"عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان". ها نحن نعيش حالة انكشاف سياسي ومالي داخلي وخارجي أكثر من أي وقت مضى. الانكشاف الخارجي سهل ومريح نفسياً على الأقل. فعندما تعاقب جماعة بشرية، أو شعب يعيش منذ 45 سنة تحت الاحتلال بتهمة المطالبة بإنهاء الاحتلال، فإن هذا الظلم الفادح يُسجل للشعب المنكوب الذي يستطيع الافتخار بأنه ضد الاحتلال، ولا يملك غير الاستمرار في رفض ومقاومة الاحتلال وصولاً إلى الظفر بالحرية. دولة الاحتلال تحتجز الضرائب المقتطعة من الشعب، هذه قرصنة تمارسها دولة تتباهى بأنها جزء من العالم الحر. عقوبة مزعجة لكنها لا تقارن من حيث الخطورة بالقرصنة السياسية، بنهب الأرض والموارد ومضاعفة الاستيطان وتهويد مدينة القدس وتضييق الخناق على المواطنين القاطنين على 60% من أراضي الضفة بغية إزاحتهم منها.الدول المانحة تتوقف عن الدعم نزولاً عند رغبة الدولة المحتلة، وتكشف زيف الوعود التي تحدثت عن دعم تنمية تمكّن الشعب الفلسطيني من الانفصال عن الاحتلال والاعتماد على الذات. تراجع الدول المانحة وتكيّفها مع أجندة الاحتلال لم يكن وليد السنتين الأخيرتين، بل ترافق مع سياسة الاحتلال في تقويض مقومات الدولة والحل السياسي الذي يقبل به الشعب الفلسطيني. مع بناء شبكة الطرق الالتفافية وجدار الفصل العنصري وتأسيس المستوطنات الجديدة تحول الدعم إلى شكل من أشكال الإغاثة الإنسانية يضاف إليه دعم بناء أجهزة أمنية كأولوية. الدول العربية لا تفي بالتزاماتها المقرة في اجتماعات القمة تماشياً مع الضغوط الأميركية أو انحيازاً لطرف فلسطيني دون آخر. مشاركة الدول العربية في معاقبة شعب شقيق يطالب بإنهاء الاحتلال، مسألة فيها نظر. أما صمت الدول العربية إزاء الهجوم الاستيطاني الشامل على الأراضي الفلسطينية، والصمت على ما تتعرض له مدينة القدس من قضم وتهويد المدينة المقدسة بمعدلات غير مسبوقة، هذه المواقف العربية لا تغتفر ولا يمكن تبريرها أو التسامح معها، مواقف تعبر عن تحول فادح لم يحدث إبان نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948، بل هو أكثر خطورة، صمت يترافق مع بداية تغيير النظام العربي لمصلحة الاتجاهات الإسلامية. وكأن لثورات الشعوب العربية مفاعيل عكسية. فعندما تسخّر حكومة الاحتلال كل قواها وتشرع بتصفية مقومات الكيان الوطني الفلسطيني على الأرض الفلسطينية من دون رد عربي، وذلك في ذروة الثورات العربية. إن الصمت والمزيد من الصمت سيشجعان دولة الاحتلال على المضي في تصفية القضية الفلسطينية وإذابتها في الكيانات العربية. بلغة المصالح، هل يوجد مصلحة للأنظمة العربية في التنصل غير المعلن من القضية الفلسطينية، وفي لعب دور شاهد الزور على استباحة حقوق الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته من قبل دولة الاحتلال؟ الجواب: إن المشاركة في معاقبة الشعب الفلسطيني وعدم الربط بين الاتفاقات والمعاهدات المبرمة مع دولة الاحتلال بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يعني تنصلاً من القضية الفلسطينية. كذلك، فإن تلبية المصالح الحيوية للولايات المتحدة والغرب في مجال النفط والأسواق والقواعد العسكرية من غير ربط مع إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية والعربية يعني تنصلاً من القضية الفلسطينية. هذه السياسات الممارسة عملياً تجيب عن السؤال بأثر رجعي وتراكمي. أما الآن وقد اقترب التراكم في الفعل الإسرائيلي إلى حسم، فإن الانكشاف الرسمي العربي يبدو أشد وطأةً وأبلغ تأثيراً. الآن لا يمكن التغطية على الاصطفاف، لا يمكن تمويه الخنادق، لا بالبيانات أو بالقرارات التي لم تعد تصلح لرفع العتب ومحاولة الحفاظ على ماء الوجه.لا يكتمل المشهد العربي إلا بحضور الشعوب. لكنها ما أن حضرت بالثورة وأوشكت على امتلاك حق نقض علاقات التبعية الرسمية المهينة حتى سرقت الثورة، فتصدرت المشهد الثورة المضادة التي تحاول بشراسة قطع الطريق على مهمة الثورة الأساسية وهي إسقاط علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتفكيك الأنظمة المستبدة الفاسدة. ولا تستقيم مهمة خروج الشعوب العربية من علاقات التبعية إلا بإخراج الشعب الفلسطيني من قبضة الاحتلال الإسرائيلي. هنا، ثمة مصالح حقيقية مشتركة بين الشعوب العربية والشعب الفلسطيني. لذا فإن رهان الشعب الفلسطيني على نجاح الثورات ليس عبثياً ولا تطفلياً، كما أن مطالبته الشعوب الشقيقة وقواها الحية الديمقراطية والثورية بممارسة الضغوط على الأنظمة العربية هو المطلوب في هذا المنعطف الذي يمر به الشعب الفلسطيني. الانكشاف الداخلي، أسوأ أشكاله الخطاب والرؤية التي يتقدم بها البعض من المستوى السياسي. كان يقال إن السلطة جاهزة للانتقال إلى مرحلة الدولة. ثم يتبين أن الجاهزية مركبة على وعود الدعم الخارجي، ومحاصرة بشبكة من الديون. أو كأن يقول البعض إن امتناع إسرائيل عن دفع الضرائب مدة شهر آخر سيؤدي إلى انهيار السلطة. هذا الكلام غير المسؤول يقدم نموذجاً بائساً للكيان المتراكم منذ عشرات السنين، ويشجع دولة الاحتلال على المضي في الضغط والابتزاز. إن سلطة لا تحتمل الصمود لشهر واحد لا تستحق البقاء. لقد تبين أن المستوى السياسي في المنظمة والسلطة لم يستعد للمواجهة في حقل الاقتصاد، ذلك أن العامل الاقتصادي ومستوى الاعتماد على الذات والصمود هو جزء حيوي من المعركة السياسية. السؤال لماذا لم تحرز السلطة تقدماً يذكر على صعيد الاعتماد على الذات وتنمية الموارد؟ لماذا لم تضع حلولاً اقتصاديةً قابلةً للحل؟ ثمة علاقة بين الخطة السياسية وأدواتها وأساليبها وتنمية الموارد. فالاعتماد على حل سياسي ستقدمه الولايات المتحدة والرباعية من خلال المفاوضات من غير وضع احتمال بالإخفاق قاد المستوى السياسي إلى الاعتماد على الدعم الخارجي كمصدر وحيد.الآن وبعد انكشاف الخداع السياسي عبر المفاوضات، بعد التمرد الجزئي والرفض الجزئي للاحتكار الأميركي والإسرائيلي للعملية السياسية. فإن ذلك يفتح الأبواب أما ضغوط وتدخلات أشد. ولا يمكن مواجهة ذلك بسياسة التوسل، وبخطاب لمرتعدين. الحفاظ على كرامة الفلسطيني وعدم المس بها هي أهم شيء وقبل أي شيء. نحتاج لخطة تقشف مدروسة بعناية من خبراء ومختصين. وخطة لتنمية الموارد وتعديلات جدية في البنية الإدارية. ووضع أولويات نابعة من حاجة الشعب ومن مصالحه الوطنية. ولن يكون ذلك ممكناً بمعزل عن خطة وطنية لمواجهة الزحف الاستيطاني. Mohanned_t@yahoo.com