لقد شكل الحكم أهم الأهداف التي جاءت بها الرسالات السماوية ، لما للحكم من علاقة مباشرة بإنسانية الإنسان ، وما يرتبط بذلك بمبادئ وركائز العدالة والمساوة والحريات والحقوق التي لا تستقيم بدون وجود الإنسان ، ولذلك نجد ان كل الأديان السماوية قد حذرت من الظلم والإنحراف بالحكم ، بل وجعلت عقوبة الحاكم الفاسد والظالم من أكبر العقوبات . ولم يقتصر موضوع الحكم على ألأديان بل أستحوذ على إهتمامات الفلاسفة والمفكرين في سعيهم الدائم للوصول إلى الحكم الصالح ، والحكم الرشيد . واليوم يتجدد الإهتمام بالحكم مع التحولات العربية وسقوط انظمة حكم سلطوية مستبدة ، وفى هذه المقالة أستخلص بعضا من الوصايا التي إشتملت عليها ألأديان السماوية ، وكتابات الفلاسفة ، فأنا لست فيلسوفا بقدر ما أقدم رؤية واقعية لحكم سقط ، وحكم يبرز بفعل الرغبة في الإصلاح وإستعادة إنسانيةالإنسان والمواطن العربى . وقد تكون هذه أول الوصايا التي على الحاكم العربى أن يستلهمها من روح الدين ، ومن إستقراء وخبرة تجارب الحكم السابق. ولو أردت أن الخص سبب سقوط انظمة الحكم في العديد من التجارب لقلت أن السبب الرئيس هو إذلال كرامة وآدمية الإنسان . وهنا اشكال الإذلال تتعدد من إعتقال وفساد وظلم ، وفقر ، وحرمان وإنتهاك ، وقتل ، ودوس بالأقدام والدبابات وغير ذلك .والوصايا كثيرة وهنا بعضا منها كما أراها دون ترتيب أو أولوية ، لأنه في النهاية كل وصية تعتبر أولوية في حد ذاتها وتأتى بغيرها . ولعل اول وصية سريعة وملحة أمام أى حاكم عربى جديد أو حتى قديم هى قراءة حياة من سبقه ، والإجابة على السؤال لماذا تلفظ الشعوب حكامها وتطالب بإسقاطهم ؟ سيجد ودون عناء كثير غياب العدالة والظلم وإحتكار الثروة والقوة في نفسه وأسرته وحزبه ، وتحويل المواطنيين إلى مجرد رعايا ، ومجرد رقم ، ووظيفتهم أن يأكلوا قليلا، وأن يغلقوا أفواههم بعدها . والوصية التي ترتبط بذلك إرتباطا عضويا إدراك أنه قد جاء للحكمن بفضل الثورة والتحول ، وأن هذه الثورة قادرة على التغيير والتبديل ، فلم يعد المواطن مجرد رعية ، ولم يعد النظام السياسى بثقافته هو نفس النظام ، إدراك وتفهم البيئة السياسية وألإجتماعية المحيطة به أمر مهم ، وهذا يتطلب عملية من التواصل الإجتماعى المتوفر ألان ، والتواصل الإنسانى ، وليتذكر الحاكم ماذا كان قبل أن يكون حاكما ،وأن يتفهم دور الدين ودوره، فهو كحاكم دوره ورؤيته للدين كمنظومة قيم فهو هنا حاكم وليس داعية وليأخذ العبرة من حكم عبد الملك بن مروان الذي كان يوصف بحمامة المسجد وعندما طالبه الحكم قال للمصحف الذي بين يديه هذا آخر عهدى بك ، وليس معنى ذلك التخلى عن الدين ، بقدر أن للحكم إستحقاقاته ومعطياته التي يفرضها الواقع وليس الدين وإلا دخل في مرحلة التصادم بين الدينى والمدنى بفعل مصطنع. . ومن الوصايا المهمة أن يتذكر دائما انه رئيس لكل الشعب وليس لحزب أو تنظيم ، وليدرك أن الذي جاء به للحكم هو الشعب وليس الحزب كما يعتقد ، وببساطة شديدة أن يعرف حجم ألألصوات التي جاءت به ليدرك أن كل الشعب لم يصوت له، وبالمقابل يريد هو كل الشعب إن يعترف به رئيسا بعد الإنتخابات وحتى يتحقق هذا الهدف عليه أن يكون رئيسا للجميع دونما تمييز أو مفاضلة . وان يدرك إن الحكم ليس غنيمة توزع على ألأقربين فقط. ولعل من اهم الوصايا التي دائما أرددها مع نفسى أن يتذكر الحاكم أن هناك من هو أقوى منه ، فإذا لم يكن الشعب ، فالله موجود وان حساب السماء قادم ، وهذا متوقف على ما يقوم به الحاكم من عدل أو ظلم. وفى هذا السياق يأتى دور الدين كمرجعية عليا تحكم وتراقب تصرف الحاكم ، أن يركز على الدين كقيم ، فهو ليس داعية بل هو حاكم. وأن يدرك الحاكم انه ليس مجرد موظف أو اب لأسرة صغيرة ، بل هو مسؤول عن أمة وشعب كامل بكل تنوعاته ، وإتساع مطالبه ، وهو إذا لا يسمع لكل حاجة ، فاصغر المواطنيين يراه ويسمعه ، وهنا قولة الفاروق عمر ألأبدية انه مسؤول عن أى دابة تعيش في كنف حكمه. فالإحساس بالمسؤولية والصدق مع النفس من أهم الوصايا , بقدر صدقه مع نفسه ، بقدر صدقه مع شعبه ، وبقدر حب الناس . وليدرك أن المواطن لا يريد كل يوم حاكما جديدا ، بل يريد من يحكم بالعدل ، وبصوت هذا المواطن . وقد يقول قائل أن الحاكم لا يمكن إن يستجيب لكل ما يريده الناس ، والرد على ذلك إن المواطن العادى ليس طماعا بل يريد بيتا يقيه حرارة الصيف وبرد الشتاء، بيتا يستره ويصون له كرامته ، فلا يعقل أن يعيش الحاكم ومن حوله في قصور وبيوت فارهة ، ومن يمنح الحكم لا يجد إلا كوخا من صفيح او من النخيل.وأن تكون لدى الحاكم رؤية نهضوية تنموية حضارية ، وهذه الرؤية لا تأتى من تصور ذاتى خرافى للحاكم ، بل تاتى من مشاركة وإحتضان كل العقول البشرية المحيطة به ، وأن يدرك الحاكم أن الهدف من المدارس والجامعات ليس مجرد ان يقال عنه أن يشجع التعليم بل الهدف ألأساس هو ألإستفادة من مخرجات هذه العملية التعليمية ، وبذلك يضمن الشراكة والرشادة والمسؤولية الجماعية في صنع قراراته . ومن الوصايا المهمة ألإبتعاد بالحكم عن روح الإنتقام ، ولعل أعظم ما في الحكم العفو عند المقدرة . فهو بهذا يوسع من قاعدة محبيه ومؤيديه ومناصريه. وأعود ,اذكر الحاكم بالحوار الإنسانى الدائم مع مواطنيه ، وأن يكون حاكما إنسانا ، وليس حاكما بسترة واقية من الإغتيال. وأن يدرك إن قوته في عدله وقربه من الناس وليس بقربه من أجهزة بوليسية أمنية قمعية . وليتصور كم من السعادة سيجنيها لو شارك الناس فرحتهم وحزنهم . ومن الوصايا المهمة أن يحكم بواقع الحال وليس بالتخيلات الليلية ، فمن حق الحاكم أن يكون حاكما حالما مع شعبه بدولة قوية عادلة قوية بعقول أبنائها ، وبما يملكون من قوة وثروة ، فلا توجد دولة فقيرة ، الدولة الفقيرة هى الدولة الفقيرة بحكامها ، وليس بما تملك من ثروة . الإنسان من يصنع الثروة ، وليست الثروة من تصنع الإنسان.وأخيرا أن يدرك أن حكمه مقيد بعمره ، فيمكن أن يحكم ليوم واحد فقط أو لسنيين عديده ، لكن في النهاية الحكم له نهاية إما طبيعية وإما قصرية . هذه بعضا من وصايا كثيرة ، المهم فيها أن يبدا الحاكم بواحدة منها حتى يذهب للأخرى ، وبها يدوم الحكم ، ولا يدوم الحاكم ، ويدوم الحاكم الإنسان الذي يتذكره شعبه كم يتذكر الصحابة العظام ، والحكام الدائمون بسيرتهم العادلة . وليختار الحاكم كيف ينهى حكمه وحياته. * أكاديمى وكاتب عربى drnagish@gmail.com