي او قلة حيلة فلسطينية، ولم تكن بفضل حنكة وقدرات طلائع المقاتلين الصهاينة الذين تغلبوا على سبع جيوش عربية كما تزعم الرواية الصهيونية، على الرغم من وجود بعض الحقيقة في هذا وذاك. انما كانت النكبة تحصيل حاصل لمؤامرة سياسية استعمارية تمتد جذورها الى بدايات القرن التاسع عشر، وجهت الى قلب العروبة واستهدفت القضاء على النهضة العربية لإجهاض أي حركة تحرر قومية عربية تطمح لإعادة تشكيل الهوية القومية العربية، عبر زرع مستوطنة غربية في فلسطين وجزء من بلاد الشام، لتفصل عرب آسيا عن عرب افريقيا، وتقوم بدور وظيفي وتؤمن طرق المواصلات والتجارة والامداد العسكري بين مستعمراتهم في آسيا والبحر المتوسط، ولم يكن وعد بلفور وليد ساعته او نتاج الحرب العالمية الأولى؛ بل كان نتاج عقود طويلة من المشاريع الاستعمارية البريطانية بإنشاء مستعمرة لليهود في فلسطين، وقد سبقت الافكار البريطانية المؤتمر الاول للحركة الصهيونية بأكثر من نصف قرن، وقد تبارى بعض السياسيين والمفكرين والجمعيات البريطانية - وأشهرها جمعية العودة - في تمجيدهم لليهود، وفى تحريضهم على العودة الى فلسطين، وفى تمويل جمعيات استكشاف فلسطين التي كانت تهدف الى محاولة الربط بين ارض فلسطين وتعاليم التوراة، والى التنكر لحقيقة وجود شعب فلسطين على أرض فلسطين، حيث أشير اليهم في تلك الكتابات على أنهم جماعات من البدو والمتخلفين بؤساء وبدائيين في تزييف كبير للواقع والتاريخ. أصل المؤامرة السياسية ان الوعد الرسمي الأوروبي الاول لليهود في فلسطين صدر عن نابليون عندما كان قائداً للجيوش الفرنسية أثناء حملته على مصر سنة 1799، بينما كان يزحف من العريش في مصر تجاه فلسطين، حيث نادى اليهود مخاطباً إياهم بالإسرائيليين؛ الشعب المتميز، وزعم انهم الورثة الشرعيون لفلسطين ودعاهم للانضمام تحت اعلامه من اجل استعادة القدس، لكن نداء نابليون كان عابراً لم يولِه اليهود أية أهمية وفشل بسبب فشل حملته على أبواب عكا، إلا أنه أثر في وعى بريطانيا السياسي التي كانت تنافس فرنسا. بيد أن تفتح عيون بريطانيا سياسياً على تحويل فلسطين الى مستوطنه يهودية ذات دور وظيفي استعماري، حدث عندما قام والى مصر محمد على باشا بحملته على بلاد الشام في ثلاثينيات القرن التاسع عشر معلناً عزمه على طرد الحكم العثماني منها وضمها لمصر، واعلان خلافة اسلامية عربية تشكل دولة عربية قوية تمد نفوذها لاحقاً الى بقية المنطقة العربية؛ الأمر الذى نظر اليه الغرب وبريطانيا تحديداً بعين الخطورة، مما دفعهم لمساعدة الدولة العثمانية في صد جيش ابراهيم باشا وعودته الى مصر من خلال تدخل عسكري بحري على سواحل الشام، وعن خطورة حملة محمد على يقول البارون اليهودي روتشيلد في خطاب الى رئيس وزراء بريطانيا بالمرستون 1840: "ان هزيمة محمد على وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين لأن هناك قوة جذب بين العرب، ولو نظرنا لخريطة بقعة هذه الارض لوجدنا ان فلسطين هي الجسر الذى يوصل بين مصر وبين عرب آسيا، والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر، والهجرة اليهودية تستطيع أن تقوم بهذا الدور... الخ"، وفى 1907 دعا تقرير بريطاني أعدته لجنه شكلها رئيس وزراء بريطانيا هنري كمبل الى العمل من اجل ابقاء المنطقة العربية مجزأة ومتأخرة، ومحاربة اتحاد الجماهير العربية عن طريق فصل الجزء الآسيوي عن الإفريقي عبر اقامة حاجز بشرى غريب وقوى على الجسر البرى، بحيث يكون على المنطقة القريبة من قناة السويس قوه صديقة لنا وعدوه لسكان المنطقة. وهذا ما قامت به اتفاقية سايكس بيكو مايو 1916 في ذروة الحرب العالمية الاولى لتقاسم نفوذ الحكم التركي في المنطقة العربية، وهو ما يخالف اتفاقية بريطانيا مع الشريف حسين زعيم الثورة العربية التي جاءت في مراسلات حسين مكماهون، حيث وعد مكماهون حسين شريف مكة باعتراف بريطانيا بآسيا العربية كامله دولة عربية مستقلة اذا شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية، وقد أوفى العرب بوعدهم وثاروا ضد العثمانيون وطردوهم من الحجاز وبلاد الشام، لكن بريطانيا وفرنسا كانت تحيك مؤامرة لتقسيم المنطقة العربية، وأصرت بريطانيا على أن يمتد نفوذها من ساحل فلسطين غرباً حتى الحدود الشرقية للعراق، وتوجت لاحقاً فيصل ابن الحسن ملكاً على العراق تحت وصايتها، وعبد الله أميره على منطقة شرقي نهر الأردن، سميت لاحقاً امارة شرق الأردن وتعرف اليوم بالمملكة الأردنية، وأبقت فلسطين تحت وصايتها وتمسكت بأن تبقى نفوذها ووصايتها على كل فلسطين، لتنفيذ وعدها، وعد بلفور الذى صدر 2 نوفمبر 1917 قبل احتلالها فلسطين. ولجأت الى تأكيد سيطرتها على فلسطين عبر اصدار صك انتدابها على فلسطين 31 مايو 1920 في مؤتمر الدول المنتصرة في مدينة سان ريمو الإيطالية، وفور ذلك عينت اليهودي الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً في القدس، وكان وزيراً للداخلية البريطانية ومتعاطفاً مع الحركة الصهيونية. تمكين الصهاينة من فلسطين ومنذ أن وصل صموئيل الى القدس لم يؤلُ جهداً ولم يوفر وقتاً في تحويل الحلم الاستعماري الصهيوني الى واقع على أرض فلسطين، وترجم ذلك عبر خطط واجراءات وقوانين، وانشاء المؤسسات والبنى السياسية والبنوك والمؤسسات الاقتصادية، وفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، واشراك الوكالة اليهودية في ادارة فلسطين، وتعزيز وجودهم الديني والثقافي، الى الحد الذى باتت معه كل هذه السياسات البريطانية مكشوفة ومفضوحة لشعبنا الذى رأى في الانتداب البريطاني مؤامرة دولية هدفها الايفاء بوعد بلفور، وتمكين الصهيونية من إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وعبر عن رفضه بأشكال كبيرة من الاحتجاج والمقاومة والاضراب والعصيان والهبات الجماهيرية والانتفاضات الشعبية والثورات المسلحة ضد الوجود البريطاني وربيبته الصهيونية. ان حجم الجور والظلم الذى تعرض له شعبنا خلال الثمانية وعشرون عاماً من الانتداب لا يتعلق بحجم البطش والتنكيل الذى تعرض له - وهو جريمة بحد ذاتها - بل بإحلال العصابات اليهودية الاستيطانية وسرقة أرضه، وتسليح وتمكين الوجود الصهيوني، وتسهيل وصول المساعدات العسكرية والمالية والمقاتلين المدربين في الجيوش الغربية وتحديداً البريطانية، ليكون في لحظة الحسم قادراً على الانتصار وحسم المعركة لصالحه، وهذا ما كشف عنه الارشيف البريطاني الذى نشر للعامة في بداية هذا العام، حيث تؤكد وثائق الجيش البريطاني في فلسطين لسنة 1947 ان الوجود اليهودي يمتلك من السلاح والمقاتلين المدربين ما يمكنه من الانتصار والاستقلال عند جلاء القوات البريطانية.