أثارت تركيا بقيادة الطيب أردوغان ضجة عظيمة وصخبا هائلا عندما قررت أن تلعب دورا رئيسا في إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط. كانت على استعداد للاقتراب من حكومات دول عربية والمساهمة في تسوية مشكلات عويصة تعب في محاولات حلها دول أحدث خبرة في شؤون العرب. حشدت طبقتها التجارية والصناعية والمالية لاختراق أسواق الدول العربية، وأقامت شراكات استثمارية واستعدت بالرأي العام وباستخدام فنون «التلفزيون» والاستعراض، لتعرض على العرب نموذجها في الحكم والاقتصاد في صورة جذابة ومغرية.كنت واحدا من الذين أشفقوا على تركيا وأحلام حكومتها في المنطقة العربية. أشفقت عليها من عواقب انبهارها بذاتها، وبالإنجازات الصغيرة ولكن العديدة التي حققها أردوغان على الصعيد الداخلي وبالأفكار الضخمة التي طرحها بجاذبية ومهارة وزير خارجيته.. لم أخف إشفاقي بل نقلته بدون تشذيب إلى أصدقاء وأكاديميين أتراك. طلبت منهم وضع الترحيب الحماسي من جانب العرب بقدوم الأتراك ضمن إطار محدد وواضح. قلت وقتها إن الدعوات المتكررة من جانب جماعات وحكومات وأحزاب عربية لتركيا للتدخل في شقاقات العرب ومشكلاتهم، يجب أن يستقبلها الأتراك بكثير من الحذر، فالمنطقة العربية كانت تقف على فوهة بركان وحكامها كانوا يحلمون بدولة أجنبية تقودهم من بعيد يخيفون بها إيران وخصومهم من العرب الآخرين، ويطمئنون بها الولايات المتحدة التي كانت تدرس توقيتات الانسحاب من بعض المهمات والمواقع الدولية.كانت رغبة تركيا، إلى جانب رغبات أخرى، من رحلة العودة إلى الشرق العربي أن تستعيد مكانة في المنطقة. أرادت أن تكون علاقتها بسوريا الأقوى، وكانت الأسباب مفهومة، وهذه رحبت بها سوريا ولكن في إطار شك كبير. مهدت سوريا بتسليم عبدالله أوجلان إلى تركيا. ومن جانبهم رد الأتراك بنصائح للسوريين فور نشوب الثورة في تونس ثم مصر وليبيا. يقول الزميل سركيس نعوم، الصحافي اللبناني المرموق، إن الأتراك «سعوا إلى إقناع النظام السوري باستباق ما يمكن أن يحصل وقيادة عملية إصلاحية تنقذ سوريا من الدمار، لكنهم أخفقوا ثم كرروا المحاولة بعدما شمل الربيع سوريا مباشرة، فأخفقوا ثانية. وحاولوا مرة ثالثة وأعطوا ضمانات أنهم سينزلون إلى الشارع السوري لقيادة الحملة الانتخابية الرئاسية لبشار الأسد العام 2014 إذا نفذ إصلاحات معينة، لكنهم فشلوا أيضا».لا يسعدني كثيرا قراءة ما يثبت أنني كنت على حق عندما حذرت أصدقاء أتراكاً من المبالغة بالانبهار بصدى عودتهم إلى المنطقة العربية وبالصعود المتتالي لسقف توقعاتهم. لم يكن سعي الأتراك للتهدئة أو للتدخل الوقور الذي صادف ترحيبا شعبيا، سوى البداية في مسلسل خيبات الأمل. إذ انه عندما فشل السعي للتهدئة بالتدخل الهادئ لجأت أنقرة إلى أسلوب أقل نعومة، وهو الأسلوب الذي جسد في واقع الأمر نهاية حلم «الصفر مشاكل zero-problem » في السياسة الخارجية لحكومة أردوغان. أقول حلما لأنه كان شعارا مثاليا لحالة خيالية لا علاقة لها بواقع العلاقات الدولية كما عرفناها ونعهدها. ظهرت خيبة الأمل واضحة في المحاولة الثالثة للتدخل حين طرح أوغلو، وزير الخارجية، في شباط/فبراير الماضي فكرة إقامة حلف الراغبين ليشترك فيه العرب لوقف عنف النظام السوري ضد الشعب ويهدف إلى إنشاء مناطق عازلة وشبكة من الممرات الآمنة لأغراض إنسانية، كما وعد بتنظيم حملة انشقاق ضباط وجنود الجيش وتشجيعهم.استمر التصعيد في الموقف التركي مع استمرار تحدي دمشق لمواقف الحكومة التركية واستمرار تدهور الأحوال في سوريا حتى وصل الأمر بأردوغان إلى التهديد «بحشد قوتنا وإصدار الأوامر بإطلاق النار على كل شيء أو شخص سوري يقترب من حدود تركيا». وهدد أيضا بأنه سيواصل دعم المعارضة بكل الوسائل المتاحة.أكثرنا يعرف أن عددا من الدول العربية كتم أنفاسه ابتهاجا وتفاؤلا بما يمكن أن تحققه هذه التهديدات التركية عندما تتحول إلى أعمال حقيقية ضد النظام السوري. كان الأمل الكاسح في بعض عواصم العرب هو أن «تركيا لن تتراجع قبل أن تسقط نظام الأسد سواء بالتدخل العسكري المباشر، أو بفتح حدودها أمام قوات دولية أو أطلسية». ولكنني أعرف عربا آخرين دقوا أجراسا عديدة للتحذير من مخاطر دفع أنقرة والإسلاميين الذين يتولون مقادير تركيا إلى عمل عسكري ضد سوريا، هؤلاء يدركون أهمية سوريا الاستراتيجية وحساسية موقعها وتركيبتها السكانية وكفاءة استخدامها الأوراق القليلة التي تحتفظ أو تهدد بها.كانت خيبة أمل القادة العرب الذين راهنوا على تدخل عسكري وسياسي تركي في سوريا لا يقل عن خيبة أمل الأتراك في انكسار حلم العودة التاريخية السلسة إلى العالم العربي. هؤلاء القادة العرب لم يقدروا أن في تركيا مؤسسات ومراكز أبحاث وتعددية فكرية نشأت وتعمقت في ظل نظام سياسي منفتح على عوالم الديموقراطية، وهو الانفتاح الذي ضمن أن يأتي لأنقرة بحكومة إسلامية بدون المرور على ثورة «ربيع» أو «خريف». توصل قطاع مهم في المجتمع الأكاديمي والسياسي التركي إلى أن سوريا ليست حالة عادية من حالات الربيع العربي، حين اكتشف أن حال سوريا أقرب إلى حال البوسنة وقت الحرب الأهلية منها إلى تونس وليبيا ومصر. ففي سوريا، كما كان الحال في البوسنة، هناك حكومة ضعيفة تقتل شعبا أعزل ولكنها في الوقت نفسه قوية التأثير في ما حولها، وتستطيع دائما أن تحصل على دعم حلفاء خارجيين، وقادرة على زرع وتعميق الخلاف داخل التجمعات الدولية والفصائل المناهضة للنظام السوري.يطرح محللون أتراك وغربيون أفكارا أخرى في محاولات لتفسير تراجع إجراءات وتهديدات حكومة أردوغان عن التدخل في سوريا، وتغيير لهجة الخطاب التركي المناهض لحكومة بشار الأسد. يعتقدون أن الموقف من إسقاط الطائرة التركية لم يتناسب إطلاقا ولهجة الخطاب الرسمي الذي كان يهدد قبلها بأقصى الإجراءات مثل الممرات الآمنة والحشود العسكرية على الحدود. التفسير الذي التقى عنده البعض من هؤلاء هو أن الجيش التركي، كمؤسسة ما زالت فاعلة في النظام السياسي التركي، ضغط على الحكومة من أجل عدم تصعيد الخطاب الرسمي. هناك عناصر ترجح هذا التفسير، منها على سبيل المثال أن الجيش خاب ظنه في القدرة الديبلوماسية لحكومة أردوغان على تنفيذ وعودها وتهديداتها، ومنها أيضا أن الثقة الدولية والإقليمية وكذلك الداخلية في حكمة وخبرة أردوغان ومستشاريه من قادة التيار الإسلامي ربما اهتزت بعد أن اتضح ميل أردوغان شخصيا إلى اتخاذ قرارات تحت ضغط الاندفاع أو الغضب أو الشعب.من ناحية أخرى، يتردد أن جهات مسؤولة ومتخصصين وخبراء في الشؤون الإقليمية حذروا من أن التورط التركي في سوريا بدأ يضع العلاقات بين تركيا وإيران على درجة شديدة الحرج والحساسية. وإن كان المؤكد على كل حال هو أن الثورات العربية في مجملها كانت، وما زالت، تمثل أحد مصادر التوتر في العلاقات بين الدولتين الكبيرتين في الإقليم. ويصعب تصور أن القادة العسكريين الأتراك يريدون أن تصل العلاقات بين الدولتين إلى حالة صدام أو توتر شديد في الوقت الراهن بسبب تطورات في سوريا أو العراق.ما زالت الثورة السورية وما يحيط بها من تفاعلات دولية وإقليمية تمثل حالة نموذجية للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه دول عظمى ودول إقليمية، لتتفادى مخاطر اصطدامات غير محسوبة النتائج. يبقى أمل النظام في سوريا معقودا على تسويات بين أطراف دولية لمشكلات أخرى تمهد لتسوية سورية. ويبقى أمل أطراف إقليمية، ومنها تركيا، معلقا بانتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر المقبل. السفير