خبر : ابحثوا عن التفاصيل الصغيرة والبسيطة لحل اللغز ..بقلم :حسين حجازي

السبت 14 يوليو 2012 09:14 ص / بتوقيت القدس +2GMT
ابحثوا عن التفاصيل الصغيرة والبسيطة لحل اللغز ..بقلم :حسين حجازي



الذين عرفوا ياسر عرفات عن قرب، يعرفون انه لا يأكل طعامه وحيدا، وإذا حضر الطعام يحرص ان يطعم ضيوفه بيديه، قبل ان يتناول هو الطعام، اكراما لهم، نعم. ولكن ايضا وقبل كل شيء لكي يبعث رسالة واضحة، الى العدو، ومفادها: لا تحاول من هذه الطريقة. والذين عرفوه في بيروت، عرفوا عنه انه لا ينام ليلتين متتاليتين في مكان واحد، وانه كان يمكن ان يفاجئ كادرا فتحاويا بسيطا، لزيارته والمبيت معه وأسرته ليلا، وحتى مرافقيه سواء في السيارة، أو الطائرة، لم يكن يسلم لهم، قياده في الطريق الى الهدف، وإنما كان يختار بنفسه الطرق التي يسلكها . هذا الرجل لم يكن قائدا فذا وغير عادي في التاريخ لأنه سياسي اريب محنك، ذكي، ومتمرس يعرف كيف يجتاز المطبات والأزمات، يملك دائما زمام الامور، ويعرف دوما كيف يضع قضيته على درجة مائة حد الغليان، اينما كان في الاردن في لبنان، أو تونس، أو غزة، أو رام الله . وانما الى جميع مزاياه الشخصية هذه والسياسية، فقد كان رجل امن من طراز نادر ورفيع، يملك انفا وحدسا كانف الاسكندر المقدوني الكبير، ولاحظوا الخط البارز والعميق في كف يده تحت الخنصر، لتستدلوا على قوة الحدس. شخص يستطيع ان يرى الأشياء قبل وقوعها، ويستطيع ان يغربل الرجال وأن يعرفهم، فلا يتحدث احد هنا عن رجل يسهل خداعه ببساطة هكذا. صحيح انه يؤمن بالقضاء والقدر، ولكن هذا رجل يعرف انه يقود شعبه في معركة حادة وشرسة، يواجه فيها ذئابا ووحوشا كاسرة، تتربص به وبشعبه ولذا لا يمكنه السهو أو الغفو ببساطة.  يلزم اذن للتغلب على دهائك يا عرفات وقوة مراسك، دهاء وكيد اشد من دهاء وكيد الشياطين، ومن مكر الليل والنهار. دهاء وخداع بدوت في لحظة وكأنك تفوقت عليه، حين اكتشفوا ان اوسلو ليست سوى خازوق أجلستهم عليه، فقتلوا رابين نفسه بيدهم، وصمموا بعد ذلك نتنياهو وباراك وشارون القضاء عليك. وكانت انتفاضتك الثانية التي اوشكت ان تسقط ما بيدهم، هي الخط الفاصل، فقد كان المكر الاسرائيلي اكثر مما يحتمل المكر الفلسطيني في هذه المبارزة على محور تفوق القيادة النوعية، وصراع الأدمغة.  وكان يجب ان يتخلصوا منك الان، يا عرفات . ان يدفنوك عميقا بحيث يتأكدوا هذه المرة انك لن تخرج من القبر ثانية . "ادفنوه عميقا" عنونت صحيفة يديعوت احرنوت دونما وجل يوم اعلان استشهادك. عميقا عميقا تحت التراب، لئلا تطل الوطنية الفلسطينية ثانية من تحت الرماد. الوطنية الفلسطينية التي كنت انت ملهمها وروحها. لا نتصور اذن سيناريو تقليديا بائسا في طريقة التخلص من الرجل، فقد كان ايصال السم هو الحركة الاخيرة، لرجل تم تضييق دائرة الخناق عليه، تم الاطباق عليه بطريقة محكمة ولم يكن له أي منفذ للنجاة أو مغيث. هذه هي الحقيقة المفزعة التي يجب ان نعترف بها. لحصار كان مثلث الاطواق، لم يكن القتل بالسم، سوى الطلقة الاخيرة . بعد ان سدت جميع المنافذ امام الرجل كلحظة من السقوط في فم التمساح، وحيث لا يمكن النجاة من هذا الوضع الا بمعجزة. لرجل كان عبارة عن شبكة من الاتصالات والمواصلات قائمة في شخصه، وما ان تم تثبيته في المكان دونما قدرة على التحرك بدا الانقضاض عليه سهلا. وكما في التراجيديات المأساوية والدراما التاريخية، فان جميع العناصر ،العوامل، المتضمنة في البنية الدرامية، كانت قد اجتمعت معا وتضافرت لحدوث الماساة. وهكذا يبدا الفصل السياسي الذي تحددت فيه معالم الخطة، للتخلص من عرفات في صيف العام 2000 في الدعوة الى مفاوضات كامب ديفيد . وكانت الخطة أما ان يوافق عرفات على العرض المقدم له، فيقتل سياسيا وما ان يرفض وهو ما فعل، فيتم الاعداد لقتله والتخلص منه ماديا، جسديا . وقد فهم عرفات الذي اعد نفسه لهذه النتيجة، انه لم يعد امامه من خيار سوى قلب الطاولة والذهاب الى الاشتباك، واستغل الظهور المفاجئ لشارون في الحرم القدسي. وكان هذا الظهور ايذانا ببدء الفصل الثاني من القصة، وهو ظهور كان مدبرا من باراك ليستبق عندئذ عرفات الضربة، بتدبير الانتفاضة الثانية، المناورة الحربية الاخطر التي اقدم عليها. قدم موعد الانتخابات في اسرائيل وجاء ارييل شارون، ومع جورج بوش، وديك تشيني، والمحافظين الجدد في اميركا، في ذروة النزعة العدوانية الشرسة، للمحافظين الجدد، للانتقام من احداث ايلول 2001، تقرر ان يؤخذ العراق، صدام حسين، وسورية بشار الاسد، وعرفات في دائرة الانتقام، وكان هذا ايذانا ببدء الفصل الثالث الذي يشهد عادة عملية اطلاق الرصاص، كما في المسرحيات التراجيدية . عند هذه اللحظة بدأت عملية نبذ عرفات وعزلة، ونزع الشرعية عنه في خطاب بوش الشهير الذي دعي فيه الى تغيير القيادة الفلسطينية العام 2002. تضافر احياء ثار قديم من حرب لبنان صيف العام 1982 ظل متقدا في صدر شارون على عرفات، مع هذا التحول، الانقلاب الراديكالي في المسرح الدولي ،حين كانت روسيا بوتين لا تزال ترمم بيتها الداخلي، كفرصة سانحة امام شارون، لتحقيق ما فشل فيه في لبنان بالقضاء جسديا على عرفات. وها ان الفرصة قد حانت الآن، ولم يتأخر شارون في فرض الحصار على مقر عرفات في المقاطعة، بعد ان اجتاحت قواته الضفة الغربية، في عملية واسعة سعى من خلالها لسحق المقاومة الفلسطينية. ولكي تكتمل كل عناصر البنية الدرامية، قامت الدول العربية، الانظمة الاستبدادية، بفرض الحصار الطوق الثالث والمكمل، فلم تتحرك مصر حسني مبارك، لتامين ممر امن لانقاذ عرفات، الذي كان هو من فك الحصار السياسي العربي على مصر، والعزل عن نظام مبارك نفسه العام 1984. وارتضى العرب في قمة بيروت العام 2002، عقد قمتهم بينما عرفات ممنوع من السفر والحركة، وتنهش جرافات شارون امام الملأ جدران المقاطعة . وفي الشهور الاخيرة توقف الزعماء العرب ، الاتصال به لمجرد السؤال عنه. وعند هذه اللحظة تجرا شارون للاعلان عن نيته قتله. وعند هذا المقترب، كان القتل السياسي قد تحقق، اعداد القاعدة المادية للقيام بالتنفيذ، تحضيرا للقتل الجسدي، الذي اصبح مسالة وقت لا اكثر . بعد ان استكملت بنية هذا الحصار بعملية موازية لجعله غير ذي صلة في الواقع الفلسطيني . وحين بدا الصراع، التراجيديا تتخذ لها شكلا واطار اقرب الى شكل، ونسق الماسي الاسطورية، اسطورة "الاب القتيل" الاغريقية القديمة، أو "العشاء الاخير " قبل صلب السيد المسيح، وعزلة سيدنا الحسين بن علي، والاستفراد به في "كربلاء" عشاء عرفات الاخير ،في المقاطعة يوم 12 تشرين الاول 2004 . وكربلاء الثانية في قتله وحيدا دونما منقذ أو مغيث. وهكذا، فان تحقيقا سياسيا وامنيا ، وطبيا، يجب ان يباشر فيه على هذه المسارات الثلاثة، للكشف عن ملابسات عملية القتل هذه، وكيف تم التخلص منه. فهناك اداة فلسطينية سياسية، بموازاة الاداة الامنية. من قدم السم ؟ وكيف قدمه ؟ وباي وسيلة؟ وفي أي توقيت ؟ وان الاشارات التي تضمنها تحقيق قناة الجزيرة يقود الى دلالات كاشفة يمكن البناء عليها هنا، وهي دلالات لا يخطئها أي تحليل ولا تحتاج الى ذكاء عبقري، للكشف عما ورائها .  والأسئلة هنا: ما دلالة المرض العارض الذي اصيب به عرفات، قبل اسبوع، بالانفلونزا و من أي مصادر وباي طريقة امنية كانت متبعة في الحصول على الادوية، وما هي الاجراءات الامنية الاحتياطية التي كانت تتخذ في ظل التهديد بالقتل. هل كان ثمة استخفاف في التعامل مع مرض الرئيس ومن الذي كان يقرر في مسائل ذكرت سابقا مثل الابطاء والتاخير في دعوة طبيبه الاردني الخاص، ونقاط اخرى غامضة تحتاج الى تفسير، لا يمكن لتحقيق جدي المرور عليها هكذا لانه كما القاعدة في الجرائم الكبرى، فان السر وحل اللغز يكمن في التفاصيل الصغيرة. فماذا جرى في اليوم الاخير 12 تشرين الاول والاسبوع الحاسم قبله. فالشعب يريد استقصاء دقيقا حول ما كان يجري في هذه الايام الاخيرة. لأن استقصاء دقيقا من هذا النوع يمكنه ان يميط اللثام عن الحقيقة، والانتصار لهذه الحقيقة، ما يريح الرجل في مثواه الأخير.