خبر : أعمدة الأمن القومي العربي والحروب السرية ...بقلم: حسين حجازي

السبت 21 يوليو 2012 09:02 م / بتوقيت القدس +2GMT
أعمدة الأمن القومي العربي والحروب السرية ...بقلم: حسين حجازي



في أوائل التسعينيات القرن الماضي، كتب باتريك سيل، الصحافي والكاتب البريطاني المعروف كتاباً استقصائياً كرسه للبحث في قضية اغتيال القائد الفلسطيني الفتحاوي الشهير، الذي كان يلقب بالرجل الثاني في حركة فتح في ذروة صعودها، صلاح خلف "أبو اياد" الذي اغتاله في تونس العام 1991 ورفيقه الأخ هائل عبد الحميد، أحد عملاء أبو نضال المنشقين عن "فتح"، والذي كان يلقى دعماً من النظام العراقي وذلك قبل يوم واحد من بدء الحرب على العراق ياللمفارقة، لإخراج القوات العراقية من الكويت. كان الكتاب يحمل عنواناً ذا دلالة "بندقية للإيجار". حاول سيل فيه ان يجمع الى جانب موهبته كمحلل ألمعي، ومؤرخ وباحث، ان يتقمص شخصية المحقق والمحلل الأمني، كما لو انه" شارلوك هولمز"، رجل استخبارات محترف، في محاولة حل لغز وحيد، حاول طوال الوقت تفكيكه، عما إذا كان ثمة يد اسرائيلية في عملية الاغتيال هذه التي اتخذت في المظهر الواقعي طابع تصفية حسابات بين خصوم سياسيين في إطار صراع داخلي، بين مجموعة منشقة والحركة الأم. والواقع أن كاتبين وصحافيين مرموقين في الغرب، أحدهما فرنسي هو اريك رولو وباتريك سيل البريطاني، الذي نشير الى كتابه الآن، كانا قد أوليا اهتماماً مثيراً ولافتاً بشخصية صلاح خلف (ابو اياد) . الأول رولو كتب عنه مبكراً كتاباً احتفائياً لا يخلو من التعاطف، يختزل سيرة وقصة شعب وثورة، في شخصية رجل هو بحد ذاته، ليس شخصاً عادياً، كان يعتبر أو ينظر اليه، على انه المسؤول التنفيذي لما يسمى بـ"الأمن القومي الفلسطيني". وباغتياله ورفيقه مدير المخابرات العامة هايل عبد الحميد "ابو الهول" بعد ثلاث سنوات من اغتيال خليل الوزير (ابو جهاد) في تونس، المسؤول التنفيذي عن ملف وإدارة عمليات المقاومة في الداخل الفلسطيني، كان قد تم، توجيه ضربة قاسية، قاتلة، ليس لمساعدي عرفات الخلصاء، وإنما للأعمدة الرئيسية، التي كانت تشكل الخلية الرئيسية لهيئة أركان الأمن القومي الفلسطيني، أو العصب الدماغي المركزي. في شقة متواضعة، من طابقين، في احد أحياء دمشق، صبيحة يوم الأربعاء، حدث تفجير غامض أودى بحياة ثلاثة رجال كبار من أعمدة الأمن القومي السوري وأصاب عدداً آخر منهم بجراح. وقد بدت هذه العملية مفاجئة، للمعارضة السورية، كما للنظام نفسه، ما يثير اليوم علامات استفهام حول من وراء هذه العملية الكبيرة والغامضة، التي لا يمكن ويشك أن يستطيع تدبيرها، فصيل معارض أو منشق، وإنما تقود الى اسئلة باتريك سيل عن عمل بمستوى تخطيط وتنفيذ إمكانات دول وليس مجموعات. لم يخف الباحث البريطاني المرموق، إعجابه بالأسد الكبير، الذي كتب عنه، مؤلفاً ضخماً، بعنوان " الأسد والصراع على الشرق الأوسط" وهو احد ابرز المتخصصين في الغرب في الشأن السوري، ولا يزال كتابه الأول، نهاية الخمسينيات "الصراع على سورية" يعتبر مرجعاً أساسياً ولا يمكن الاستغناء عنه، في ما يتعلق بفهم المسألة السورية . فمن كان يصب الأنخاب في ذلك اليوم، من منتصف شهر كانون الثاني، 1991 حين اغتيل ابو اياد وهايل عبد الحميد، ابو اياد الذي أدار حرباً سرية استخباراتية لا سابق لها، ولم تتكرر مع أعتى جهاز استخبارات وعمليات خارجية لاسرائيل، أي "الموساد" وسدد له ضربات ناجحة في عموم اوروبا. وهو نفس السؤال الذي يطرح اليوم: من الذي تبادل الأنخاب فرحاً يوم الأربعاء، بعد ورود الأخبار من سوريا؟ إذا كان الهدف تحطيم الجيش السوري وبينة الأمن القومي للدولة السورية ؟ هيا نقف ونفكر: إن أول شيء عملته أميركا بعد احتلال العراق، حل الجيش العراقي، هذا جيش سلاحه وعقيدته وتربيته ليست أميركية، ومعروف انه هناك ثلاثة جيوش عربية محيطة باسرائيل، جيوش تستطيع القتال، هي الجيش المصري، والجيش العراقي والجيش السوري. وقد تم حل الجيش العراقي، وتم ربط أمعاء الجيش المصري بعد كامب ديفيد مع السادات وحسني مبارك، بالتسليح الأميركي، وبقي الجيش السوري. والجواب واضح من ابتسموا هم في اسرائيل، وخصوصاً بعد ما قام الجيش السوري، بمناورات أخيرة غير مألوفة، كشفت عن تحول في استراتيجية تحديث بناء القوة النوعية لهذا الجيش. ولم يعد نفسه الجيش القديم، تسليحاً وتدريباً، وهو التحول الذي بدأ في السنوات العشرة الأخيرة.لكن هذه الابتسامات أفسدتها ولا شك، الأخبار السيئة التي جاءت هذه المرة، دون توقع من بلغاريا، فهل التفجير الذي حدث هناك، هو إيذان بفتح جبهة عمليات جديدة ضد اسرائيل، عودة الى العمليات الخارجية ؟ عقد السبعينيات زمن صلاح خلف "ابو اياد" ؟ ومسرح هذه العمليات العالم كله؟ اذا كان منطق الصراع يأبى هذه التهدئة على الحدود اللبنانية ومع غزة والضفة الغربية مرة واحدة، ولكن باختلاف وحيد هذه المرة وهو أن على اسرائيل نفسها عدم التهور بالرد الانتقامي، خشية تحول الوضع الحساس الى حريق هائل يشعل كل الشرق الأوسط. إذا كان ليس بشار الأسد وحده، اليوم وإنما حسن نصر الله، مستعدين، بل يكادون ان يكونوا متلهفين، لتلقف هذه المواجهة، والذهاب الى حرب شاملة، تخرج سورية من أزمتها، وكذا أزمة حزب الله في لبنان. لا رد إذا متوقعاً سوى الرد السري الغامض، فهل يمكننا اعتبار التفجير الذي أودى بقيادات الأمن القومي السوري في دمشق في هذا السياق أصلاً ناتج عن عدم قدرة الطرف الإسرائيلي وربما الأميركي، على إظهار إصبعه علناً في الأزمة السورية؟ وفي التحليل الأخير هذا جيش لم يحارب اسرائيل منذ العام 1973 ولكن بحسب ما نعلمه اليوم من السيد حسن نصر الله، وثمة دلالة لهذا الكشف للغمز من قناة "حماس"، بصورة غير مباشرة، على سبيل العتاب، فان صواريخ هذا الجيش التي انتجت في مصانعه هي التي أطلقت على جميع المدن والأهداف الاسرائيلية في حرب تموز 2006 من جنوب لبنان، على حيفا وما بعد حيفا، كما أنها الصواريخ التي انتجت في مصانع الجيش السوري وأرسلت وتم إيصالها من سورية الى غزة، والتي أطلقتها "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى على اسرائيل. فقط هنا في المثال السوري، يمكن إعادة رسم خط فاصل مع التجربتين المصرية والتونسية، حين كان يمكن للتدخل الخارجي، في مثال مصر وتونس، أن يتم من وراء الستارة، لإحداث النقلة دون المرور بتحطيم الجيوش وإسقاط الدولة، لان أميركا قادرة على ممارسة النفوذ هناك على الجيوش. أما هنا في المثال السوري، فان ما يسمى" الدولة العميقة "أو النواة الصلبة للدولة، أي الجيش والمخابرات وما يسمى بالأمن القومي، فانه لا يمكن حسم التحول، إسقاط النظام، دون إسقاطها، تحطيم مناعتها، قوتها الصلبة.وهكذا فان السؤال اليوم، هو فيما اذا كانت مثل هذه الضربة التصفية الجسدية، للأشخاص الممثلين، لهذه البينة، النواة الصلبة، كافياً لتقرير مصير الأزمة السورية، أو حسمها ؟ والجواب هو كلا. لان هؤلاء الأشخاص يسهل استبدالهم بآخرين، طالما أن البنية المادية لهذه النواة لم تمس فعلياً، وبهذا الاستنتاج فان ما سيحدث هو التحول، في المقاربة التي يتبعها النظام حتى الآن في طريقته الأمنية لحسم الأزمة بالانتقال من وراء الستارة، القفاز الذي كان يرتديه، وتجريد القوة من أي عقال، لسحق التمرد بقوة لا سابق لها، إذا كانت الأزمة السورية اليوم، كما لاحظناها هنا مبكراً، لا تحدد مصير النظام السوري وإنما مصير النظام العالمي برمته. فهل مصادفة ثلاثة فيتوات مزدوجة روسية صينية في هذا الصراع؟ وتراه كم هو مفارق أخيراً خلال كتابة هذا المقال وفاة مسؤول ملف الأمن القومي المصري السابق عمر سليمان في مستشفى أميركي بصورة غامضة. الرجل الذي ألمح قبل فترة بانه يمكن أن يفتح الصندوق الأسود الذي يحتفظ به. هل هي مصادفة؟