حتى في الوقت الذي يواصل فيه نظام الأسد الانحدار بسوريا وتحويلها أرض خراب مذهبية، لا تستطيع همجيّته حجب تحوّلٍ واضح في المأزق العنيف بين النظام والثورة التي صمدت خلال العام الماضي. ففي الأشهر الأخيرة، اكتسب تزعزع نظام الأسد زخماً جديداً. وجيشه يتداعى من الأسفل، وأكثر فأكثر من الأعلى.المعارضة المسلّحة تصبح أفضل تنسيقاً وأكثر فاعلية. يحتشد الجيش التركي على الحدود السورية. وتطلق الحكومة التركية أكثر فأكثر يد المقاتلين المعارضين الذين يستخدمون أراضيها ملاذاً آمناً. لقد تسبّبت العقوبات بانهيار الاقتصاد السوري. وتبدّل مزاج رجال الأعمال في دمشق وحلب إلى حد كبير، مع أنهم لم يتنصّلوا علناً من آل الأسد كما يحبّذ الغرب.تشير كل هذه النزعات إلى خلاصة واحدة: نهاية نظام الأسد تقترب أكثر فأكثر. لم يعد السؤال المطروح، هل سيسقط النظام؟ بل متى؟ والأهم من ذلك، كيف؟ صحيح أنه لا يمكن توقّع التوقيت الدقيق لزواله، لكن ثمة مؤشّرات متزايدة بأن الحكومات التي تعارض نظام الأسد، وحتى تلك التي لا تزال تؤيّده، تزداد قلقاً بشأن السبيل لإدارة لعبة الحسم في سوريا وحماية مصالحها في مرحلة ما بعد الأسد.وقد كان هذا التركيز الجديد واضحاً في اجتماعات جنيف في 30 حزيران الماضي والتي ضمّت الولايات المتحدة وروسيا والمبعوث الخاص المشترك كوفي أنان، وفي اجتماع المعارضة السورية في القاهرة في 2 و3 تموز الجاري برعاية الجامعة العربية، وفي اجتماع أصدقاء سوريا في باريس في 6 تموز الجاري. وقد ظهر من خلال ثلاثة تحوّلات مهمة. التحوّل الأول يحصل على مرأى من الجميع، ويلقي الضوء على الأسباب وراء استمرار الولايات المتحدة والروس في إيجاد قيمة في عمل أنان على الرغم من إخفاقه في تحقيق نتائج ذات مغزى. أما التحوّلان الآخران فأقل وضوحاً إنما ليسا أقل أهمّية. وهما يسلّطان ضوءاً مفيداً على الطريقة التي تعمل بها الولايات المتحدة لإدارة لعبة الحسم في سوريا من خلال معارضة لا تزال تعتبرها مجزّأة إلى درجة ميؤوس منها، لكنها تقرّ الآن، ولو على مضض، بأنه لا بد لها من العمل معها.أولاً، تركّز الديبلوماسيتان الأميركية والروسية أكثر فأكثر على الجهود الآيلة إلى حدوث عملية انتقالية من طريق المفاوضات بدلاً من انهيار النظام. تشكّل المفاوضات ركيزة أساسية في السياسة الأميركية حيال سوريا منذ بدء الانتفاضة. لكنها اكتسبت أهمّية جديدة، وأحد الأسباب هو أنها تحمل الأمل بالتخفيف من حدّة الفوضى والعنف اللذين يُتوقَّع أن يعقبا سقوط الأسد، إنما أيضاً لأنها تشكّل عملياً الطريقة الوحيدة التي قد تتيح للولايات المتحدة التأثير في سير العملية الانتقالية ـ التي باتت تُعتبَر الآن أقرب بكثير مما كانت عليه قبل أشهر قليلة ـ وفي نهاية المطاف فرض ثقل موازن في مقابل اللاعبين الإقليميين الذين استثمروا بقوة أكبر بكثير من واشنطن في جمع اتباع سوريين من حولهم، ولديهم أفكارهم الخاصة عن الاتجاه الذي يجب أن تقود إليه العملية الانتقالية بعد الأسد. وتعكس التبدّلات الأخيرة في السياسة الروسية بما يصب في مصلحة المفاوضات، منطقاً مماثلاً. فمن دون مفاوضات تؤدّي فيها شخصيات النظام المقرّبة من روسيا دوراً ناشطاً، لا تملك موسكو أملاً كبيراً بالحفاظ على مكانتها في سوريا بعد رحيل الأسد.وقد أعادت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في تصريحاتها في اجتماع أصدقاء سوريا في باريس، تأكيد هذا التركيز الجديد على المفاوضات، وأثنت على الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه في الاجتماع الذي عُقِد بوساطة من أنان في جنيف في 30 حزيران الماضي. ولفتت إلى أن روسيا وافقت للمرة الأولى على وجوب حدوث انتقال سياسي. كما أن الاتفاق يضع للمرة الأولى المعارضة السورية على قدم المساواة مع الحكومة السورية، إنما من دون تسمية مجموعة محدّدة داخل المعارضة بأنها الممثّل الشرعي الذي سيجلس مع النظام إلى طاولة المفاوضات.ولاحقاً، ضمّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صوته إلى جوقة المفاوضات. ففي 9 تموز الجاري، شدّد على ضرورة دخول الأسد في مفاوضات قائلاً “علينا أن نبذل كل ما بوسعنا لإرغام الأطراف المتناحرة على التوصّل إلى حل سياسي سلمي لكل المسائل الخلافية”. وتأكيداً على هذه النقطة، أعلنت روسيا أيضاً تعليق كل عقود الأسلحة الجديدة مع سوريا “حتى تهدأ الأوضاع”. يبدو أن بشار فهم الرسالة. ففي اليوم نفسه لإعلان بوتين موقفه هذا، قال كوفي أنان إنه حصل على موافقة الأسد على إطار تفاوضي من دون أن يكشف عن أي تفاصيل إضافية. صحيح أن الكرملين لا يزال يزوّد الأسد أسلحة وإمدادات بموجب العقود القائمة، لكنه لم يعد يبدو مستعدّاً للرهان بكل ما يملكه على بقاء الأسد. بعد 16 شهراً، وحتى في الوقت الذي يواصل فيه النظام عدوانه على المدنيين السوريين، تكتسب احتمالات إطلاق شكل ما من أشكال المفاوضات زخماً جدّياً.ثانياً، تعمل الجامعة العربية والولايات المتحدة والحكومات الأساسية في مجموعة أصدقاء سوريا على تجهيز المعارضة السورية من أجل المشاركة في المفاوضات، وتمنح أولوية أكبر للتخطيط للمرحلة الانتقالية في أوساط المعارضة. كان الهدف الأساسي لمؤتمر القاهرة، والذي تحقّق (بأعجوبة)، التوصّل إلى اتفاق حول العناصر الأساسية لاستراتيجيا انتقالية من شأن كل فصائل المعارضة الموافقة عليها. وكانت هذه النقطة محور اجتماع أصدقاء سوريا في باريس. فقد تحدّث ممثّلو العديد من المجموعات المعارضة عن التخطيط للمرحلة الانتقالية، ووافق عبد الباسط سيدا، رئيس المجلس الوطني السوري، علناً على خطة “ما بعد الأسد” التي وضعها ناشطون معارضون سوريون عملوا معاً في برلين على امتداد ستّة أشهر لإعداد استراتيجيا انتقالية مفصّلة (نكشف في هذا الإطار أن معهد الولايات المتحدة للسلام والمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ساهما في تسهيل سلسلة اجتماعات برلين التي أدّت إلى ولادة وثيقة ما بعد الأسد).ثالثاً، بدأت الجامعة العربية والولايات المتحدة ولاعبون أساسيون آخرون الحدّ من مطالبتهم بتوحّد المعارضة، فقد أدركوا، ولو على مضض، أن الانقسام لم يعد عائقاً أمام الانخراط. وبدلاً من وحدة المعارضة، باتت الأولوية تُعطى الآن للاهتمام بالتوصّل إلى إجماع لدى المعارضة حول السبيل لإدارة تحدّيات المرحلة الانتقالية. في القاهرة، عيّنت الجامعة العربية في خطوة أحادية لجنة تحضيرية، فأرغمت معارضين لم يكونوا ليجلسوا عادةً في الغرفة نفسها، على تمضية نحو أسبوعين في العمل معاً لإعداد الوثائق حول المرحلة الانتقالية والتي تمّت الموافقة عليها لاحقاً خلال المؤتمر. ولفت أيضاً غياب النقاشات عن وحدة المعارضة في اجتماع أصدقاء سوريا في باريس. فبدلاً من الحديث عن الوحدة، أظهرت الدول الأعضاء اهتماماً أكبر بتعزيز مكانة الأشخاص الذين يمكن أن يؤدّوا أدواراً قيادية في المفاوضات في المستقبل، بغض النظر عن الفصيل المعارض الذي قد ينتمون إليه.سوف يتسارع التنافس لرسم معالم المرحلة الانتقالية مع اقتراب موعد سقوط النظام أكثر فأكثر. لكن ليس أكيداً إذا كانت هذه الجهود ستثمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة أو روسيا. يضع حجم الدعم الروسي للنظام السوري عوائق شديدة أمام تأثير موسكو المستقبلي في دمشق بعد الأسد، في حين أن حدود الدعم الأميركي للمعارضة سوف تكبح على الأرجح التأثير الذي يمكن أن تمارسه واشنطن في المستقبل. علاوةً على ذلك، هناك لاعبون إقليميون يشاركون في اللعبة، وهم يتمتّعون بأفضليات مهمّة. كي تزيد الولايات المتحدة تأثيرها إلى أقصى حد، عليها أن تتجاوز تردّدها في دعم المعارضة المسلّحة، لكنها خطوة كبيرة ليست واشنطن مستعدّة للقيام بها. هذا فضلاً، وبالأهمّية نفسها، عن وجود قوّات ثورية على الأرض ليست لديها أيّ نيّة في ترك جهات خارجية تُحدّد مستقبل سوريا، وهي لا تثق، إلى جانب المعارضة الخارجية، بكوفي أنان، وتسخر في شكل مناسب من الجهود الهادفة إلى إرغامها على الدخول في مفاوضات مع عناصر من نظام الأسد. في هذه المرحلة الحسّاسة، تبقى المعارضة السورية هدفاً مبعثَراً وبعيد المنال في الجهود التي تبذلها واشنطن لإدارة لعبة الحسم في سوريا. ـ "فورين بوليسي" ترجمة نسرين ناضر ـ النهار اللبنانية