قال الحكماء: "رأت أرنبة على الماء ما لم يراه يحزقيل". بمعنى أن التجربة الشخصية التي اجتازتها إمرأة غير هامة في لحظة قطع البحر الاحمر عند الخروج من مصر، أقوى بكثير من تجربة النبي يحزقيل حيال رؤيا "العظام اليابسة". أنا، كتلك الارنبة، اجتزت التجربة الشخصية لحرب يوم الغفران. شهدت كيف ينهار ويتحطم علينا مبنى من ثلاثة طوابق بصخب هائل. الطابق الاول كان طابق شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الاسرائيلي. فقد تعهدت بمنح الجيش الاسرائيلي اخطارا بالحرب الشاملة، يتيح له الاستعداد كما ينبغي وفي الوقت المناسب. صدقوها. هذا التصديق تحطم في 6 اكتوبر في الساعة 13:50. حتى هذه الساعة تقريبا قدرت شعبة الاستخبارات بان "احتمالية الحرب متدنية جدا". واستند تقديرها الى مفهوم مغلوط معلب وبموجبه مصر لن تشن الحرب طالما ليس لها سلاح جو قوي قادر على الهجوم في عمق اسرائيل. الطابق الثاني هو طابق القيادة العسكرية – الامنية – السياسية وهذا هو المفهوم المغلوط الامني. هو وشكل تفكيره انهارا بين 6 و 9 اكتوبر. كل المفهوم الامني كان مغلقا على الردع. وتحول الردع الى معتقد. وكان التفكير على النحو التالي: الجيش الاسرائيلي أقوى بكثير من الجيش المصري. لدينا سلاح جو هو من أفضل الاسلحة في العالم، لدينا المدرعات الافضل، ولدينا القادة الافضل. السادات يعرف هذا. وعليه فانه يعرف إنه إذا شن الحرب فانه سيخسر فيها بيقين. وعليه فانه لن يشن الحرب! فهو ليس مجنونا! إذ أننا لو كنا مكانه، فنحن أيضا ما كنا لنشن الحرب. اعتقدنا أننا مثل شاحنة محملة بالمواد المتفجرة تطير على الطريق الضيق وأمامها تأتي دراجة صغيرة وعليها السادات، وهو يعرف بانه اذا اصطدم بنا فانه سيسحق. ولهذا فانه سيمتنع في اللحظة الاخيرة عن الصدام بنا. جهاز الامن عندنا ظن أن السادات يفكر مثله، بشكل منطقي. وماذا يحصل اذا جن جنون السادات رغم ذلك، ولم يفكر بمنطق، وشن الحرب؟ جهازنا السياسي والامني فكر في ذلك بالفعل وقال لنفسه: عندها في مثل هذه الحالة جيشنا النظامي، الذي سيتلقى الاخطار في الوقت المناسب، سيصد القوة المهاجمة. كل هذا المفهوم كان مغلوطا تماما. فهو لم يفهم بان الردع التقليدي دينامي وليس جامدا؛ لم يفهم ان السادات لا يريد بالذات أن ينتصر في الحرب، ولا يضيره اذا ما خسر؛ إذ بالنسبة له كانت الحرب مجرد رواق الى ميدان المعركة السياسية. هناك يريد أن ينتصر؛ هذا المفهوم لم يفكر بانه في الحرب يمكن للمرء أن يخسر وأن ينتصر في نفس الوقت أيضا: ينتصر على المستوى العملياتي ويخسر على المستوى الاستراتيجي؛ لم يدرك هذا المفهوم بان السادات مهان ويائس، و "خير موته من حياته". وكان الطابق الاعلى. طابق كل النخب الاسرائيلية وقياداتها، باستثناء الشواذ بالطبع. منذ 1967 كان لها مفهوم أعلى بشأن تفوقها كمجتمع غربي متقدم على المجتمع العربي الدون. كانت هذه هي النظارات التي عبرها نظرت النخب الى الواقع، وكانت تكيف الواقع مع المفهوم المغلوط الكبير. عندما انهار كل شيء دفعة واحدة، ليس في عملية بطيئة لسنوات طويلة، كان الانكسار رهيبا وفظيعا. بعض من القيادة تغلبوا عليه (مثل ددو، اريك شارون ورافول). آخرون انتقلوا الى التطرف الاخر، مثل موشيه ديان الذي بات يرى امام ناظريه خراب "البيت الثالث". ومن أجل تخفيف وطمس الانكسار الوطني والشخصي، اختلقت على مدى السنين علاجات سحرية. تقرير لجنة أغرنات عزا كل سبب الانكسار الى "المفهوم الاستخباري المغلوط"، وكان "العميل المزدوج". علاج قال ان كبير عملاء الموساد كان عميلا مزدوجا أوقع الدولة في الفخ. والعلاج السحري المؤكد: كله بسبب غولدا مائير التي لم تستجب زعما لاقتراحات السادات السلمية. كلها علاجات سحرية لاطباء عبدة الاصنام. هل يمكن لمبنى مشابه من المفاهيم المغلوطة أن ينهار على رأسنا في المستقبل؟ المتشائمون سيقولون: "نوازع قلب الانسان أسوأ من شبابه".