خبر : البكاء على دم تموز ... وجورية الله ..حسين حجازي

السبت 28 يوليو 2012 11:28 ص / بتوقيت القدس +2GMT
البكاء على دم تموز ... وجورية الله ..حسين حجازي



زنبق ابيض لا زنبقا ابيض ينثر عطره في حجرة البيت في المساء، قبل ان يذرف دمعة في آخر الليل، على تموز الجريح، الغارق في دمه، في سهل حوران ثم يذبل وينام. فالإله القتيل ابن الآلهة لم يزل مضرجاً بدمه، مستلقياً هناك في ساحل الشام، لم يقم بعد، ينتظر القيام. متى تقوم ساعتك يا شام ؟ لا زنبقاً ابيض على شاطئ البحر، على ما تبقى من ساحل بلاد الشام، كي يلقي بتحيته الصباحية للأولاد، بعد أن اغتسلوا في البحر في طريق عودتهم الى البيت. على ساحل البحر لا زنبقا ابيض ينمو، هنا الأبراج والإسفلت الأسود المعبد بالقطران، وازدحام الطريق، هنا لا يكاد سرطان البحر الأبيض الجميل يغادر مخبأه حتى يعود ارتجافاً وخوفاً من فوضى الضجيج والزحام، ليعود ثانية للاختباء. لا زنبقا ابيض يتمتم بعطره هذا المساء، يلملم بقايا الكلام ونكهة القهوة والدخان، قبل ان يخلو لوحدته، بعد صمت الكلام يلقي بقبلته على الصباح ويموت. لا زنبقا في هذا التموز الذي يجف فيه كوز الماء. اتخيله وقد تقادم العمر حتى تصالب كهلا، وقد تحول الى شجرة يكاد يحترق تحت لحائه من شدة احتراقه بحرارته، رغبة وشوقا، يمد أغصانه، اذرعه الى السماء لعلها تشفق عليه، قبل ان يقطف غدا في آب، باخوس اله الخمر، كرم العنب كي يشربه في حفلات مجونه، نبيذا احمر، هو دم هذا المسيح. في الطريق الى قرية بافوس القبرصية حيث يختفي الزنبق الأبيض، لتحل مكانه كروم العنب، والتين خصية ماء الحياة لكيما تتغلب أخيراً وكما في كل مرة رغبة الحياة، الخصب والبقاء على الموت. لم كل هذا الموت اذن يا شام ؟ وقد فاضت دموع شقائق النعمان، حتى اصبحت نهرا مهراقا من الدماء. اكان كل ذلك في تموزك، لكيما يعود ابنك الإله من الموت ويبعث من جديد، تولدين من جديد على صورتك الأولى، كوردة الياسمين، جورية الله. درة التاج قال لويس الرابع عشر "أنا الدولة والدولة أنا" وقال نابليون فيما بعد "أنا الثورة والثورة أنا " . يجيد الرجال الأقوياء في التاريخ أيضا، العظماء إلى جانب مآثرهم الأخرى، صياغة بعض الجمل البلاغية المؤثرة. والثورة إما ان تسلك الطريق السلمي، وتسمى ثورة بيضاء، واما ان تسلك طريق الحرب الاهلية. والفرق انه في الحالة الأولى، يمكن الفصل بين الدولة والنظام ولا تكون الثورة انقلاباً. أما في الحالة الثانية، فانه يتعزز التلاحم، بل التماهي بين الدولة والنظام، وأولوية الشرعية على الفوضى، وبالنتيجة فان الحرب الأهلية يكون أول ضحاياها، سقوط الدولة قبل الإطاحة بالنظام. هنا في الحالة السورية، نواجه هذا التماهي بين الدولة والنظام، بحيث يبدو سقوط النظام والتخلص منه، معادلا لسقوط وانهيارا لجهاز الدولة نفسها. وبالتالي نحن هنا بإزاء انقلاب وليس ثورة وذلك بخلاف النموذج المصري والتونسي. هل نحن بإزاء تكرار أزمة الثورة الفرنسية، وحيث سقوط الشام يتخطى في نتائجه حدود سورية، ليشمل البيئة المحيطة، الإقليم والعالم، إذا كان قدر سورية الشام، في الشرق كمصدر إشعاع، يماثل قدر فرنسا في اوروبا. وإلا بماذا نفسر هذا الاصطفاف الكوني، الذي ينعقد اليوم من حول ازمتها ؟ لكم اذن أن تتخيلوا لو خلعت الشام درة تاج "أعمدة الحكمة السبعة" كما لو أنها أعمدة هرقل الخرافية، التي تحدث عنها لورانس العرب في كتابه الشهير، وتفككت الى أعمدتها البدائية الأولى، كموازييك يعاد الى عناصره الأولى، ككرات صلبة متصارعة فيما بينها. تعيد إنتاج أمراء الطوائف، ودولة المدينة. واذا سقط قلب بلاد الشام، تراه ماذا يكون عليه الحال مصير جنوب الشام أي فلسطين ؟ جان جاك روسو كان لويس الرابع عشر يختزل في عبارته هذا العقد غير المكتوب بموجب الحق الالهي، الذي جعل من الملك هو الدولة والدولة هي شخص الملك. كل ما فعله روسو العظيم انه وقبل ان تندلع الثورة الفرنسية بزمن، قام بكتابة أول عقد اجتماعي، على هذا النحو من النضوج بصياغة الدستور، القانون، الاتفاق، الذي يجب ان تبرمه الدولة، الحكومة الدنيوية، مع المواطنين، وكانت صياغة هذا العقد بمثابة، الإرهاص المبكر لقيام الثورة، التي سوف تهز العالم فيما بعد . لقد طورد، ونفي تماما كما حدث من قبل مع سقراط الذي حكم عليه، إعداما بتناول السم، ولم يكن ذلك ببساطة إلا لأنه، لأنهما سبقا بتفكيرهما الزمن، عصرهما. لم يكن ممكنا ان ينقضي تموز، دون ان نأتي لو بسطر عنه في ذكرى مولده هذا التموزي ايضا، الذي يصادف اليوم 12 تموز 1712 ثلاثمائة عام. جان جاك روسو. لكن هلا عرفت يا جان المسكين، العظيم والجميل، ايها العبقري في زمانك، في قوة البيان، ان هذه هي الرأسمالية، التي صغت عقدها، عقد الدولة القومية البرجوازية، بديلا عن الدولة الإقطاعية الثيوقراطية، التي تحكم بالحق المطلق، انما هي الرأسمالية التي تتحول على مدى الثلاثمائة عام من سيطرتها الى ان تكون هي الوحش. يا رسو أنا رافقتك في أيام تشردك وشقائك، وتأملاتك المبكرة، خوفك المبكر، فقدان بكارة الطبيعة، أنا سمعت غزلك، فرحك مثل غناء القديسين في البراري، لكني أظن انك لو عدت الى الحياة الدنيا اليوم، لتمنيت لو ان أولئك الملوك، الذين سرهم ان يكتفوا بمباهج الحياة المترفة ولكن البسيطة، قد ظلوا هم سادة الدنيا. هل ضاقت بهم سعة تفكيرك ؟ وهم الذين قدروا موهبتك، فدعاك فريديرك ملك ألمانيا لضيافته واستقبلك بنفسه ملك انجلترا دون ان ينسى هيون اللئيم الذي كان بدوره يغار منك مثل فولتير وديدرو ان ينم عليك. فيا ليتنا يا رسو بقينا في زمن الزراعة الراكد والسيف قبل ان نصل الى مدافع نابليون ومدن وغابات الإسمنت، وقنابل الفسفور والطائرة الشبح، وصولا الى الصراع على النفط والغاز في الشرق الأوسط. كان هذا رجلا ولد في المأساة، وانتهى به الأمر مطرودا من باريس، وحيدا في شيخوخته، وكما فعل أبو حيان التوحيدي ممزقاً كتبه، مفضلا عليها الاهتمام بتصنيف الأعشاب، والنباتات، لكنه لم ينس ان يسجل خواطره الأخيرة واعترافاته عن الحياة ولأن الوقت لا يتسع فانه من الجدير ذكره ان لا ننساه هنا، التذكير بانه الى جانب العقد الاجتماعي الذي اصبح دستور البشرية، انجيل الثورات الجديد، أعطى العالم قواعد وأسس التعليم الحديث. لقد كان هو ابو التعليم المدرسي الذي نعرفه اليوم، وقد وضع هذه القواعد والأسس التربوية والتعليمية في كتابه "اميل".