ابدت معظم القوى السياسية؛ الوطنية والإسلامية عدم ترحيبها بزيارة الرئيس أوباما لفلسطين المحتلة، وشككت هذه القوى بمدى قدرته على تحريك العملية السلمية بالشكل الذي يتحقق معه حلم الفلسطينيين بالدولة الحرة والمستقلة على حدود الرابع من حزيران 67.. لقد جاءت كل التصريحات والتحليلات المتعلقة بالزيارة والتي تمَّ اطلاقها من واشنطن محبطة ومخيبة للآمال، فهي لن تتعدى كونها جولة استكشافية، وقد تتمخض – في أحس الأحوال - عن تجميد جزيء للاستيطان مقابل عودة الفلسطينيين لطاولة المفاوضات، مع محاولة تشغيل الرحى لخلق المشهد الذي تعودنا عليه منذ أوسلو 1993، أي الاستمرار بلعبة المراوحة في المكان، وطهي الحصى لإيهام الصغار، على شاكلة المثل القائل: "أسمع جعجعة ولا أرى طحناً"..!! قبل أربع سنوات، شدت كلمات الرئيس أوباما حول التغيير أنظار العالم أجمع، وكان لخطابه في جامعة القاهرة وقع السحر على شعوب المنطقة.. لقد اعتقد البعض – آنذاك - وأنا منهم أنك أيها الرئيس قد جئت على قَدرٍ لفتح صفحة جديدة من صفحات التاريخ.. لقد شهد العالم معك لغة تنطق حروفها بمضامين إنسانية وحضارية لم يعهدوها في السياسة الأمريكية من قبل.. فآمنوا بك وصدقوك، وخاصة بعد تلك الأعوام الثمانية من البلطجة والحروب الدامية التي طبعت سياسات سلفك الرئيس جورج بوش ضد عالمنا العربي والإسلامي. إن تلك السياسات المتهورة للرئيس بوش (الابن) هي التي جعلت شعوب العالم تنظر إلى أمريكا بعداء واحتقار شديدين، وتمقت كل من يواليها أو يتودد إليها.. لقد أذهبت تلك التخبطات وعنجهيات القوة الأمريكية هيبة المؤسسات الدولية، وجرّأت إسرائيل على ممارسة القتل وارتكاب جرائم حرب، وجرائم بحق الإنسانية، وانتهاك كل القوانين والأعراف الدولية، كما أشار تقرير جولدستون الذي صدر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة عام 2009. لاشك – أيها الرئيس - بأن جنرالات الحرب ورؤساء الحكومة في إسرائيل كانوا يتطلعون إلى حجم الجرائم والمجازر التي ترتكبها أمريكا في العراق وأفغانستان فيدفعهم هذا إلى التمادي في عمليات القتل والاستهداف باستخدام الأسلحة المحرمة دولياً.. كانت الحكومة في إسرائيل تتكئ على حليفها الاستراتيجي جورج بوش ليوفر لها الغطاء السياسي والدبلوماسي في مجلس الأمن، حيث يمنحها "الفيتو الأمريكي" حصانة ضد العقوبات أو أية قرارات إدانة يمكن أن تطالها. فلا غرو أن تشن إسرائيل حرباً على لبنان في صيف 2006 واعتماد سياسة الأرض المحروقة، حيث أهلكت الحرث والنسل، وجعلت قرى ومدن لبنان عاليها سافلها، ليتشرد مئات الآلاف ويبلغ حجم الدمار أكثر من أربعة مليارات دولار.. ولما وقفت أمريكا ومعها أوروبا إلى جانب المعتدي الإسرائيلي، وشكلت له شبكة أمان ضد أية قرارات يمكن أن تصدر عن المؤسسات الدولية بإدانتها بارتكاب جرائم حرب، عاودت الكرَّة في ديسمبر 2008 على قطاع غزة، حيث شاهدنا على شاشات التلفزة بشكل فاضح حجم الجريمة التي ارتكبها جنرالات الحرب الإسرائيليين وقادتهم السياسيين، وقلنا إن إسرائيل لن تمضي هذه المرة بجريمتها دون عقاب، ولكن - للأسف - أعادت الكرَّة من جديد في حرب الأيام الثمانية عام 2012، حيث استهدفت بصواريخها القائد أحمد الجعبري، وفتحت الباب أمام عدوان واسع على قطاع غزة، إلاَّ أن صمود أهل الرباط ومفاجآت المقاومة وابداعات المجاهدين قد صنعت لغزة نصرها المبين. يا سيادة الرئيس لقد دافعنا بشرف وبكل عزيمة وإصرار وتحدٍّ عن قطاعنا الحبيب.. لم تكن الكفَّة متوازنة عسكرياً ولا أخلاقياً، لقد دكت إسرائيل المناطق السكنية وسوَّت الكثير من الأحياء بالأرض، وتوزعت دماء الفلسطينيين وأشلائهم على طول القطاع وعرضه، حتى أن الحجر والشجر لم يسلما من جريمتهم، فعملت جرافاتهم على تدمير حظائر الدواجن واقتلاع حقول الزيتون وكروم العنب التي كانت تُشكل للمزارعين مصدر الرزق الذي يعتاشون منه، وتوفر لهم ستر الحال في مكابدتهم اليومية لضغوطات الاحتلال والحصار، كما سوّت بصواريخ طائرات (F-16) البيوت الآمنة على ساكنيها. انتظر الفلسطينيون عدل المجتمع الدولي لإنصافهم، ولكن – واحسرتاه - دون جدوى.!!إن أمريكا – للأسف - تقف بالمرصاد لكل من يحاول مسَّ ربيبتها المدللة إسرائيل، لذلك لم تتخذ هيئة الأمم قراراً يدين الحكومة الإسرائيلية، بل حاولت التغطية وتبرير العدوان، وعمدت إلى مساواة الجاني بالضحية..!! لماذا كل هذا العار يا سيادة الرئيس لم تغب عن بالنا حجم التحديات التي كانت بانتظارك في فترة رئاستك الأولى، فأمريكا – كانت وما تزال - تعيش أزمات مالية، وورطات عسكرية في أفغانستان، وأزمات أخلاقية في أمريكا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط، حيث فقدتم قيادتكم السياسية للعالم، وتحولتم في نظر الشعوب إلى دولة تمارس الهيمنة والبلطجة والتسلط لفرض وجهات نظرها على العالم، من خلال توجيه الضربات الاستباقيّة حيناً، وتوظيف المنظمات الدولية لخدمة المصالح والسياسات الأمريكية حيناً آخر. كم كان عاراً على أمريكا أن تستخدم حق النقض (الفيتو) في التصويت على قرار إدانة الاستيطان في الضفة الغربية بينما جميع الدول في مجلس الأمن أيدت القرار. وكم كان عاراً على أمريكا أن يتحدث رئيسها بأن المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس تمثل عائقاً في طريق السلام..!! وكم كان عاراً أن يحظى نتنياهو بتلك الحفاوة والاستقبال في الكونجرس الأمريكي، وأن يقف أعضاؤه بهذا الشكل المهووس لكلماته التي تنتهك صراحة القانون الدولي..!! عارٌ على أمريكا ألا تدين القرصنة الإسرائيلية في عرض البحر ضد اسطول الحرية وسفينة مرمرة التركية، وتغض الطرف عن إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل بشكل سافر وبتراكمية لا تخطئها العين. عارٌ على أمريكا – يا سيادة الرئيس - أن تحرف بوصلة القيم الإنسانية التي جاءت بها الديمقراطيات الغربية وتحرض أوروبا للدفاع عن دولة الاحتلال وممارساتها العدوانية. عارٌ على أمريكا، وهي تشهد ربيع الثورة العربية وفجر الشرق الجديد أن تستمر في سياساتها المنحازة لإسرائيل، وممارسة الضغط على الفلسطينيين للعودة إلى المباحثات الثنائية مع نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، وهي تعلم أن لا طائل من ورائها. وعارٌ على أمريكا أن تصطف لوحدها معارضة إعطاء الفلسطينيين دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة، أمام 138 دولة نادت بمنحهم هذا الحق. كم عارٍ يمكن أن تتحمله أمريكا قبل أن تفاجئها ردَّات الفعل العربية والإسلامية والدولية بسبب انحيازها ودفاعها عن الكيان الإسرائيلي المارق، والذي تجاوز في انتهاكاته المتكررة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ووثيقة جينيف الرابعة، والذي مارس "جرائم الحرب"، وارتكب الكثير من الجرائم بحق الإنسانية من خلال عدوانه المستمر على الشعب الفلسطيني، كما أشارت بذلك العديد من التقارير الدولية. سيادة الرئيس لقد انتظرك العالم بأمل إخراج أمريكا من ورطتها السياسية والأخلاقية، ولتحقيق التوازن في موازين القوى، ولكي يسود العدل ويعم السلام أرجاء المعمورة.. للأسف – يا سيادة الرئيس - لقد جسّدت ضعفاً وتراجعاً أعاد التأكيد بأن السياسة الأمريكية في المنطقة هي أصل البلاء، كما أنها رأس الفتنة في هذا العالم. كم من الوقت ومن التغيير تحتاجه أمريكا للعودة لعالمنا المضطرب كعنصر توازن يعيد الهيبة والاحترام للسياسة الدولية وللمنظمات الأممية؟!! في المشهد السياسي اليوم، تظهر دول تملأ الفراغ الناجم عن التراجع الأمريكي في العالم؛ فهناك الصين التي تتقدم بخطى واثقة إلى صدارة الاقتصاد العالمي خلال السنوات القادمة، وهناك أوروبا واليابان والهند وروسيا بأماكنها المؤثرة في السياسة والاقتصاد، وهناك تركيا أردوغان التي بسطت أجنحتها – بمحبة واحترام - على خارطة الشرق العربي والإسلامي، وهناك ماليزيا وإيران كقوى إسلامية صاعدة، وهناك فجر الشرق الجديد بثوراته الزاهية. إن الخريطة العالمية بجغرافيتها السياسية والاستراتيجية لن تتحمل معالمها القادمة التعاطي معها وكأنها من سقط المتاع، فالعرب اليوم يبحثون عن مكانتهم الحضارية التي فقدوها منذ قرن من الزمان، وإذا كانت الأيام دولاً قدَّر المولى (سبحانه وتعالى) تداولها بين الناس، فإن أمريكا وحسب الكثير من المعطيات السياسية والأخلاقية والمالية آخذة في الانهيار، ومساراتها تنحرف بها باتجاه الزوال. يا سيادة الرئيس لقد انتظرناك أن تأتي على قدرٍ من القوة والهيبة، التي تمنحك دور المخلّص لأمريكا من أوزارها وآثامها وظلمها التاريخي للعالمين، وإذ بضعفك ولغتك المترددة تعيد السياسة الأمريكية إلى ما درجت عليه من ممارسات واتهامات بالنفاق والعمل بسياسة الكيل بمكيالين. إن إسرائيل (الدولة المارقة) سوف تجر أمريكا – يا سيادة الرئيس - إلى مواجهات قادمة مع العالم العربي والإسلامي، وسوف تجعل أمريكا تفقد مصالحها الحيوية تدريجياً بالمنطقة، وتبقيها – دائماً - في دائرة الاستهداف والخطر المبين. ويبقى السؤال قائماً: إلى متى؟ بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 المأساوية، والتي وجهت فيها الاتهامات إلى جهات عربية وإسلامية، تساءل الشعب الأمريكي – باستغراب - "لماذا يكرهوننا.؟!"، ولم يحظ المواطن الأمريكي - حتى اللحظة - بجواب شافٍ من حكومته!! لم يجرؤ أحد من السياسيين في الولايات المتحدة – آنذاك - أن يقول للشعب الأمريكي إننا ندفع ثمن سياساتنا الخاطئة المنحازة لإسرائيل، فالعرب والمسلمون يكرهون الظلم الذي تمارسه أمريكا في دفاعها عن أخطاء دولة الاحتلال وتجاوزاتها، وعن ممارساتها القمعية بحق الشعب الفلسطيني، وكذلك تغاضيها عن سياسات التهويد التي تستهدف الأماكن الدينية (الإسلامية والمسيحية) بمدينة القدس. إن أمريكا – يا سيادة الرئيس – ما تزال تحتفظ بلقب (الشيطان الأكبر) بامتياز، وهي الدولة التي لا تفكر – حقيقة – بمصالحها ببصيرة واعية ورأي صائب، فهي – للأسف – لا ترى الأشياء إلا من خلال منظار الرؤية الإسرائيلية، وهي نظرة طائشة لا تضع في حساباتها مصالح أمريكا الاستراتيجية بالشرق الأوسط، بل مصالحها الاستعمارية الهادفة إلى تكريس احتلالها للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. هل يُعقل أن تستخف أمريكا بعقل مليار ونصف المليار من العرب والمسلمين لصالح مجموعة استعمارية لا يتجاوز تعدادها الخمسة ملايين!؟ وهل من المنطق أن تصطف الإدارة الأمريكية للدفاع عن دولة مارقة (Rouge State) في وجه أمة عربية وإسلامية تمثل حضوراً استراتيجياً وحضارياً على مساحة أكثر من خمسين دولة!؟إنها حقاً حسابات خاطئة وقسمة ضيزى.!! الانتظار بأمل التغيير ما يزال هناك – للأسف – من يراهن على التغيير في السياسة الأمريكية، باعتبار الوعي بحقائق ومستجدات الربيع العربي وثورات الشباب والحراك الإسلامي الذي يحاول خلق حقائق جديدة في الخريطة السياسية والحزبية والأمنية بالمنطقة، خريطة تحترم ألوانها نبض الجيل الشبابي الذي يتطلع إلى الحرية والكرامة، ويشعر بالقلق على غيابها أكثر من إحساسه بالعوز والحاجة إلى رغيف الخبز. يا سيادة الرئيس إن صورة أمريكا في الوجدان العربي والإسلامي بالغة القتامة والانحطاط، فالسياسات غير المفهومة للكونجرس، والقرارات الحمقاء التي يتم تبنيها بالأغلبية المطلقة لصالح إسرائيل، تشي بأن الولايات المتحدة قد غدت - في نظر الشارع العربي والإسلامي - إما خادماً لمصالح الصهيونية العالمية على حساب مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة، وإما قد فقدت الرؤية والمسئولية التاريخية ووضعت نفسها في مواجهة مع الأمتين العربية والإسلامية؛ فبدلاً من أن تكون طرفاً مدافعاً عن الشرعية الدولية، تحولت - وأسفاه - إلى أداة هدم لكل ما أنجزته البشرية من قوانين وتشريعات إنسانية تحمي استقرار المجتمع البشري وأمنه وازدهاره. يا سيادة الرئيس كم هي خيبة الأمل في الشارع الفلسطيني جراء حالة الاستخذاء والعجز والتواطؤ الأمريكي مع دولة الاحتلال وسياساتها الاستكبارية المتعالية.. إن شعبنا وأمتنا تشعر بالتقزز من مواقف الدولة الأعظم في العالم، وهذا دافع لتراكم الكراهية والحقد والعداء تجاه أمريكا وكل ما يمت لها بصلة في منطقة الشرق الأوسط.. لا غرو أن يتحرك الشارع الفلسطيني مندداً بالزيارة وأن يصوت 77% منهم قائلين: إنها لن تساعد في دفع عملية السلام بالمنطقة. أتمنى - يا سيادة الرئيس - أن تجد جواباً لسؤال الأمريكي الحائر "لماذا يكرهوننا؟!" وخاصة المتعلق بالعرب والمسلمين قبل سبتمبر القادم، حيث تمر الذكرى الثانية عشر لتفجيرات مبنى التجارة العالمي في نيويورك عام 2001. لا شك أن سياسة الولايات المتحدة إذا ما استمرت على حالها من التواطؤ مع دولة الاحتلال خلال دورتك الرئاسية الثانية، فإنها سوف تجر علي الأمريكيين كوارث فاجعة في علاقاتهم مع العالمين العربي والإسلامي. يا سيادة الرئيس إن الظلم ظلمات، كما أن عاقبته – بالمعطى الإلهي- وخيمة بسبب الرغبة الجامحة في الانتقام، فكم هي الدول والممالك التي أذهب الله عافيتها وأذل سلطانها وشتت شملها بسبب ذلك، وإذا كان العدل أساس الملك، فإن الحكمة هي سرُّ ديمومته، وإن الحكمة تتطلب أن لا تخسر أمريكا علاقاتها بالعالمين العربي والإسلامي من أجل دولة مارقة أهلكت الحرث والنسل، واستباحت بمظالمها كل المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة. أملنا – يا سيادة الرئيس - أن يصحو ضمير أمريكا، وأن تستعيد بعضاً من هيبتها ومكانتها بين الأمم، فنحن شعب لحق به الظلم جراء التواطؤ الدولي مع هذا الكيان الغاصب، والتي لم تكن بلادكم بريئة منه، فنحن سنبقى نطالب بأرضنا ومقدساتنا، وسنظل محافظين على ثوابتنا، وسنعمل باستمرار على ممارسة حقنا المشروع في تحرير بلادنا من الاحتلال، وتحقيق حلم شعبنا في الحرية والاستقلال. إن شعبنا الذي يسكن حبه والتعاطف معه قلوب الملايين من أبناء أمته، بانتظار أن تراجع أمريكا حساباتها لتضع النقاط على الحروف، حيث مصالحها ستتداعى كأوراق الخريف، إذا ظلت فلسطين الدولة في مهب الريح.