مـدخــل الأطروحة الرّئيسة في هذه المقالة هي أنّ أعيان مدينة دمشق، لأسباب تاريخيّة متراكمة، حالوا دون أن تتطوّر سورية 1946 إلى دولة ديمقراطيّة حديثة، وأنّ عدم تطوّرها على هذا النّحو، لم يكن خيارًا خالصًا للحكّام الذين تعاقبوا على السلطة السياسيّة، بل إنّ أسبابًا تاريخيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة كانت تعيق مثل هذا التحوّل، منها ضعف البنية التجاريّة للمدينة في عصر اندماج السوق السوريّة في السوق العالميّة في القرن التاسع عشر، وغلبة ملّاك الأرض على الحياة الاقتصاديّة للمدينة، ودور رجال الدّين (وبينهم كثير من ملاك الأرض والتجّار) في السعي الدائم لتلطيف الصراعات الاجتماعيّة كونهم وسطاء اجتماعيّين بين الفلّاحين والملاّك الذين كانوا مرتبطين -إلى حدٍّ بعيد- بعلاقات أبويّة متوارثة[1]، والطابع المحافظ للصناعيّين والحرفيّين ورجال الأعمال. وهذه العناصر كلّها تشابكت معًا لتصبح سببًا رئيسًا، من بين أسبابٍ أُخرى، في عدم تبلور فئة اجتماعيّة (أو طبقة اجتماعيّة) تتبنّى -عضويًّا- مفاهيم الحرّية والتعدديّة، وتحمل مشروعًا سياسيًّا جدّيًّا لبناء نظام سياسيّ ديمقراطي معاصر.سأحاول أيضًا البرهنة على أنّ مثلّث ملّاك الأرض والتجّار ورجال الدين، وهم أعيان دمشق، أعاقوا العَلمانيّة في سورية، أيّما إعاقة، جرّاء الطابع المحافظ لهذا الثالوث التاريخيّ، ومهّدوا الطريق، جرّاء فشل سياستهم الإقصائيّة، لاكتساح الأرياف البائسة معالم الدولة الحديثة المتبرعمة، الأمر الذي أدّى إلى إقصاء المدينة نفسها، ولو جزئيًّا، عن الأفكار العَلمانيّة وعن التيّارات السياسيّة الديمقراطيّة، وإلى تهميش الأرياف التي وجد أبناؤها في الأحزاب العَلمانيّة ملاذًا يعدهم بالمساواة والمواطنة المتساوية، ووجدوا في الجيش ميدانًا للتّرقية الاجتماعية. وهذه العمليّة المركّبة والمتفاعلة كانت -على الأرجح- الأساس الذي أدّى إلى ظهور الدولة التسلّطية المعاصرة في سورية. وبهذا المعنى، فإنّ التسلّط (أو الاستبداد) لم يكن خيارًا حرًّا للحاكم أو للجماعة الحاكمة، بقدر ما كان نتيجة غير محسوبة تمامًا لهيمنة الأعيان على السّياسة والثروة في المدينة العاصمة، لا لسورية وحدها، بل لبلاد الشام كلّها تقريبًا.أوّلًا: المستبدّ والطّاغيةالتسلّط ظاهرة تاريخيّة عرفتها جميع الحضارات البشريّة بلا استثناء، غير أنّ الإنسانيّة المفكّرة والمتألّمة تمكّنت، في إحدى مراحل تطوّرها، وخلال مخاضٍ اقتصاديّ واجتماعيّ وسياسيّ وفكريّ عسير، من أن ترمي عن كاهلها قيود التسلّط والاستبداد، وتنطلق إلى رحاب الحرّية، حتّى باتت الدولة الاستبداديّة ذكرى نافرة في تاريخها المكتوب بالألم. أمّا الشعوب العربيّة فما برحت تدفع ثمن الفَوَات التاريخي الذي جعلها تتخلّف سنينَ طويلة عن بقيّة شعوب الأرض، وما زالت عالقة في شباك الدولة التسلّطية، ما إن تقوم مرّة حتّى تقع مجدّدًا. وفي خضمّ ما يثيره هذا الواقع المروِّع من أسئلة تاريخيّة ومستقبليّة معًا، فإنّ ثمّة مجموعة من الأسئلة قلّما نالت ما تستحقّ من التأمّل والاستقصاء على غرار: هل يختار الحاكم العربيّ الاستبداد هكذا بحسب رغبته، أم إنّ للاستبداد والتسلّط منشأً تاريخيًّا واجتماعيًّا يُرغم الحاكم أحيانًا على سلوك هذا الطريق؟ هل يختار الحاكم العربيّ بمزاجه تطبيق القاعدة المشهورة التي تقول إنّ من الأفضل للحاكم أن تهابه الرعيّة بدلًا من أن تحبّه، وإنّ صداقة الجنود المسلّحين أهمّ من صداقة الشعب الأعزل؟ وهل يسير الحاكم هكذا بإرادته على هدي قاعدة "كاليغولا" اللاتينيّة التي تقول: ليكرهوا شرط أن يطيعوا؟ ولماذا لا يختار الحاكم أن تحبّه الرعيّة وأن تهابه في الوقت نفسه؟ ومع تحفّظنا من كلمة "الرعيّة"، فلماذا حتّى الذين يدعون إلى الديمقراطيّة من زعماء الشعب هم دكتاتوريّون في أحزابهم وفي جماعتهم وفي طوائفهم؟يقدّم لنا لبنان أفضل مثال لهذه المفارقة حيث كلّ زعيم فيه هو دكتاتور حقيقي يورِّث زعامته التي ورثها بدوره، وهو غير مستعدّ للتزحزح عنها إلا بالموت. ولبنان الذي تمتّع بحرّيات كثيرة قياسًا على محيطه العربي، لكن وجرّاء نظام الاقتسام الطائفي للدولة، لم تكن الحرّيات متاحة فيه خارج الطوائف؛ فالشيوعيون والبعثيون والقوميون العرب والفلسطينيون كانوا زوّارًا دائمين للسّجون في خمسينيات القرن العشرين وستّينياته. وليس بعيدًا عن الذاكرة الفتك الذي أنزله النظام الطائفي اللبنانيّ بالفلسطينيّين وبالحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في مطلع سنة 1962 غداة الانقلاب العسكريّ الفاشل. والسّبب الواضح هو أنّ هذه الأحزاب كانت ذات طابع عَلماني، ونشأت خارج الطوائف، وكثيرًا ما خاضت اشتباكًا فكريًّا وسياسيًّا مع زعماء الطّوائف، وهو الأمر الذي جعلها بلا حماية البتّة، في الوقت الذي تمثّل الطائفة في لبنان عصبيّة دمّية تحمي المنتمين إليها[2].في موروثنا الكلامي عبارة سائرة في الأفواه هي: "إنّما العاجز مَن لا يستبدّ". وفي إرثنا الشعريّ ما هو قريب منها، مثل البيت التالي:والظّلمُ من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فَلِعِلَّةٍ لا يَظلموالاستبداد بهذا المعنى، غير الطّغيان. فالمستبدّ هو من استبدّ برأيه كالأب والزعيم. والمستبدّ ربّما يرغب أحيانًا، في حماية شعبه ويتطلّع إلى تقدّمه. بينما الطاغية يكون فاسدًا بالضرورة، وهدفه السلطة والثروة فقط، وهو كمن يقطع شجرة لينال ثمرة[3]. والاستبداد ليس شأنًا يختاره الحاكم هكذا بملء إرادته أو بمزاجه، إنّما له منشأٌ تاريخيّ واجتماعيّ، ودينيّ أيضًا. بينما الديمقراطيّة في بلادنا لا تزال بلا جذور في التاريخ والاجتماع والدّين معًا، ومن المحال أن تنبت جذورها في الهواء. وجذور الاستبداد موجودة في الحضارات النهريّة والصحراويّة بالدّرجة الأولى (وفي الحضارات البعليّة جزئيًّا)، وهي الحضارات التي ظهرت الواحديّة في رحابها، وقضت على التعدديّة فيها. أمّا الديمقراطيّة، فقد نشأت في أوّل نشوئها في المدن التجاريّة الساحليّة أو في الجزر (أثينا مثلًا). والديمقراطيّة كنظام سياسيّ، لا تنشأ في البوادي أو في الجبال العاصية البعيدة عن طرق التجارة والحضارة. فالديمقراطيّة هي بنت المدينة التجاريّة الحديثة التي تغلّبت على أريافها بالإنتاج، وتغلّبت على الإقطاع بشعار الحرّية (حرّية العمل وحرّية المرور وحرّية التجارة ). أمّا المدينة العربية، فقد كانت دومًا مدينة الحاكم وشرطته وجنده، وتغلّبت على الريف لا بالإنتاج، بل بالفتح العسكريّ.كانت المدينة الأوروبية التي ظهرت فيها بشائر الديمقراطيّة الحديثة هي مدينة الطبقة الثالثة (البرجوازيّة)، أي مدينة التجّار الذين حوّلوا التبادل إلى علم، وفيها ظهرت مفاهيم الادّخار والاستثمار والإنتاج. بينما كان أعيان المدن العربيّة يرسّخون مفاهيم الاستهلاك والتبذير في الوقت الذي كان فيه التجّار والحرفيّون يلجؤون إلى الاكتناز خوفًا من المصادرة ومن بطش السلطان المستبدّ. فالدولة الإسلاميّة العربيّة الأولى كانت دولةً ريعيّة طُفيليّة اغتنت بغنائم الفتح وبخراج الأراضي المفتوحة والجزية والرّسوم والأعشار، وأغنت الحاكم عن نهب سكّان المدن بالضّرائب والمصادرات، فازدهر وضع التجّار والحرفيّين في بداية الأمر. لكن، ما إن انحسرت الفتوحات، وانكمشت عوائد الجزية بدخول الناس أفواجًا في دين الله، حتّى فتح الحاكمون أبوابًا لنهب التجّار والحرفيّين، وراحوا يصادرون الأراضي من الذين أُقطعت لهم، أو من الذين استولوا عليها بالفتح. لنتذكّر رسالة سليمان بن عبد الملك إلى صاحب الخراج في مصر التي يقول له فيها: "احلب الضّرع فإن انقطع فاحلب الدم". ولعلّ ضعف التجّار وهوَان أصحاب الحرف، علاوةً على عدم احترام الملكيّة الخاصّة للأرض، أدّى، ذلك كلّه، إلى إعاقة ظهور المدينة التجاريّة الحديثة الخليقة بانبثاق قيم الحرّية والتعدّد والديمقراطيّة فيها، وأفسحا في المجال لملّاك الأرض ورجال الدين كي يتسيّدوا الدولة ومصالحها تاركين لبقايا التجّار والحرفيّين فتات الثروة.ثانيًا: النّموذج السّوريتنتمي سورية إلى النموذج الشرق أوسطيّ من أنظمة التسلّط ذات القاعدة الشعبيّة الواسعة. وبدأ هذا النّموذج يظهر في أوائل خمسينيّات القرن العشرين بعد زوال الانتداب الفرنسيّ. وقد أقامت ملامحه الأولى النّخب السياسيّة التي ناضلت ضدّ الاستعمار، والتي وجدت نفسها فجأةً عرضةً لتهديد إسرائيل، وللاضطرابات الداخليّة معًا، فسعت إلى تطوير جيش وطنيّ حديث، وإلى إنشاء إدارة حديثة نوعًا ما، واعتمدت عليهما في تأمين الاستقرار وفي اكتساب الشرعيّة. غير أنّ التهديدات الخارجيّة والصراعات الداخليّة حوَّلت الإدارة لاحقًا إلى شكل متخلّف من البيروقراطيّة المنخورة بالفساد، والجيش إلى أداة للحكم ولقمع الاضطرابات فحسب. 1. مال فاتورة ومال قبانتتألّف سورية تقليديًّا من ثلاث بيئات أساسيّة هي: المدينة (وأقصد بذلك دمشق وحلب بالدرجة الأولى) والريف والبادية. وقد كانت المدن السورية مزدهرة بالتجارة تاريخيًّا لأنّها واقعة على مفارق طرق التجارة القديمة. غير أنّ حلب -مثلًا- انحطّت مكانتها بعد تحوّل طرق المواصلات عنها عند افتتاح قناة السويس في سنة 1869، وفقدت نحو 90% من تجارتها. وتراجعت مكانة دمشق بعد تقسيم بلاد الشّام، جرّاء اتفاقيّة سايكس- بيكو سنة 1916. فبدلا من أن تكون، كما كانت دائمًا، عاصمة لمنطقة تمتدّ فتحتها البحرية من العريش إلى مرسين، وباتت عاصمة لدولة ذات فتحة بحريّة ضيّقة بين طرطوس وكَسَب، وهما المدينتان اللتان أصابتا قديمًا ازدهارًا مميّزًا من صناعة النسيج والحرف اليدويّة وتجارة الحبوب والحرير والسيوف، ولكن المنافسة ما لبثت أن قضت على هذه الصّناعة وعلى تلك الحرف، ولم تترك لها إلّا هامشًا بسيطًا، وتحوّل بعض التجّار فيهما إلى وسطاء لدى التجّار الأوروبيّين.إنّ التسلسل الطبقيّ للفئات الاجتماعيّة في مدينة دمشق، وهي المدينة التي تصنع الثروة والسياسة معًا، كان على النحو التالي: ملّاك الأرض على رأس الهرم الاجتماعيّ، يليهم رجال الدّين، فـ"الآغوات" الذين تحوّلوا من سلطة لحفظ النّظام إلى تجّار حبوب ومواشٍ، ثمّ التجّار الصغار وهم أصحاب الدكاكين والمحلات البسيطة في الأسواق التقليديّة كالحميدية، وأخيرا الحرفيّون. أمّا الفلّاحون، فهم خارج نطاق المدينة مع أنّهم يرتبطون بملّاك الأرض من أعيان المدينة برباط وثيق. وبطبيعة الحال، لا توجد حدود مرسومة بين هذه الفئات على الإطلاق؛ فملّاك الأرض هم تجّار في الوقت نفسه، مع أنهم ظلّوا -في معظمهم- حتّى أواسط القرن العشرين يأنفون العمل في التّجارة، ويحتقرون التجّار، ويحرصون على نيل الوظائف العامّة طلبًا للنّفوذ. ورجال الدين هم ملّاك للأرض وتجّار أيضًا. وآغوات المدينة المتحدّرون من الانكشاريّة والسباهيّة (Spahis) الذين كانوا يحفظون الأمن في الأحياء تحوّلوا، بالتدريج، إلى ملّاك أراضٍ في المرحلة الأولى، ثمّ، في مرحلة لاحقة، إلى تجّار حبوب ومواشٍ (مال قبان)[4]. بينما كانت التجارة الرأسمالية الحديثة (مال فاتورة) مرصودة في معظمها للأوروبيّين ولبعض السوريّين واللبنانيّين من المسيحيّين واليهود بالدرجة الأولى.وفي هذا السّياق، كانت أكثر الطّبقات الاجتماعيّة استقرارًا في دمشق هي طبقة ملّاك الأرض، وهي نفسها التي كانت تستولي على الوظائف العليا في الدولة، أكان ذلك في العهد العثمانيّ أم في عهد الانتداب الفرنسيّ، أم بعد الاستقلال مباشرةً. ففي العهد العثمانيّ، كانت الدولة هي المالك الأكبر للأرض، لكن وظيفتها لم تتجاوز جباية الضّرائب. أمّا الملّاك، فكانوا ذيلًا للحاكم يلتزمون ريع الأرض ويجبون الضرائب وكفى. وكان التجّار هم تجّار الحاكم وشركاء السلطان وأبنائه وأمرائه وأقاربه وأصحابه وأحبابه. ولم تتغيّر الحال كثيرًا في عهدَي الانتداب والاستقلال.لم تكن دمشق مدينة تجاريّة خالصة كالمدن التجارية الساحليّة، مع أنّها أقدم المدن التجاريّة في العالم، وإحدى أهمّ مدن التجارة في الشرق الأدنى القديم. كانت مدينة ذات غلاف زراعي (قرى وفلّاحون)، ولها غلاف إضافي هو البادية. وبهذا المعنى، كانت السلطة فيها تحتاج إلى الشرطة لردّ هجمات البدو (السلطة العسكريّة شديدة الأهمّية في هذه الحال)، وإلى علاقات ربويّة مع الفلّاحين، وإلى تجارة مال وقبان (مواشٍ وأصواف وغلال). وإذا كان من نتائج الصراع الاجتماعي بين ملّاك الأرض (الإقطاع) والرأسمالية التجاريّة (البرجوازية) في أوروبا ظهور النظام الديمقراطي الحديث، فإنّ سورية لم تشهد مثل هذا الصراع بين ملّاك الأرض والتجّار الذين تشابكت مصالحهم بحيث كان مالك الأرض هو نفسه التاجر، والتاجر لا يصبح صاحب وجاهة من دون أن يمتلك الأراضي.المعروف أنّ أصحاب الأرض في المدائن العربية ليست لهم -على الأغلب- غيرة على الحرّية السياسيّة، وإنّما على الأرزاق. وهؤلاء أكثر ما يخشون البدو الذين دأبوا على الاستيلاء على أرزاقهم، لذلك كان الملّاك يخضعون لمن يحمي أرزاقهم، أي للسلطة مهما كان محتواها، وكانوا هم عماد السلطة أو جزءًا منها في معظم الأحيان.أمّا البدو، فقد عاشوا منذ القديم وحتّى أواخر عهد الدولة العثمانيّة على نهب قوافل التّجار (أو على حماية القوافل لقاء إتاوات معلومة)، وعلى فرض الإتاوات على الفلّاحين لقاء امتناعهم عن اجتياح مزروعاتهم. وجرّاء هذا الواقع، كانت فئات كثيرة من الفلّاحين تهاجر إلى المدينة ليتحوّل أبناؤهم إلى عمّال لدى الحرفيّين، أو إلى فئات رثّة تعيش من خدمتها الآغوات، أو تعتصم فئات أخرى منهم بالأرياف العاصية والبعيدة. وفي جميع الحالات، كانت الأراضي تصبح جدباء خربة، فلا عجبَ في هذه الحال أن تكثر أسماء الخرب في بلاد الشّام؛ فولاية حلب كانت تضمّ 3200 قرية في القرن السادس عشر، لم يبق منها إلا 400 قرية في القرن الثامن عشر. وولاية طرابلس كانت تضمّ 3000 قرية في مطلع القرن السادس عشر، لم يبق منها في القرن الثامن عشر إلا 400 قرية. لذلك تحوّلت بعض المدن إلى قرى، وصارت القرى خرائبَ خلافًا للبرجوازيّة التجاريّة في أوروبا التي كان تاريخها عبارة عن عمليةً متواصلة لتمدين الريف وتصنيع المدينة، بينما كان تاريخ المدن السوريّة والعراقيّة عبارة عن "بَدْوَنَة" للريف وترييفًا للمدينة. وكان الفلّاحون، على الرغم من الضَّيم والاستغلال الواقع عليهم، غير ميّالين للتصادم مع ملّاك الأرض لأسبابٍ كثيرة، منها أنّ أعيان المدن من الملّاك والمرابين، وأحيانًا التجّار، لم يقْدموا في أيّ مرحلة على طرد الفلّاحين من الأراضي، ما داموا يدفعون العُشر للدولة وقيمة الإيجار للملّاك.ونشأت -في حالات كثيرة- علاقات ذات طابع أبوي بين الملّاك والفلّاحين، ولا سيّما أنّ كثيرًا من الملّاك كانت لديهم منازل قرويّة يختلفون إليها في أثناء الإجازات، فكان لهم بذلك احتكاك دائم مع الفلّاحين. وبالتدريج، صارت مكانتهم لدى الفلّاح مثل مكانة الأب المتسلّط، يصدر الأوامر ويقدّم المساعدات في الوقت نفسه. وفي هذا الميدان، قلّما تجرّأ الفلّاحون على المعارضة لأنّهم كانوا دائمًا يخشون من فقدان أراضيهم، ومالوا إلى اتّقاء شرور الحكّام والملّاك بتقرّبهم من رجال الدين، أو الالتجاء إلى قبور الأولياء الصّالحين لتخفيف عنائهم، وهو الأمر الذي أعاق تبرعم الحداثة في أوساطهم. وعلى سبيل المثال، فشلت في القرن التاسع عشر في حلب تجربة تأسيس بنك زراعيّ يقدّم قروضًا للفلّاحين بفائدة معتدلة تنقذهم من المرابين الذين كانوا يفرضون فائدة تصل إلى 30% أحيانًا. وكان السبب في فشل هذه التجربة هو أنّ الفلّاحين أنفسهم انصرفوا عن الاقتراض من البنك خوفًا من نزع ملكيّاتهم في ما لو عجزوا عن السّداد، بينما كان المرابون لا يعمدون إلى نزع الملكيّة بل يضيفون الفائدة المتأخّرة إلى أصل الدين[5]. وحتّى قانون الأراضي الذي صدر في عهد الانتداب الفرنسيّ في 12 كانون الأوّل / ديسمبر 1930، لم يبدّل علاقات الملكيّة على الإطلاق، وقد تمكّن الأعيان في دمشق وحلب من وضع أيديهم على الأراضي الأميريّة، ثمّ أجّروها للفلّاحين بحسب نظام المحاصصة. وهكذا، صار الفلّاح في حكم المستأجر، لأنّه يزرع أرضًا ليست له ولا يملكها، بل يتصرّف فيها فحسب. وهو ليس عاملًا زراعيًّا مأجورًا، لأنه يدير الأرض بنفسه، ويستعمل أدوات العمل الخاصّة به، وهو مَن يقرّر نظام عمله وعمل أبنائه. لذلك كان الفلّاحون غير قادرين على مخالفة إرادة الملّاك، وكان رجال الدين (وهم ملّاك أيضًا) يتكفّلون بتلطيف مشاعر الاحتجاج ضدّ الظلم بحديثٍ من هنا ورواية من هناك[6].كانت المدن السوريّة كدمشق وحلب، مثلها مثل المدن العربيّة الأخرى كبغداد والقاهرة، مكرّسة للحكّام وأعوانهم وللشرطة والتجّار وأصحاب الصّنعات والحرف. وكان الأثرياء في هذه المدن يحوزون الأرض من الدولة، ثمّ يعهدون بها إلى الفلّاحين، ويتاجرون أحيانًا بالغلال. كانت المدينة العربيّة دومًا أحد مرتكزات السلطة والتسلّط، ولا سيّما إبان العهد العثمانيّ الذي ساد 400 سنة، وأحد أهمّ مراكز التسلطيّة في ذلك النظام. بينما المدن في أوروبا الحديثة كانت مدنًا رأسماليّة ناوأت النظام الإقطاعيّ في البداية، ثمّ ثارت عليه وأطاحته في ما بعد. واستعصاء الحداثة في العالم العربيّ يجد تفسيره في عدم ظهور البرجوازيّة التجاريّة كطبقة حديثة تحمل مشروعًا للديمقراطيّة، علاوةً على عدم ثبات الملكية الخاصّة للأرض، وكذلك التعلّق المرضي بالماضي.قصارى القول إنّ طبقة الفلّاحين في أرياف دمشق بالدرجة الأولى، وفي سورية عمومًا، كانت تتآكل باستمرار منذ منتصف القرن التاسع عشر فصاعدًا أمام العصف الرأسمالي بالسوق السوريّة. وواجهت فئة الحرفيّين والصّنّاع مصاعب قاتلة جرّاء طوفان السلع الأجنبيّة، فاختفت حرفٌ كثيرة. وعانى التجّار خسائرَ متمادية في منافسة التجار الأوروبيّين ووكلائهم المحليّين الذين كانت أغلبيّتهم إمّا من مسيحيّي جبل لبنان أو من اليهود. لهذا لم يكن غريبًا أن يشارك كثير من عمّال النسيج والحرفيّين في الهجوم على المسيحيّين في أحداث سنة 1860 في دمشق كاحتجاج على تدهور صناعة النسيج والحرف المرتبطة بها؛ فقد كان بعض المسيحيّين السوريّين واللبنانيّين وكلاء للصّناعات الأوروبيّة، وحتّى قناصل لبعض دول الغرب.2. رجال الدينموقع رجال الدين في الهرم الطبقيّ التقليديّ في سورية هو الثاني بعد ملّاك الأرض. وهؤلاء احتكروا التدريس، وكذلك القضاء والأوقاف والإفتاء، وهي شبكات منافع اجتماعيّة ممتدّة. ورجال الدين هؤلاء كانوا رجال دنيا في الوقت نفسه، فهم يستثمرون الأراضي، وينهبون الأوقاف، ويتمتّعون بمرتبات الدولة، ويمارسون التجارة، وينالون أعطيات الحكّام لإقناع العامّة -ولا سيّما الفلّاحين- بالرّضى عمّا كتب الله لهم. فكانوا -بهذه الصّفة- السّند الروحيّ للاستبداد العربيّ. وكانت وظيفتهم مزدوجة؛ القمع السّافر من خلال القضاء والمحاكم الشرعيّة؛ والقمع الأيديولوجي من خلال الإفتاء لمصلحة الحاكم. وكان شعارهم "الطّاعة رأس الفضائل". وكان لسان حالهم في غياب الحاكم يقول: "إنْ أمرنا ائتمرنا، وإن نهانا انتهينا، وإن دعانا أجبنا". وفي حضرته يقولون: "أصاب سيّدنا، وصدق مولانا، ولله درّ أميرنا"، وكان الواجب أن يقولوا له: "لمَ فعلتَ هذا، ولمَ لم تفعل ذاك"، فواجبهم هو بذل النصيحة للسلطان على القاعدة التي تقول: "إذا رغب الملك عن العدل، رغبت الرعيّة عن الطاعة"، لكنّهم صاروا مرصودين لتبرير سلوك الحاكم، وابتداع الفتاوى التي تجيز الظلم والانحراف. ومن باب الفكاهة، نعيد التذكير بأنّ عقود البيع -مثلًا- كانت تبتدئ هكذا: "باع الهالك ابن الهالك جورج ابن جرجيس من المكرم بن ساكن الجنان محمد بن عبد الله حصّته في العقار كذا". وحين صدر الدستور العثماني سنة 1877 الذي نصّ على المساواة بين المواطنين، وأنهى التفريق بين المسلم وغير المسلم، كلّف الولاة أشخاصًا (حوّاطون) ليدوروا في الأحياء ويقرأوا على الناس نصّ الدستور. وفي أحد أحياء مدينة دمشق قال أحد هؤلاء الحوّاطين في معرض تفسيره الدستور: لا يجوز بعد الآن أن نقول للكافر كافر. أمّا في ستينيّات القرن العشرين، أي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، فقد أفتى شيخ الأزهر، وتبعه رهط من الشيوخ، بأنّ الإسلام هو دين الاشتراكيّة استنادًا إلى الحديث القائل إنّ الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار. وفي عهد أنور السّادات، أفتى شيخ الأزهر بأنّ الإسلام هو دين الرأسماليّة استنادًا إلى أنّ العشرة المبشّرين بالجنّة كانوا من الأثرياء[7].إنّ ضيق عقول رجال الدين وتعصّبهم جعلا شيخًا من عيار علي الطنطاوي لا يتورّع عن المجاهرة بالقول إنّه يقدّر السياسيّ المسيحيّ فارس الخوري، ونزاهة القاضي الدرزي عارف النكدي، لكنّه لا يصافحهما[8]. ويروي جمال الدين القاسمي في مذكّراته (دمشق، 1965) أنّه تعرّض مع رفاقٍ له من طلّاب العلم لملاحقة المفتي والقاضي والوالي سنة 1895، وسجنوا لأنّهم تجرّأوا على قراءة بعض كتب الحديث، وأُلصقت بهم تهمة الاجتهاد. وعندما أُطلقوا نصحهم المفتي بقراءة كتب الفقه وحدها، والابتعاد عن كتب الحديث والتّفسير. لكن أمثال الطنطاوي لم يتورّعوا بدورهم، عن ترداد مقولة أبي بكر الطرطوشي في كتابه "سراج الملوك" وهي: "إذا جار السلطان فعليكم بالصّبر وعليه الوزر، ومنَ خرج على السّلطان مات ميتةً جاهليّة". وهؤلاء كانوا دومًا على مذهب الإمام الغزالي القائل: "إنّ الولاية لا تتبع إلّا الشوكة. ومن اشتدّت وطأته وجبت طاعته"، ويعتقدون أنّ "الطّاعة هي رأس الفضائل"، ويؤمنون بأنّ "الحاكم الظالم خيرٌ من الفوضى"[9].3. أعيان وآغواتالأعيان، عمومًا، هم من العائلات التي اكتسبت حضورها من المركز الدينيّ الموروث (الإفتاء والصوفيّة)، أو من السّيطرة على جباية الضرائب، وعلى بعض الوظائف الأخرى (الأفندية)، أو أنّهم يتحدّرون من الأشراف. وهؤلاء عملوا وسطاء بين الحكم والشّعب: يجبون الضّرائب ويلطّفون الاحتجاجات. وكان الناس ينقادون إليهم تلقائيًّا إلا في حالات قليلة ومتباعدة في الزمن. أمّا زعماء دمشق فكانوا هم قادة سكّان دمشق، يقدّمون لهم الحماية، ويصونون ثقافتهم الدينيّة، ويحوزون لقاء ذلك (أو بسبب ذلك) الرئاسة والسّياسة، أي أنّ هناك انسجامًا كبيرًا، اجتماعيًّا وثقافيًّا، بين جماهير المدينة ووجهائها من الملّاك والأفندية والآغوات، ولا سيّما أنّ معظم العائلات المتنفّذة بعد أحداث سنة 1860 كانت من الآغوات، أي تجّار حبوب ومواشٍ وأصواف (مال قبان)، وهم أنفسهم مقرضو الأموال للفلّاحين. والآغوات هم تاريخيًّا أفراد الحاميات الانكشاريّة المحلّية التي تقيم في الأحياء الشعبيّة على أطراف المدينة، أو في القلعة. وسيطر هؤلاء -بالتدريج- على بعض الجمعيّات الحرفيّة، وكانوا دائمًا في خدمة السّلطات العليا، ويسيطرون على الفلّاحين من خلال الإقراض الربويّ، ويحمون أرباب الصّنعات في المدينة. وهؤلاء باختصار غير ميّالين إلى مناوأة السلطات الحاكمة، إلا في حالات احتجاجيّة قليلة، بل إلى الدفاع عن السّلطة في مواجهة الفلّاحين أو التجّار أو الحرفيّين، ومعظم الانتفاضات السورية خلال العهد العثمانيّ كان إمّا ذا طابع حرفيّ في المدن احتجاجًا على المنافسة، أو ضدّ الغلاء والضرائب، أو ذا طابعٍ عشائريّ في الريف جرّاء النّزوح المتمادي للقبائل إلى المناطق الزراعيّة.4. الحرفيّونيصنّف ابن خلدون الناس في صنفين: صاحب سيف وصاحب مهنة، أو بمعنى آخر: غازٍ ومنتج. لكن المهنة مشتقّة من المهانة، وجميع المهن اليدويّة محتقرة لدى العرب، وهي من مُسقطات المروءة؛ لهذا، فإنّ الإمام الشافعيّ يقرّر أنّ الحلّاق والحجّام والدبّاغ وكشاش الحمام لا تقبل شهادة أيّ واحد منهم، لأنّهم أصحاب مهن وضيعة. أمّا في أوروبا، فقد كان للجمعيّات الحرفيّة شأنٌ مهمّ جدًّا -وتقدّميّ أيضًا- في بدايات ظهورها، فقد أتاحت للأقنان الهاربين من الأرياف الإقطاعيّة، التحوّل إلى عمّال أحرار في المدن. وارتبط نشوء الجمعيّات الحرفيّة، تاريخيًّا، بنشوء المدن. وطوّرت هذه الجمعيّات أفكارًا سياسيّة دوّت في أرجاء أوروبا مثل "الكاربوناري" (الفحّامون) و"الماسون" (البنّاؤون الأحرار) الذين ظهرت في صفوفهم، أو على أيديهم، الحركات القوميّة الحديثة، ومبادئ الحرّية والإخاء والمساواة. بينما ظلّت الجمعيّات الحرفيّة في دمشق (أو الطوائف الحرفيّة) تابعة للتجّار من جهة، ولأرباب الصنعات من جهة ثانية، وتحوّلت إلى نظام تكافليّ يضمّ المعلّم (أو الأستاذ أي "الأسطى" وهو إمّا متموّل أو تاجر) والصانع (وهو من أصحاب الحرف) والأجير (أي العامل)[10]. غير أنّ مكانة الحرف والصناعات التقليديّة (الجلود والعمائم والزّجاج والصّابون والسجّاد والأدوات النحاسيّة والمصنوعات الخشبيّة والأقمشة والملابس والسّيوف) تدهورت بشدّة جرّاء منافسة الصناعات الأوروبيّة مع الانفتاح العثمانيّ على أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وصارت الجمعيّات الحرفيّة تضمّ لا العاملين فيها وحدهم بل التجّار أيضًا، وتحوّلت وظيفتها الرّئيسة إلى تنظيم التواصل بين أصحاب الحرفة والسّلطات الحاكمة، ومهمّتها ضبط الموازين والمكاييل والمقاييس، وفحص نوعيّة الإنتاج، وتحديد الأسعار والأجور، وفضّ المنازعات بين الأعضاء، وتقديم العون لمن يمرض، أو لعائلة من يموت، وهذا ما ساعد في تسهيل السّيطرة على أرباب الحرف والتجّار الصغار. ومن نافلة الكلام الحديث عن الارتباط المصلحي الوثيق بين التاجر والحرفيّ. فما كان يصيب التاجر جرّاء المنافسة كان يصيب الحرفيّ فورًا، وربّما بمقدار أعلى من الخسارة.ثالثًا: استعصاء الحداثةاستعصت مفاهيم الديمقراطيّة والعَلمانيّة والحداثة على المدن التقليديّة مثل مدينة دمشق، ولم تتمكّن من اختراق أسوارها جديًّا جرّاء هذه الشبكة المتينة من المصالح التي أدارها الأعيان من ملّاك الأرض ورجال الدين والتجّار، ولا سيّما المتحدّرون من الآغوات، وسيطروا بذلك على الفلّاحين وأرباب الحرف والصنعات. لنتذكّر أنّ المُلّاك وأصحاب الوظائف في دمشق قاوموا الإصلاحات العثمانيّة، وتمترسوا خلف مؤسّسة الأوقاف والشبكات الدينيّة التقليديّة، تمامًا مثلما قاوموا، لاحقًا، جميع الأحزاب العَلمانيّة ذات الطابع المساواتيّ كالحزب الشيوعي والحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وحزب البعث، وقبل ذلك قاوموا حزب الشعب الذي أسّسه عبد الرحمن الشهبندر سنة 1925. وفوق ذلك، فإنّ رجال الأعمال والصناعيّين، وهم فئة حديثة، كانوا محافظين سياسيًّا، لأنّ ديدنهم كان السّعي لدى السلطة القائمة للحصول على الحماية من المنافسة الأجنبيّة وعلى الدعم المالي لمشاريعهم. أمّا الآغوات فكانوا دائمًا معادين لقيم الحداثة والنهضة والتقدّم. لذلك، لا عجب إن وقفت المدينة العربيّة، ودمشق بالتحديد، ضدّ السفور وضدّ الاختلاط، وضدّ العلوم التجريبيّة، وضدّ الأحزاب، وضدّ ارتداء الملابس الإفرنجيّة، وضدّ الحداثة، وضدّ العَلمانيّة، وضدّ حرّية الصحافة، وحرّم فقهاؤها القهوة وحتّى البندورة[11]. وهكذا، كانت الدائرة التقليديّة تعود لتقفل على مدينة دمشق وتمنع انبثاق الحداثة في أرجائها. فالأعيان[12] تقليديّون، ورجال الدين في خدمة ملّاك الأرض والحكّام المتسلّطين، والتجّار قليلو الحيل والحيلة، والحرفيّون تابعون للتجّار ويطلبون الحماية من الحاكم. وغلاف المدينة من الآغوات يضرب بسيف السلطان، والفلّاحون خائفون من الآغوات ومن ملّاك الأرض معًا.في هذه الحال المستعصية، كان من الصّعب أن تقف أزاهير الحداثة والحرّية والديمقراطية إلا في نطاقٍ محدود[13]. وحتّى الفكرة العربيّة أو القومية العربيّة التي كانت ذات سمات عَلمانيّة، والتي بدأت في حلقة طاهر الجزائريّ وعبد الرحمن الشهبندر ورفيق العظم وشكري العسليّ، لم تلق التأييد في مدينة دمشق، ربّما لأنّ كثيرًا من عائلات دمشق المتنفّذة لم تكن عربيّة، وكانت المصالح الماليّة والرابطة الإسلاميّة هي الأقوى لديها، وهؤلاء ناهضوا الفكرة القوميّة، وحاربوا العَلمانيّة بشراسة. وعلى سبيل المثال، آل المرادي أصلهم من سمرقند، وآل العظم من تركيا، ومردم بك (أرناؤوط) من ألبانيا، والبخاري من بخارى، واليوسف والأيوبي وبوظو وشمدين وأغريبوز والعابد أكراد، والعظمة تركمان. وهكذا، فإنّ الثقافة التقليديّة الغارقة في فتاوى الفقهاء والمحدثين والحفّاظ التي لفظت ابن رشد وابن سينا وابن خلدون وطردتهم من نطاقها، فانتصر بذلك الغزالي وابن تيميّة على الفكر العقلانيّ العربيّ، عادت ولفظت عبد الرحمن الكواكبيّ وفرنسيس المراش وأديب اسحق وعبد الرحمن الشهبندر، لينتصر أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي وحسن البنا وسيّد قطب وحسن حبنكة وأبو الخير الميدانيّ والإخوان المسلمون في ما بعد.السؤال الآن هو: لماذا تمكّنت الحداثة (وأقصد بذلك العصرنة) من اختراق مدن مثل الإسكندرية ويافا وحيفا وبيروت وإزمير الواقعة على الشاطئ الشرقيّ للبحر المتوسّط، ووقفت عاجزة عند أسوار عكا وصيدا وطرابلس واللاذقية، وهي الواقعة أيضًا على الشاطئ الشرقيّ للبحر نفسه؟ ولماذا تأخّرت أيضًا عن الوصول إلى المدينتين الأكثر أهمّية في بلاد الشام كلّها، أي دمشق وحلب؟سأجازف بالقول إنّ بعض مدن الساحل التي سبقت غيرها إلى الحداثة (أو وصلتها الحداثة قبل غيرها) لم تكن أسيرة نقابات الأشراف وشبكات الأعيان، بل كانت تضمّ طبقة تجاريّة كبيرة وذات شأن، وليست ذيلًا ملتحقًا بملّاك الأرض. وكانت تضمّ أيضًا مجموعات إثنيّة ارتبط سلوكها بالنموذج الأوروبيّ إلى حدٍّ كبير كاليونان والإيطاليّين والأرمن واليهود، وكانت رقابة المجتمع التقليديّ قليلةً جدًّا جرّاء الشأن الهامشيّ لهذه المدن الساحليّة قياسًا على دمشق. فبيروت -مثلًا- انتقلت من قرية زراعيّة متهالكة قبيل أواسط القرن التاسع عشر، إلى ميناء تجاريّ مزدهر في أواخر القرن نفسه جرّاء هجرة المسيحيّين من دمشق وجبل لبنان بعد أحداث 1860، وبعد قيام المبشّرين البروتستانت بإنشاء الكلّية الإنجيليّة السورية في سنة 1866، وتوسيع ميناء بيروت ليكون ميناء سورية الرئيس بدلًا من ميناء صيدا في سنة 1890، ثمّ شقّ سكّة حديد بيروت - دمشق في سنة 1895.إنّ نموّ مدن الساحل في أواسط القرن التاسع عشر فصاعدًا لم يكن سببه الرئيس الهجرة الداخليّة وحدها، بل -علاوة على ذلك- هجرة مجموعات كبيرة من التجار الأوروبيّين إلى هذه المدن، ثمّ التحاق جاليات يونانية وأرمنية وإيطالية ويهودية بهم، وهو الأمر الذي منح بعض هذه المدن الطابع الكوسموبوليتي. أمّا المدن الداخليّة، فقد شهدت هجرة سكّان الأرياف إليها، في الوقت الذي كان موقعها التجاري يتراجع لمصلحة مدن الساحل التي شهدت في الوقت نفسه هجرة الحرفيّين والصناعيّين والعمّال المهرة إليها من الداخل. وأدّت هذه العملية التفاعليّة إلى ظهور العصرنة في المدن الساحليّة التجاريّة المتحرّرة -إلى حدٍّ كبير- من سيطرة الأعيان وشبكات الأوقاف والآغوات، بينما كانت مدينة دمشق خاضعة للثالوث التاريخيّ المؤلّف من ملّاك الأرض ورجال الدين والتجّار، وهي بنية حامية للسلوك التقليديّ، وعازلة للسّلوك التحرريّ، ومانعة -في نهاية المطاف- للعصرنة. غير أنّ أنماط العصرنة في المدن الساحليّة بقيت تدور في نطاق الفنادق الإيطاليّة واستوديوهات التصوير الأرمنيّة والمقاهي والخمّارات اليونانيّة، والنوادي الرياضيّة الفرنسيّة والإنكليزيّة، والكلّية الإنجيلية السوريّة (الجامعة الأميركيّة). ومع الاختلاط المتفاعل، ولا سيّما في عهد الانتداب الفرنسيّ، ظهرت أنماط سلوكيّة ذات طابع أوروبيّ خالص انجذب إليها أبناء البرجوازيّة التجاريّة السنيّة والأرثوذكسيّة، ثمّ أبناء الموارنة الذين هبطوا المدينة من الجبل للعمل في التجارة. وهكذا، انتقلت بيروت من قرية زراعيّة متداعية على الساحل، إلى "الحداثة" مباشرة، وتمكّنت من أن تتجاوز عقدة الجماعات التقليديّة، وأن تتخطّى آفة التشرنق التي عرفتها المدن الداخليّة كدمشق.رابعًا: ضدّ العَلمانيّةفي عهد الدولة العثمانيّة، كان الحكم في الولايات لا مركزيًّا[14]. ومهما اشتدّت الخلافات بين مقاطعات الولاية، فقد كانت السلطة محفوظة للآستانة، والحكم في الولايات ثابتًا لمثلّث الملاّكين ورجال الدين والتجّار. وبعد رحيل الحكم التركيّ، أراد هذا الثالوث أن تستمرّ الحال في زمن الانتداب الفرنسيّ على ما كانت عليه. وعندما جاء الملك فيصل الأوّل رفضوه، إلا قلّة منهم[15]. لكن فيصل دخل دمشق فاتحًا ومعه بدو الحجاز ومقاتلو جبل الدروز، وضبّاط عراقيّون وسوريّون من خارج مدينة دمشق. وكانت سورية في أوائل حكمه على النّحو التالي: الملك حجازيّ (فيصل الأوّل) ورئيس برلمانها لبنانيّ متمصّر (رشيد رضا)، وقائد جيشها عراقي (ياسين الهاشميّ)، ووزير داخليّتها لبنانيّ (رضا الصلح)، ووزير خارجيّتها فلسطينيّ (سعيد الحسينيّ). وأوّل حكومة عربية في سورية كانت على الشكل التالي: الحاكم العسكري سنّيّ دمشقيّ من أصول عراقيّة (رضا الركابي)، ورئيس مجلس الشّورى سنّيّ بغداديّ (ياسين الهاشمي)، ورئيس العدلية مسيحيّ من دير القمر (إسكندر عمون)، ورئيس الماليّة مسيحيّ من الشويفات (سعيد شقير)، ومدير الأمن العامّ مسيحيّ من طرابلس (جبرائيل حداد)، ووزير الخارجيّة مسيحيّ دمشقيّ (توفيق شامية).لهذا، لم تجد بعض العائلات الدمشقيةّ أمثال آل الألشي والحسنيّ واليوسف، غضاضة في التعاون مع الفرنسيّين؛ فقد أرادوا أن يظلّوا حكّامًا لسورية كما كانوا في عهد العثمانيّين. وعلى هذا المنوال، رفضت مدينة دمشق عبد الرحمن الشهبندر، وهو مؤسّس أوّل حزب عَلمانيّ في سورية هو حزب الشعب، والقائد السياسيّ للثورة السوريّة الكبرى سنة 1925 إلى جانب سلطان الأطرش قائدها الحقيقي، ولم يتورّع بعض أعيانها عن القيام بحملةٍ عاتيةٍ ضدّه وفّرت بيئةً مناسبةً لاغتياله في سنة 1940 (اتّهم بذلك لطفي الحفار وجميل مردم، وسعد الله الجابري وهو من حلب، بعد فتوى من الشيخ مكي الكتاني وهو من أصل أمازيغيّ مغربيّ).رفضت دمشق عبد الرحمن الشهبندر وحاربه أعيانها. فهو لم يكن سليل العائلات المالكة للأرض، بل سليل التجّار الصغار كما يفصح اسم عائلته. وكما رفضت عبد الرحمن الشهبندر رفضت ميشال عفلق. وميشال عفلق المسيحيّ الميدانيّ المتحدّر من الأطراف السوريّة (وادي التيم) لم يكن من ملّاك الأرض أو من رجال الدين أو من الآغوات، بل كان والده من أصحاب الدكاكين الذين يتاجرون بالبضائع البسيطة مع فلّاحي حوران وجبل الدروز، وكان شكري القوتلي يقول عنه ساخرًا إنّه "معلم الأولاد الصغار". ولهذا، لم تتقبّل دمشق حزبًا قوميًّا بزعامة مسيحيّ، مثلما لم تتقبّل حركة القوميّين العرب بزعامة مسيحيّ آخر هو جورج حبش على اختلاف الحالتين. لكن البعث كان له زعيم ثانٍ هو صلاح البيطار (سنّيّ)، وكان للقوميّين العرب زعيم ثانٍ أيضًا هو هاني الهندي (سنّيّ دمشقيّ)، وهو الأمر الذي أتاح للحزبين أن يعثرا على بعض الأنصار في هذه المدينة العتيقة[16]. والمشهور أنّ ميشال عفلق حين ألقى محاضرته الذّائعة الصّيت "ذكرى الرسول العربيّ" في 5/4/1943، وقف الأعيان الشوامّ ضدّه وراحوا يتساءلون: ما علاقة هذا النصراني بالإسلام؟في أربعينيّات القرن العشرين وخمسينيّاته، كان الصراع والسّجال محتدمًا بين جماعة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي السوريّ، وكان ثمّة كثير من الشّبان السوريّين ممّن نالوا تعليمًا حديثًا في عهد الانتداب الفرنسيّ، وأرادوا الانخراط في الشأن العامّ، وجدوا أنّ من المحال أن ينضمّوا إلى "الإخوان المسلمين" مع أنّهم مسلمون، ولا يريدون أن يصبحوا شيوعيّين مع أنّهم تقدميّون ومن دعاة الحداثة والحرّية والعدالة الاجتماعيّة، فكان البعث ملاذهم. لكن هؤلاء، وإن اخترقوا النسيج المتماسك لهذه المدينة، إلا أنّهم ظلّوا قلّة لا تمثّل المصالح اليوميّة لدمشق، أي ظلّوا على هامش المصالح الكبرى لهذه المدينة التي تتجسّد أكثر ما تتجسّد، في مثلّث ملّاك الأرض ورجال الدين والتجّار. وفي المقابل، وقفت هذه المدينة ضدّهم بشراسة في معظم الأحيان، مع أنّهم خرقوها أحيانًا حين أسقطوا في إحدى دورات الانتخابات النيابيّة، مصطفى السباعيّ (زعيم الإخوان المسلمين) ورفعوا رياض المالكي البعثيّ إلى النّيابة.خامسًا: صورة بالعدسة المقرّبةدمشق مدينة متنعّمة منذ ثلاثة آلاف سنة على الأقلّ، وحياة الدمشقيّين مغمورة برخاء كثير، وقلّما عانت اضطرابات اجتماعيّة، وقلّما تعرّض التسلسل الطبقي للتقويض، فقد ظلّ محترمًا بدقّة. وأهل الشام مرفّهون لا يميلون إلى المنازعات، ولا سيّما المسلّحة منها. حتّى أنّ الفتح العربيّ جرى بيسرٍ وسلاسة، وبمساعدة بعض سكّانها القاطنين داخل سورها القديم. وهي مدينة تعوَّد تجّارها، في بعض مراحل تاريخها، عدم التقاضي أمام المحاكم، فقد كانت جمعيّات التجّار فيها هي التي تنظر في المنازعات، وكان الجميع يمتثل لقراراتها. وإذا خالف أحد التجّار هذه القرارات، يقاطعه الآخرون فيقترب من الإفلاس. إنّها مدينة تجاريّة زعماؤها ملّاك الأرض، وفيها آغوات كثيرون. إنّما تحتاج، أكثر ما تحتاج إليه، إلى الأمن والهدوء واستمرار الحال على ذلك المنوال من الدّعة والربح. وفي هذه المدينة، لا تزدهر كثيرًا قيم الحداثة والليبرالية والديمقراطية، بقدر ما تشيع قيم الشطارة و"الحربقة" التي اشتهر بها أهل الشام الذين ما برحوا قائلين عن "الحربوق": "خلقان قبل الشّيطان"، أي مخلوق قبل إبليس. والدمشقيّ طويل البال وصبور جدًّا ما دام لا شيء يهدّد مصالحه، وهو لا ينفكّ مردّدًا: "اصبر على جارك الغليظ، فإمّا أن يرحل أو يموت". فلماذا يثورون على الحاكم؟ ولماذا يناضلون في سبيل العَلمانية أو الديمقراطية أو القوميّة العربيّة ما دامت مصالحهم آمنة، ومكانتهم مؤمّنة، ومواقعهم الاجتماعية محترمة؟ إنّهم يثورون على الحاكم حين تُهدّد هذه المصالح أو تُنتقص مكانتهم أو تتهاوى مواقعهم الاجتماعيّة. ولم نعثر في تاريخ دمشق على مَن هدّد هذه المصالح مباشرةً أو مسّ بنيتها الطبقيّة المثلّثة. بل، خلافًا لذلك، كانت معظم النظم السياسيّة المتعاقبة -بما في ذلك البعث- تخطب ودّ زعماء دمشق وتجّارها ورجال دينها. أمّا الزعامات الدمشقيّة، القديمة والحديثة، ومع أنّها تغيّرت أعيانها كثيرًا في الخمسين سنة الماضية، إلا أنّها صبرت ورضيت بتزحزح مواقعها السياسيّة لقاء الإبقاء على مواقعها التجاريّة على أمل أن "يرحل جارها الغليظ أو يموت". لكن هؤلاء الأعيان المتزعّمين لم يصبروا قطّ على مَن رفع لواء التقدّم والعَلمانيّة والديمقراطية، فناهضوه بشراسة، وتولّى رجال الدين -كالعادة- هذه المهمّة. وهؤلاء كان لسان حالهم في نظام البعث الذي تسلّم السلطة في سنة 1963 -والذي أخافتهم عَلمانيته، وهدّد جانبًا من مصالحهم- يقول: "لا نحبّه ولا نسبّه"، وهذا هو منتهى الانتهازيّة والمراوغة والكتمان والتقيّة.حزب البعث هو حزب الطبقة الوسطى الريفيّة، وحزب أبناء الفلّاحين الذين أصابوا بعض التعليم وبعض المواقع في الجيش، لذلك كان من غير المسموح لدى أعيان المدن السوريّة، وبالتحديد دمشق، أن تصبح الطبقة الوسطى الريفيّة منافسة لملّاك الأرض المدينيّين، ومن غير المسموح لأبناء الفلّاحين أن يزحزحوا الأعيان عن مواقعهم. وهؤلاء وجدوا في جماعة الإخوان المسلمين "وجه المقابحة"، أي الذين هم مستعدّون للتصدّي للبعث وللشيوعيّين وللعَلمانيّين معًا، فانهالت عليهم نقود الملّاك ورجال الدين ووعودهم، والغاية كانت إسقاط النظام الجديد كي تعود السلطة إليهم، أو الضّغط المتمادي على هذا النظام كي يستجيب لمطالبهم التي تتمثّل، أوّلًا وأخيرًا، في السّياسة والرئاسة والمال. وفي هذا الميدان، أسّس عبد الرحمن أبو غدة في حلب سنة 1963 حركة تحرير إسلاميّة سرّية. ثمّ أعلن مروان حديد تمرّده في سنة 1964 من جامع السلطان في حماه، وأسّس "كتائب محمد" في سنة 1975 ثمّ "الطليعة المقاتلة"، إلى أن اعتقل سنة 1976 ومات في حزيران / يونيو 1976، علمًا أنّ شقيقه عدنان كان شيوعيًّا، وشقيقه كنعان كان بعثيًّا، وجميعهم من أصل ألبانيّ، أي غير عربيّ. وفي سنة 1981، أسّس عدنان سعد الدين (حماه) وعلي صدر الدين البيانوني (حلب) وسعيد حوا (حماه) "الجبهة الإسلاميّة". وهكذا كان مجتمع المدينة في سورية ينشطر إلى سلطة جاءت من خلال الجيش (ليست الديمقراطية على قائمة أولويّاتها)، ومعارضة ذات طابع إسلاميّ معادية، في الأساس، للديمقراطيّة. فالإخوان المسلمون يرفضون الديمقراطية لأنّها تعني "حكم الشعب للشعب"، ويعتنقون فكرة "الحكم لله" وإنشاء دولة إسلاميّة، وتطبيق الشريعة الإسلاميّة على المجتمع، وشعارهم "الإسلام هو الحلّ". وعلى سبيل المثال، كتب مصطفى مشهور، وهو أحد مرشدي جماعة الإخوان المسلمين يقول: "إنّ دعوة الناس للديمقراطية دعوة تناهض وتحارب الإسلام، لأنّ الإسلام لا يعرف مثل هذه المسلّمات. وإنّ مَن ينادي بالديمقراطية أو العَلمانيّة أو الشيوعيّة إنّما يرفعون رايات تخالف منهج الله وتحارب الإسلام"[17]. ومصطفى مشهور هو نفسه القائل إنّ على الأقباط دفع الجزية لقاء دفاع المسلمين عنهم، وعليهم أن يخرجوا من الجيش لأنّهم عناصر لا يؤمن لها، ويمكن أن يمالئوا وأن يسهّلوا للعدو هزيمتنا"[18].سادسًا: الهويّات المتناحرةحتّى هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى سنة 1917، لم يكن المواطنون في بلاد الشام يعرّفون أنفسهم كلبنانيّين أو فلسطينيّين أو أردنيّين؛ فهذه الهويّات الوطنيّة الجديدة لم تكن قد ظهرت بعد. كانوا يعرِّفون أنفسهم إمّا كسوريّين، أو بحسب عشائرهم أو عائلاتهم أو مدنهم أو دياناتهم. فهذا من شمّر وذاك من الجبور وذلك من الحويطات أو من عنزة، أو من الرولة أو الشعلان، أو هذا دمشقيّ وذاك حلبيّ وذلك نابلسيّ، ...إلخ. أمّا فكرة الدولة - الأمّة (الوطن) فلم تكن حاضرة في الثقافة العامّة للناس، لأنّ عناصر الدولة الحديثة (الأرض والشعب والدولة) لم تكن اندمجت بعد، ولعلّها لم تندمج حقًّا حتّى اليوم. وفي خمسينيّات القرن العشرين، بعدما نشأت الدولة القطريّة الجديدة، كان السوريّون ينقسمون إلى شيوعيّين وناصريّين وبعثيّين وسوريّين قوميّين وإخوان مسلمين، وبعضهم يناصر بقايا حزب الكتلة الوطنيّة أو حزب الشّعب وغيرهما. أمّا اليوم، فقد صار السوريّون سنّة وعلويّين ودروزًا ومسيحيّين وإسماعيليّين ومرشديّين. وهذا ما فعلته بهم، بالدرجة الأولى، التيّارات الدينيّة كالإخوان المسلمين والسلفيّين الجدد، والنّظام السياسيّ الفاشل لحزب البعث بالدرجة الثانية.إنّ انفجار المكبوت الطائفيّ (السنّيّ بالتحديد) في آذار / مارس 2011 لم يكن جديدًا تمامًا، فهو موجود، بمقادير قليلة، منذ سنة 1860. وحاول بعض الأعيان الدمشقيّين تحريكه في أثناء الهجوم على الغوطة إبّان الثورة السوريّة الكبرى سنة 1925[19]. وفي عهد شكري القوّتلي، وقعت جريمة إعدام سليمان المرشد (16/12/1946) الذي كان قد تمرّد على عائلة شريتح المتنفّذة سنة 1939 وتمكّن من انتزاع أراضي قرية سطامو، وأعادها إلى الفلّاحين، فحرّك الأعيان النزعات المذهبيّة للوقوف في وجه مطالب اجتماعيّة محقّة. وفي عهد أديب الشيشكلي في سنة 1952، اندلع الكلام الطائفيّ إبّان قمعه احتجاجات جبل الدروز على الحكم العسكريّ. وفي 8/3/1963 صحا السوريّون على البيان العسكريّ رقم واحد وهو يعلن إنهاء حكم الانفصال واستيلاء الضبّاط الوحدويّين على السلطة (تحالف الضباط البعثيّين والناصريّين والوحدويّين المستقلّين). وعلى الفور رفض أعيان دمشق هذا التحوّل، وراحوا يُشيعون أنّ هذا الحكم هو حكم "العدس" أي العلويّين والدروز والسمعونيّين (الإسماعيليّون)، مع أنّ معظم الذين تولّوا السلطة في البداية كانوا من الضبّاط السنّة أمثال اللواء زياد الحريري واللواء لؤي الأتاسي واللواء أمين الحافظ واللواء محمد الصوفي واللواء راشد قطيني. وكانت المناصب الأساسيّة في الحكومة الأولى، والثانية