غزة حقيبة أزمات بل هي جبل من الأزمات الانشطارية التي لا تنتهي. وهي ومنذ الانقسام صارت مسرحاً لكل أنواع الأزمات كما شكل انفصالها إضراراً مؤلماً بالمشروع الوطني برمته. وليس القصد هنا فقط فكرة الدولة الفلسطينية "الممكنة" لو توفرت رغم تراجع ممكنات تحقيقها، بل القصد هنا هو فكرة الحالة الوطنية الفلسطينية القادرة على مواجهة التحديات بجدارة. ورغم القصور الكبير الذي اعترى الحالة الفلسطينية في مراحل مختلفة من التاريخ الوطني الحديث والمعاصر منذ وطأت أقدام الغزاة الجدد أرض فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر وتم تشكيل خلايا الاستيطان في الجسد الفلسطيني مروراً بالخيانات الكبرى التي مني بها شعبنا على يد الأخوة والأصدقاء، إلا أن وحدة الحال الفلسطيني شكلت بوصلة تم الاسترشاد بها في مواجهة هذه التحديات. لقد وقع حدثان ترافقا وتزامنا وتوافقا في النتائج وقادا فعلاً إلى سلخ غزة عن جسدها الفلسطيني. الأول كان الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب، والثاني الانقلاب وسيطرة "حماس" على غزة وانسلاخها عن السلطة. أما الحدث الأول فقد تم رغم الإيجابيات الكبيرة فيه من حيث خروج الجيش الإسرائيلي من قلب القطاع وتسهيل حياة الناس إلا أنه من حيث الجوهر حافظ على الاحتلال وهيمنته على مقدرات غزة. نتيجة ذلك أن ثمة من اعتقد أن غزة فعلاً تحررت وأن حالة الاشتباك مع العدو لابد أن تختلف مع حالة الاشتباك المعتادة وأن ثمة طريقتين للتعامل مع الاحتلال واحدة لغزة وأخرى للضفة. ما أقصده أن حالة الوحدة الكفاحية اختلت بسبب سوء الفهم هذا. أما النكتة الأجمل في ذلك فهي الحديث عن الوطن بشطريه الضفة الغربية وقطاع غزة وكأن فلسطين اختزلت حقاً في بقعتها الجغرافية تلك. وبالطبع فإن مثل هذا الإصرار المجازي يعني ضمن أشياء أخرى حالة تكييف مع الواقع بل وربما الإصرار عليه. لم يكن وحده مشروع التسوية والحل المرحلي الباحث عن دولة فلسطينية ممكنة على أي جزء من التراب الوطني هو الذي أنتج الحالة المجازية تلك بل أيضاً حالة التنافس على الحكم والبحث الجاد عن "التمكين" الفيزيائي مقابل حالة النضال اليومي غير المستقر بطبعه. أما الحدث الثاني فكان خروج غزة بإرادتها عن الحالة الوطنية الفلسطينية ومحاولة تدعيم حالة الانفصال بوصفه أمراً لا يمكن العودة عنه. فالاحتلال موجود في الضفة وليس في غزة والاستيطان يصيب مناطق الضفة ولا يصيب مناطق غزة كما يمكن فرض حالة من الأمر الواقع ولو حتى بشكل رمزي من خلال خرق الحصار وقدوم سفن وقوافل لغزة كما يمكن فرض الواقع ذاته على معبر رفح وفتحه دون وجود مراقبين أوروبيين. بالمجمل فإن هناك دفعاً بغزة خارج حالة التكامل الوطني المعتل بطبعه بالاحتلال. أما وجود إسرائيل وهيمنتها الفعلية على أجواء غزة وبحرها فيمكن الاستعاضة عنه بالهروب جنوباً نحو مصر. ورغم أهمية كل ذلك من حيث التخفيف عن الناس وتسهيل حياتهم والبحث عن حلول للأزمات التي يخلقها الحصار إلا أنها تعني ضمن أشياء كثيرة تحقيق ما خططت له إسرائيل منذ عقود من فصل الحالة الفلسطينية عن بعضها بحيث لا يعود الحديث عن قضية فلسطينية بل عن قضايا فلسطينية مختلفة واحدة خاصة بالضفة الغربية وأخرى خاصة بغزة. وعليه فإن ما يتم إنجازه ليس في الحقيقة إلا تعزيزاً لمخطط ليس لما فيه يد. وإذا كان الأمر كذلك فيمكن البحث عن حلول جزئية لمشاكل جزئية. من هنا مثلاً كان تغاضي إسرائيل عن فتح معبر رفح دون وجود مراقبين وهي التي كانت تستخدم الأف 16 إذا ما اشتمت رائحة خبر حول نية السلطة إحداث تعديلات على المعبر. وهو نفس منطق التمرير الذي سمحت به بالكثير من القضايا بالطبع دون أن تترك غزة لشأنها الأمني فهي تتدخل وقتما تشاء في غزة وتقصف وقتما تشاء أما الهدنة فهي فلسطينية خالصة ومن طرف الفلسطينيين والدليل أن الكلمة نفسها عربية (على سبيل الدعابة)، فعلى الفلسطينيين وحكام غزة أن يثبتوا أنهم يريدون هدنة أما إسرائيل فلا تلتزم بأي شيء إلا بأن تحافظ على أمنها وفق رؤيتها وفهمها الخاصين. النتيجة الأخرى اللصيقة بذلك أن غزة غرقت بمشاكلها الخاصة وصارت تعاني أكثر من ثقل هذه المشاكل عليها، فعليها أن تجد حلاً لأزمة الكهرباء وأزمة المياه التي يقال إن غزة ستخلو عام 2014 من المياه النقية وأزمة البنية التحتية (ناهيك عن الأزمات السياسية والحريات وما شابه). وبكلمة أخرى فقد صار على غزة في بحثها عن ذاتها أن تكتشف أن خلف كل أزمة ثمة عشرات الأزمات الأخرى لسن أقل صعوبة أو خطورة. الأخطر من ذلك أن يشعر البعض أن هذا الأمر طبيعي وان ثمة فرصة ممكنة لتعزيز الحالة "الغزاوية" والبحث عن غزة كغزة بعيداً عن الكل الوطني خاصة أن فرصة إقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية باتت ضعيفة مع تراجع عملية السلام وازدياد عمليات الاستيطان والتهويد. الحكمة الغائبة في كل ذلك ليست الحالة المادية لفكرة تجسيد الدولة بقدر حقيقة أن فكرة الدولة الفلسطينية ليست إلا إجبار للعالم على النكوص عن فكرته عن طبيعة حل الصراع بالاحتواء وليس بتجسيد الحقوق. الدولة الفلسطينية حق سياسي للشعب الفلسطيني حتى لو تعذر تحقيقه وليس الإصرار على الضفة الغربية وقطاع غزة كبقعة جغرافية لتحقيق هذا الحق إلا لكونهما البقعة التي يوجد عليها شعب فلسطيني بلا جنسية أخرى مفروضة عليه إلا فلسطينيته وإلا لكون هذا الشعب هو من تبقى على أرض يعتبرها المجتمع الدولي فلسطينية داخل حدود أرض الآباء والأجداد. بالطبع يستطيع البعض أن يحاجج بأن نفس المنطق الذي قاد إلى التفكير عن دولة ممكنة على أي جزء متاح (وكانت النتيجة هي غزة والضفة) يقود إلى القول إن تحقيق ذلك على غزة أكثر ممكناً، ولكن هذا المنطق الجديد يستند إلى منطق آخر غائب يقول بضرورة التسليم المجاني بأن الضفة الغربية يمكن لها أن تكون جزءاً من إسرائيل كما يافا والناصرة وبئر السبع!!