صاحب هذا الكتاب توماس طومسون عرفه عالم البحث العلمي في تاريخ فلسطين القديمة وبالتالي الأبحاث التوراتية قبل نحو عشرين عامًا، عندما نشر كتابه الحديث "تاريخ بني إسرائيل اعتمادًا على المصادر المكتوبة والأثرية" الذي أثار عاصفة في ذلك المجال العلمي، لأنه طرح فيه آراء تجديدية بمقياس ذلك الزمن، ومنها رفض النظرة التقليدية التي تعتمد كتاب اليهودية والمسيحية المقدس، مرجعًا تاريخيًا. سبب العاصفة لم يكن الآراء بحد ذاتها فقط، وإنما أيضًا أنها أتت من داخل الوسط العلمي نفسه، وهو ما يعد في نظر حراس الهيكل -إن صح التعبير- تمردًا وتطاولاً على الخطاب الرسمي المعتمد الذي يؤهل شخصا ما للحديث في المادة. يُذكر أن ذلك العالم الكبير فقدَ منصبه التدريسي في الجامعة الأميركية التي كان يعمل بها واضطر لمغادرة بلاده، وحطت به الرحال في الدانمارك حيث بدأ التدريس في كلية اللاهوت بجامعة كوبنهاغن إلى الآن، واستمر في نشر آرائه الحداثية. الكتابيضم الكتاب مجموعة من الدراسات أنجزها المؤلف عبر فترة تطوره العلمي، نشر القسم الأكبر منها في دوريات مختلفة وعمل هنا على تعديل بعضها، وبعضها نشره للمرة الأولى. الأبحاث التوراتية أو لنقل مجازًا الأبحاث الكتابية، نسبة إلى كتاب اليهودية والمسيحية المقدس، موضوع على جانب كبير من التعقيد، والعمل فيه جديًا وإبداعيًا يشترط معرفة الكاتب معرفة عميقة بتاريخ المشرق العربي القديم وممالكه وتاريخ الإغريق والرومان في المنطقة، إضافة إلى لغات تلك الممالك وما يرتبط بالموضوع من معارف علمية مثل علمي الآثار والطبوغرافيا وما إلى ذلك، وهذا ما يجعل عدد علماء التوراة محدودا للغاية، وقصر البحث فيه على حلقة صغيرة من العلماء الذين تمكنوا من تمرير تحليلاتهم التي أثبتت التنقيبات الأثرية اللاحقة خطأها. مقدمة الكتاب كتبها العالم الإنجليزي الكبير فيليب ديفس صاحب العديد من المؤلفات وكذلك المقالات عن هذا الموضوع والتي نشرها في الدوريات المتخصصة، وكان أكثرها إثارة للجدل رأيه بأن التوراة كتبت في القرن الثاني قبل الميلاد على أبعد تقدير، وأن ما يعرف باسم نقش حزقيا الموجود حاليًا في متحف بإسطنبول يعود إلى الفترة الهيلنستية من تاريخ فلسطين، أي إلى الفترة ذاتها وليس إلى القرن السابع قبل الميلاد. المؤلف بدوره يشكك في محتوى العديد من النقوش التي يحلو لبعض علماء التوراة التقليديين عدها إثباتات على صحة مقاربتهم للنصوص، ومن ذلك على سبيل المثال نقش ميشع، ويحسم بأنه نص دعائي وليس تاريخيًا، ولم يكن قصد كاتبه سوى الترويج لملكهم لا غير، علمًا بأنه ساد رأي عند اكتشافه بأن بدو شرقي فلسطين -أي ما عرف باسم عبر الأردن، أو شرق الأردن- زوّروه!! "المؤلف لا يتعامل مع النصوص التوراتية بوصفها نصوصا تاريخية وإنما بوصفها نصوصًا أدبية تعبر عن شوق روحي أكثر من أي أمر آخر، وأن التاريخ فيها عندما يحضر، وجب النظر إليه من منظور مختلف عن السائد " نظرًا لتشعب موضوعات الكتاب الموزعة على 19 مقالة، فإن مقدمة فيليب ديفس الذي لا يتفق بالضرورة مع كل أطروحات المؤلف، تعد أساسا لأنه يشرح فيها بلغة سهلة مبسطة، كتابات طومسون وتطورها، ومواقف علماء التوراة منها، وما وصلت إليه الأبحاث النظرية والتطبيقية بالخصوص. وهو يلفت انتباه القارئ إلى أن طومسون لا يتعامل مع النصوص التوراتية بوصفها نصوصا تاريخية، وإنما بوصفها نصوصًا أدبية تعبر عن شوق روحي أكثر من أي أمر آخر، وأن التاريخ فيها عندما يحضر، وجب النظر إليه من منظور مختلف عن السائد، ويقدم أسبابا إضافية إلى رأي كاتب المقدمة. في الوقت نفسه فإنه يشدد على أن كتاب طومسون الأكثر شهرة فضح المشاكل الكبيرة التي تحيط بالأبحاث التوراتية التقليدية وقدم رؤى بديلة لها. نقول هذا ونذكر أن هذا العلم معروف بصفته عش الأفاعي أو عش العقارب، لأن أي خطأ يرتكبه الباحث يعد قاتلاً وينهي علاقته بالمادة والأبحاث. التوراة ليست تاريخافي عرضنا لهذا الكتاب المهم سنتجنب الخوض في تفاصيل كل بحث لأن شرح مادته يتطلب من القارئ معارف متخصصة، وهو ما دفعنا إلى التركيز على نقاط نرى أنها الأكثر إثارة للاهتمام. وفي مقدمة ذلك أن المؤلف وزملاءه من كبار العلماء مثل كيث وايتلام صاحب كتاب "تلفيق إسرائيل التوراتي"، و"طمس التاريخ الفلسطيني"، وكتابه الجديد "إيقاعات الزمن.. إعادة ربط تاريخ فلسطين" الذي صدر للتو، وفيليب ديفس ونيلز لمكه وفان سيترز وغيرهم، خصوصًا ممن عملوا في هذا الموضوع مطلع القرن الماضي وكانوا متحررين من هيمنة الخطاب التقليدي.. حسموا بأن التوراة ليست تاريخًا، وأن أقساما كثيرة منها منتحل من حضارات الشرق العتيقة ومن الفلسفة الإغريقية والهلنستية، وأن الأبحاث الأثرية في مختلف بقاع المشرق العربي تثبت صحة هذا الرأي. وتوماس طومسون يقدم الأدلة العلمية التي تدعم اجتهاداته، وفي الوقت نفسه ينقض صحة الآراء المخالفة. من منظور المؤلف فإن مختلف الأسفار والقصص والمصطلحات التي ناقشها في كتابه نصوص روحية ونصوص ميثولوجيا وليست تاريخًا. لكن كاتب المقدمة يقول إن الحسم في هذا الأمر يتطلب شرح أسباب الابتعاد عن أطروحات طومسون وما البديل لما كتبه. بكلمات أخرى، إذا تمسك علماء التوراة أو علماء الكتاب بنظرتهم التاريخية، فإن آراء طومسون التي طورها عبر عدد كبير من الأبحاث تجبرهم على النظر إلى آرائهم في تاريخية النصوص من منظور آخر. أما طومسون فلا يهاب الخوض في موضوعات تعد في ظن البعض من المحرمات، ونعني بذلك السياسة ودور كيان العدو في تحوير التاريخ وتزويره لصالح روايته الصهيونية، حيث يعمل على تغيير أسماء مواقع في فلسطين ضارب عمقها في التاريخ القديم لتسويغ احتلاله أرض فلسطين، والوحي بأن كيانه استمرار لمملكتي بني إسرائيل، وأن مدينة القدس كانت المركز الروحي لليهودية. بل إنه يجزم بأن مواقع أخرى في مختلف بطاح المشرق العربي كانت ذات أهمية روحية تفوق تلك التي يفرضها العدو الصهيوني على القدس، ومنها على سبيل المثال عَرَق الأمير في شرق الأردن وجزيرة الفيلة في صعيد مصر ومدينة تل المقدم أيضًا في مصر التي عرفت قديمًا باسم ليونتوبوليس. ويمكن إضافة مواقع جغرافية عديدة أخرى إلى القائمة، ومنها الدامور الواقعة جنوب العاصمة اللبنانية. وهذا التزوير المسيس لتاريخ فلسطين هو ما جعل المؤلف يخصص قسمًا من كتابه للمادة بعنوان "نظرة صهيونية للماضي" حيث عراه، وربط ذلك كله بالتطهير العرقي الذي مارسته الدولة الصهيونية بحق أهل البلاد، وكل الممارسات العنصرية ذات العلاقة، حيث يحاول العدو الصهيوني خلق تاريخ جديد يمنح كيانه شرعية تاريخية دينية. الآن وجب التشديد على وجود أخطاء في ترجمة تعريفات عربية محددة ذات علاقة بالمادة، وهي مهمة لفهم الكتاب ومحتواه والأفكار المرتبطة بالمادة. فكافة اللغات اللاتينية تميز الديانة اليهودية بين مزدوجتين، واليهود، علمًا بأنه يوجد أكثر من يهود! اسم الديانة في الإنجليزية على سبيل المثال "judaism" وهو منسوب إلى مملكة يهوذا التي لم يعثر على أثر لها في فلسطين، وإن حوَت نقوش آشورية أسماء قليلة تشبه ما ورد في التوراة. أما اليهود (jews) فكلمة فرنسية الأصل ولا علاقة بين الاسمين أو المصطلحين. "رغم طبيعته التخصصية وآراء مؤلفه العالِم الإشكالية أحيانا, يبقى هذا الكتاب إسهاما مهما في كشف آراء سياسية وفكرية تدثرت بالعلم لمنح ادعاءاتها شرعية منعتها عنها الحقائق التاريخية العنيدة " ومن المهم التشديد على حقيقة أن اليهودية ديانة تقوم على لامركزية التعبد، وهي اتجاه نشأ في القرن الثاني الميلادي في مدينة يبنة الفلسطينية المحتلة على يد الفريسيين الذين شكلوا إحدى طوائف في ديانة أطلق عليها علماء مطلق القرن الماضي المؤسسون لهذا التهذيب العلمي، اسم "اليَهْوِيَّة"، نسبة إلى إله التوراة يَهْوَه. رغم طبيعته التخصصية، وآراء مؤلفه العالِم الإشكالية أحيانًا، يبقى هذا الكتاب إسهاما مهما في كشف آراء سياسية وفكرية تدثرت بالعلم لمنح ادعاءاتها شرعية منعتها عنها الحقائق التاريخية العنيدة.ويا ليت العرب يلتفتون إلى هذا التهذيب العلمي ودراسته والإسهام فيه علميًا، ذلك أنه يمس تاريخنا وبلادنا، ومرتبط وثيق الارتباط بمستقبل بلادنا التي تعد -من منظور الرأي السائد في الدراسات التوراتية- أرض التوراة لا أكثر. فالكتّاب العرب رغم كل ما نشره بعضهم، أبعد ما يكونون عن امتلاك المعارف العلمية التي تؤهلهم الخوض في هذا الموضوع الشائك والخطير، وكتاباتهم في هذا المجال العلمي تبقى مجردة من أي منهجية علمية، وأي ادعاء مغاير غير صحيح. وليتنا ندرك أنه ثمة تخصصات في الأبحاث العلمية وأنها لا تخضع لرأي معجب أو رافض، وأن تقويم أي عمل يجب أن يكون صادرًا من أهل الاختصاص، ووحدهم فقط. - الكتاب: السرد التوراتي وتاريخ فلسطين- سلسلة منظور متغير2- المؤلف: طوماس طومسون وتقديم فيليب ديفس- عدد الصفحات: 358- الناشر: إكوينكس، المملكة المتحدة- الطبعة: الأولى 2013