خراب مصر وإفلاسها هو, للأسف, رهان المعارضة السياسية الآن, وإشعال الحرائق والأزمات هو غاية المتربصين بكرسي الحكم,وتعطيل العمل والمصالح وإغلاق الطرق هو ما يتطلع إليه بعض الرموز بصفة يومية.. فقد أصبحت ــ كما هو واضح من التصريحات ــ أنباء تراجع الاحتياطي النقدي بمثابة أخبار سارة لهؤلاء, وتفاقم أزمة السولار بشري طيبة لأولئك, وعرقلة قرض صندوق النقد مصدر سعادة لهؤلاء وأولئك, مادام المجتمع سوف يئن, والفوضي سوف تدب, والانفلات يمكن أن يستشري. أما رهان السلطة الحاكمة, فقد انطلق من عدة محاور, أهمها أن الشعب قد فطن بما فيه الكفاية للمؤامرات التي تحاك له, وبالتالي سوف يعمل, وسوف ينتج, وسوف يتصدي لهذه المؤامرات, وأهمها أيضا أن استثمارات قادمة قد تصل في العام المقبل إلي نحو ثلاثمائة مليار دولار, وأن السياحة سوف تنتعش, وأن البطالة سوف تتراجع, وبالتالي سوف يعود الهدوء والاستقرار إلي الشارع, ويظل صندوق الاقتراع هو الفيصل, وما علي العالم الخارجي إلا أن يحترم إرادة الشعب. إلا أن ذلك العالم الخارجي أجده, أيضا, منقسما إلي شقين, الأول منه يحترم إرادة الشعوب بصفة عامة, والآخر, وهو ما ليس كذلك, إما أنه يخشي نجاح التجربة المصرية, كما هو الحال مع بعض دول الخليج, وإما أنه يخشي نجاح التجربة الإسلامية, كما هو الحال مع بعض دول الغرب والولايات المتحدة, وهناك من حسم أمره في هذا الصدد كالنموذج الأول, وهناك من ينتظر, كالنموذج الآخر, إلا أن النتيجة واحدة, وهي أن الثورة المصرية قد تكتشف أنها أصبحت في العراء دون غطاء من أي نوع: سياسي أو اقتصادي أو حتي معنوي, لتعود إلي نقطة البداية, وهي الرهان علي الشعب. والشعب هنا, ومنذ الوهلة الأولي, وقع فريسة وسائل الإعلام, وتصريحات النخبة المتشائمة من جهة, وأوضاع اقتصادية وأمنية مهترئة علي أرض الواقع من جهة أخرى, وما بين رهان النخبة ورهان السلطة, ظهرت علي الساحة دعوات عودة الجيش إلي المشهد السياسي, ومطالب إعادة تشكيل الحكومة, وإرهاصات تأجيل الانتخابات البرلمانية, ثم تتويج كل ذلك بما يسمي بالمجلس الرئاسي, في إشارة إلي حالة الفوضي السياسية والنخبوية التي تعيشها البلاد, وعمليات خلط الأوراق, لتظل الرهانات تطرح نفسها طوال الوقت, دون الأخذ في الاعتبار معاناة ذلك المواطن البسيط, الذي يسدد فاتورة هذه المغامرات بصفة يومية. ووسط ذلك الصراع العقيم, كان من الطبيعي أن يتصدر المشهد, كما هو الحال الآن, عصابات منظمة من البلطجية, فرضت إرادتها, للأسف, علي ميادين الثورة والشارع السياسي, في خضم الأحداث المتلاحقة, ولم تفطن وسائل الإعلام, حتي المعتدلة منها, إلي التفريق في المسميات والمصطلحات, بين الثوار الحقيقيين والبلطجية, أو بين المتظاهرين والمسجلين خطر, أو بين المواطنين الطبيعيين, وأرباب السوابق, بل في أحيان كثيرة كان التغاضي عن ذلك متعمدا, إما لأسباب سياسية وأيديولوجية, أو لأسباب تتعلق بالخوف من مواجهة محتملة مع البلطجية, تكون نتيجتها المباشرة الاعتداء علي المقار والمنشآت والأفراد, وهو ما حدث أخيرا في أكثر من واقعة, إلا أن الحقيقة الواضحة, والمؤلمة في الوقت نفسه, هي ذلك الخيط الرفيع بين البلطجة وممارسات النخبة السياسية, الذي تمثل في قيام الأولي بتنفيذ مآرب وأهواء الثانية, التي لم تحمل علي عاتقها, في يوم ما, استنكار تلك الممارسات, التي وصلت إلي حد الحرق والنهب والتدمير, مادامت تلتقي معها في تحقيق الهدف النهائي, وهو إشاعة الفوضي, وعدم الاستقرار, وهو الرهان الذي أشرنا إليه في السطور الأولي. إذن.. كان علي السلطة الرسمية, حتي تستطيع أن تكسب رهان العمل والاستقرار والإنتاج, أن تتعامل مع الموقف بما يحقق لها الهدف, بمعني أن يكون هناك حسم في مواجهة قطاع الطرق, وأن يكون هناك رادع لمشعلي الحرائق في المنشآت والأبنية الرسمية, وألا تنتظر نزع الغطاء السياسي أو الإعلامي عن هؤلاء, مادام قد أصبح أمرا بعيد المنال, إلا أن ذلك لم يحدث أيضا, وهو ما يؤكد حالة القصور في التعامل مع الأحداث والتراخي في مواجهتها, وهو الأمر الذي يجب تداركه من خلال عدة زوايا, أهمها: - تعاون القوات المسلحة مع جهاز الشرطة خلال الفترة المقبلة, إيمانا من الطرفين بأهمية تحقيق الأمن والأمان للمواطن وللشارع, حيث إن اقتصاد البلاد لم يعد يتحمل أكثر من ذلك. - حصر جميع المسجلين خطر, والتحفظ عليهم لفترة من الوقت, أيا كان عددهم, وذلك لأنهم قد وجدوا, ومازالوا يجدون, في الحالة الراهنة, أرضا خصبة يرتعون فيها كما يشاءون. - الحالة نفسها يجب أن تنطبق علي أطفال الشوارع والمشردين, الذين استخدمهم بعض القوي والأفراد في تنفيذ أعمال إجرامية, أو مهام تتعلق بإشاعة الفوضي والتوتر في الشارع. - بالتزامن مع هذا وذاك تصبح المهمة الأولي للدولة, الدخول سريعا في تنفيذ مشروعات كثيفة العمالة, يمكن أن تستوعب أكبر عدد من العاطلين, مع البدء في تنفيذ خطة تأهيل وتدريب للمسجلين والمشردين علي السواء, نضمن من خلالها حياة كريمة في المستقبل لهؤلاء وأولئك. - فرض تعيين نسبة5% من العمالة بكل سجل تجاري قائم بالفعل, فسوف يساعد ذلك علي توفير الملايين من فرص العمل سريعا, إيمانا من أصحاب الاستثمارات بضرورة المساهمة في الخروج من الحالة الراهنة. - تقديم إعفاءات ضريبية وتسهيلات بنكية لأصحاب السجلات التجارية والمشروعات التي تسهم بنسبة أكبر في عمليات التعيين هذه, إسهاما من الدولة أيضا في حل مشكلاتهم, وخاصة المتعثرين منهم. - تأكيد الإيمان بالله, حافظا لمصر من كل مكروه, والثقة بقدرات المصريين, وإشاعة جو من التفاؤل بالمستقبل, بدلا من إثارة البلبلة, وأجواء الرعب, والخوف من المجهول. - شطب مصطلح العزل من قاموس المصريين, سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا, وذلك من خلال مصالحة شاملة بين جميع طوائف المجتمع علي اختلاف انتماءاتهم الحزبية والطائفية. نحن إذن.. أمام عدة إجراءات, يمكن أن تكسب من خلالها السلطة الرسمية الرهان, وأمام فرصة تاريخية يجب أن تستغلها القوي السياسية المناوئة, لتثبت أنها علي مستوي المسئولية, وأن مصر هي الهدف الأسمي والرهان الأكبر الذي يجب أن يعلو كل مناصب, وكل تطلعات, ونحن إذن في حاجة إلي قرارات فوقية, قوية, وذات مصداقية, تحرك المياه الراكدة الآن, وتبعث الأمل في نفوس المواطنين; هذه القرارات يجب أن تتعلق بمستقبل أكثر إشراقا, من خلال استغلال أراضي الدولة ممتدة الأطراف, ومن خلال استغلال مقومات الدولة المهدرة, ومن خلال رفع الحد الأدني للأجور, والمعاشات, ومن خلال إصلاح نظام التعليم, وتوسيع قاعدة التأمين الصحي, ومن خلال البدء فورا في تنفيذ برنامج المائة يوم, الذي تعهد به الرئيس خلال حملته الانتخابية, وخاصة ما يتعلق منه بالأمن والمرور والخبز, ومن خلال البدء في تنفيذ مشروع النهضة, الذي خاض به حزب الحرية والعدالة الانتخابات التشريعية منها والرئاسية, ومن خلال تطمين جاد, وواضح لأصحاب رءوس الأموال بالداخل, والمصريين بالخارج, والمستثمرين الأجانب علي مشروعاتهم, وعلي مستقبلهم, وأيضا من خلال التصالح في كل قضايا الماضي, مادامت لا تتعلق بالدم. بالتأكيد.. صفحات الماضي, هذه, يجب أن نطويها فورا, وصفحات المستقبل يجب أن نسطرها علي وجه السرعة, بإعادة صياغة العلاقة مع مواطن كان ضحية للاستغلال السمعي والعقلي, وآن الأوان لأن يدرك هذا المواطن أن مصر فوق الجميع, من خلال ممارسات علي الطبيعة, هي مسئولية الدولة الرسمية أولا وأخيرا, التي يجب أن توقن أن كل تقصير منها يقابله عمل أحمق في الشارع, وكل سلبية منها يقابلها تصرف أرعن تجاه مؤسسات الدولة, وبالتالي فإن استمرار هذه الأوضاع بالوتيرة نفسها السائدة حاليا سوف يمثل كارثة, ربما لن تتداركها أي قرارات مستقبلية, ونحن لن ننكر أن هناك إيجابيات خلال الفترة الأخيرة, تمثلت في التعيينات بين العاطلين, أو التثبيت في صفوف المؤقتين, وكذلك جهود الحكومة في توفير حاجات المواطن الأساسية من غذاء, ومواد بترولية, ومياه, وكهرباء, وإحلال وتجديد في المرافق والخدمات والصيانة... إلي آخر ذلك, إلا أن المواطن سوف يظل يتطلع إلي ما هو أكثر, وإلا لما كانت هناك حاجة إلي ثورة, أو إلي سقوط ضحايا