خبر : قراءة في نتائج الانتخابات المصرية وانعاكسها على القضية الفلسطينية ! ..تيسير محيسن

الثلاثاء 10 يوليو 2012 06:54 م / بتوقيت القدس +2GMT
قراءة في نتائج الانتخابات المصرية وانعاكسها على القضية الفلسطينية ! ..تيسير محيسن



مقدمةبفوز د. محمد مرسي بمقعد رئاسة جمهورية مصر العربية، يكون قطار "الجمهورية الثانية" قد انطلق من ذات المحطة التي توقف عندها، اضطرارياً، وبفضل ثورة 25 يناير، قطار جمهورية حكم العسكر. ثمة محطات انتقالية حبلى بالصراعات بين طلائع الجمهورية الثانية وبقايا الجمهورية الأولى، على مستقبل مصر وطبيعة نظامها السياسي وعلاقاتها بالمحيط وبالعالم. ولا غرو في ذلك، فمحمد مرسي ليس رئيساً مدنياً فحسب، بل ومن حركة الإخوان المسلمين، الحركة الأكبر والأكثر تنظيماً، التي شاغلت العسكر طويلاً وشاغلوها، تحالفوا معها طوراً وخاصموها وخاصمتهم أطوارا. ومع هذا الفوز الملتبس، المحفوف بالرهانات والتكهنات، تدلف مصر، ومعها المنطقة برمتها، مرحلة جديدة بالكامل.  وبحكم الجوار الجغرافي والتاريخ المشترك وتقاطع المصالح وتداخل الأمن والدور الإقليمي لمصر، وللأهمية القصوى لفلسطين وموقعها، من منظور جغرافي وسياسي وقومي وديني، فما يحدث في مصر سرعان ما تسمع صداه في جنبات وأروقة القضية الفلسطينية منذ أصبحت قضية. وما يحدث لفلسطين وفيها تجد ارتجاجاته في أزقة المدن المصرية وهيئات صنع القرارات فيها. ولذلك، يرى البعض أن سيطرة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على قطاع غزة بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006 لعب دور المحرض المباشر والعامل المعجل في سقوط نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك. ويرى هؤلاء، بالتالي، أنه كيفما تكون وجهة السياسة المصرية ومواقف قياداتها، تكون فلسطين أو يجب أن تكون. تعتيش المنطقة منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي حالة انتقالية بين زمنين: زمن الفساد والاستبداد والتبعية وزمن آخر لم تتحدد معالمه بعد. تمثل هذه الحالة غير المحددة انعطافة كبرى في المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام، وبوصفها نقطة تحول بين زمنين، تتغير معها علاقات القوة، شكل الدولة، طبيعة النظام ونمط إدارة المجتمع. بتأثير عاملين/ديناميتين، داخلية تتمثل في الحراك الجماهيري غير المسبوق، وخارجية تتمثل في تأثيرات المحيط وتدخلات الإقليم وقوى النظام العالمي سلباً أو إيجابا. وينظر البعض إلى هذه المبادرة التاريخية التي تنخرط فيها جموع الجماهير التواقة للحرية والديموقراطية والكرامة والعدالة، بوصفها وسيلة للتحرر من جبروت الأنظمة المستبدة، وأملاً يفتح على مسارات وخيارات جديدة؛ لكنه أمل محفوف بمخاطر تشكل تحدياً هائلاً أمام القوى السياسية والاجتماعية النازعة للديموقراطية، منها: وصول حالة التفكك الجارية الآن إلى مديات بعيدة وصولاً إلى زوال الدولة والدخول في الفوضى الشاملة، استغوال العامل الخارجي وتأثيراته على مجريات الأحداث في اتجاهات بعينها تمكنه من السيطرة والتحكم، وصول الحركات الاسلامية إلى سدة الحكم، مع ما يحمله هذا الأمر من تساؤلات مشروعة وتخوفات جدية، أخطرها، تعرض النزوع للديموقراطية إلى انتكاسة كبرى على يد هذه القوى التي لم يثبت بالتجربة التزامها بقواعد اللعبة الديموقراطية ومبادئها وضوابطها. بينما يذهب آخرون إلى أن وصول حركة الإخوان المسلمين، بوصفها أكبر وأهم وأقدم حركة سياسية عربية عابرة للحدود، إلى سدة الحكم في أكثر من بلد عربي، من شأنه أن يعزز من عقلنة الاتجاه الاسلامي ما يدفعه للقبول بالتعددية وتداول السلطة، كما من شأنه أن يضع قدراتهم ومواقفهم على المحك العملي في مواجهة القضايا المعقدة والصعبة، وفي نهاية المطاف يدفع الناس للتعامل معهم بوصفهم حزباً سياسياً، يخطئ ويصيب، يتعلم من التجربة فيصحح المسار والسلوك ويعدل الخطاب، أو لا يفعل فيذهب بريقه ويرتد الناس عن تأييده ويلتفتون عنه بحثاً عن بديل، ففي نهاية المطاف-يقول راشد الغنوشي- الحركات الاسلامية ظاهرة اجتماعية قابلة للتطور. إن نجاحها في الوصول إلى سدة الحكم في مصر يشكل التحدي الأبرز أمام حركة الإخوان المسلمين منذ نشأتها عام 1928. فعدا عن الميراث الثقيل لحقبة مبارك على الصعيدين الداخلي والخارجي، هناك قضايا إشكالية كبرى، قديمة ومستجدة، ينتظر الناس كيف سيتعامل معها الإسلاميون؟ كيف سينجحون فيما فشل فيه الآخرون؟ فعلى سبيل المثال، كيف سيكون رد القيادة المصرية الجديدة على حرب إسرائيلية أخرى كتلك التي شنتها على قطاع غزة عام 2008، أو على لبنان عام 2006، أين ستقف مصر، تحت قيادة الإخوان المسلمين، في حال شكلت الولايات المتحدة الأمريكية تحالفاً لضرب إيران أو غزوها عسكرياً؟. إن مما لاشك فيه أن الوضع الجديد في مصر، بعد فوز مرسي بالرئاسة، سيكون له أبعد الأثر على القضية الفلسطينية، بل على مجمل الأوضاع في المنطقة. ومما لاشك فيه أيضاً أن هذا الأثر لن يأتِ دفعة واحدة، بل سيكون على مراحل، وسيتبدى بوضوح عند المنعطفات الحرجة والأحداث الكبرى. وفي مطلق الأحوال، سيظل هذا الأثر محكوماً بمجموعة من المحددات: درجة الاستقرار الداخلي ومستوى الاستقواء الذاتي، بما في ذلك، حنكة وذكاء القيادة الجديدة، الموقف الأميركي وردود الفعل الإسرائيلية (وربما الأفعال الاستباقية الإسرائيلية)، هذا علاوة على محددات أخرى، أقل تأثيراً، من قبيل مستوى القابلية الفلسطينية للتجاوب مع المتغير الجديد، مواقف وردود أفعال قوى إقليمية نافذة، اعتبارات الجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية والعلاقات والتعهدات الدولية. استناداً إلى العديد من المعطيات والمؤشرات، يفترض الكاتب أن التأثير المباشر وقصير الأجل لوصول الإخوان إلى سدة الحكم في مصر على المسألة الفلسطينية، سيتركز على ملفين، هما: ملف المصالحة الفلسطينية، وملف الوضع الإنساني في قطاع غزة، في ظل سياسة مصرية معلنة وواضحة تؤكد على التزامها باتفاقيات كامب ديفيد، وعدم السعي إلى توتير العلاقة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية. أما التأثيرات على المدى المتوسط، وخصوصاً عند اقتراب نهاية الولاية الأولى للرئيس المنتخب، فستأخذ مسارات ملتبسة: إعادة طرح مبادرات للحل، مطالبات مصرية، مدعومة بتحركات شعبية قوية في الميدان، بتعديل الاتفاقيات المجحفة، ما يدفع إسرائيل إلى تبني سياسة "الاستدراج" وإيقاع القيادة المصرية في حرج أو فخ إستراتيجي؛ إما أن تجرها إلى حرب وإما أن تدفعها للقبول بإملاءات جديدة. وفي كل الأحوال، نعتقد أن التأثير الأهم سيكون هو وضع نهاية لمرحلة طويلة من النضال الوطني الفلسطيني تحت قيادة منظمة التحرير وحركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح"، والتعبير عن ذلك ربما يتمثل بالانقلاب على الرئيس الفلسطيني محمود عباس وإنهاء حالة الانقسام، ليس بإعادة بناء الإجماع وتحقيق المصالحة بين مختلف الأطراف الفلسطينية، وإنما بتولي حركة حماس شأن إدارة ما يتبقى من الضفة الغربية بعد تطبيق خطة شارون في طبعتها الجديدة طبقاً لتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك.     ستعالج هذه المقالة موضوع تأثيرات نتائج الانتخابات المصرية وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على القضية الفلسطينية على ثلاثة مستويات: تأثيرات مرتبطة بالمنظور العام لحركة الإخوان المسلمين تجاه القضية الفلسطينية، تأثيرات مرتبطة بالموقف الإسرائيلي تجاه الحدث المصري وصيرورته، تأثيرات تتعلق بالرهانات الفلسطينية وما يتبعها من سلوك سياسي. وستنظر المقالة في التأثيرات عبر سيرورتها وتحولاتها في المرحلة الأولى (أي قبل إقرار الدستور المصري الجديد)، المرحلة الثانية إذا ما استكمل الرئيس محمد مرسي المدة القانونية لولايته الأولى، المرحلة الثالثة، في حال فوزه بولاية ثانية أو فوز مرشح آخر عن حركة الإخوان المسلمين. أي أن المقالة تركز على التأثيرات المحتملة فقط للمتغير المستقل المرتبط حصراً بقيادة الإخوان المسلمين لمصر في غضون السنوات القليلة القادمة. غني عن القول أن المتغير التابع هنا، القضية الفلسطينية، يشتمل على متغيرات فرعية عديدة منها؛ ملف المصالحة، الموقف من الرئيس أبو مازن، مسيرة التسوية، دعم المقاومة، العلاقات مع إسرائيل،..إلخ وقبل المضي قدماً في فحص الانعكاسات والتأثيرات، سوف نتوقف عند المتغير المستقل، نتائج الانتخابات المصرية وسياقها العام لنكشف المحددات الرئيسة للسلوك السياسي المصري في ظل حكم الإخوان المسلمين، في السياسة الخارجية عموماً، وتجاه المسألة الفلسطينية على وجه الخصوص. تحديات المرحلة الانتقالية: هل ينجح الإخوان في قيادة الجمهورية الثانية؟إن مما لاشك فيه، أن السياسة الخارجية لمصر، والدور المتوقع منها في الشأن الفلسطيني سيتأثران بمدى قدرة القيادة الجديدة على مواجهة التحديات الداخلية. يلخص السيد يسين المشهد السياسي الراهن في مصر بقوله "بروز مخاطر هيمنة الفكر الواحد لـلإخوان المسلمين، والمناورات السياسية التي يقوم بها رئيس الجمهورية للتعامل مع الأمر الواقع، والذي يتمثل في سيطرة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على المرحلة الانتقالية الجديدة، التي ستمتد حتى الانتهاء من وضع الدستور والاستفتاء عليه وإجراء الانتخابات التشريعية الجديدة". ويضيف آخرون مشاكل وتحديات تواجه الرئيس، من شأن نجاحه أو فشله في مواجهتها وحلها أن تلقي بظلالها على سياسة مصر الخارجية وموقفها من القضية الفلسطينية. من ذلك، الاستقرار السياسي وتردي الأوضاع الاقتصادية، والاحتجاجات الفئوية، والانفلات الأمني، وحالة الجدل السياسي المحتدم حول تأخر استيفاء استحقاقات الثورة، وانتقال السلطة وغير ذلك. يواجه الرئيس خطر انهيار ترتيبات المرحلة الانتقالية، وخطر ناجم عن العجز في تلبية المطالب المجتمعية المتصاعدة، وخطر الفشل في بناء الاجماع والتوافق وضمان فرض خياراته كرئيس منتخب، وخطر الصدام مع مؤسسات الدولة (المجلس العسكري، البيروقراطية المدنية، القضاء) وخطر انفضاض حلفائه عنه إذا ما تجنب طرح شعارات تطبيق الشريعة، أو انفضاض القوى الثورية التي راهنت عليه ودعمته إذا ما تباطئ في تأكيد مرتكزات الدولة المدنية وحقوق المواطنة. كما يواجه خطر احساس رجل الشارع العادي بالخيبة إذا ما غلّب اعتبارات الصراع على السلطة على حساب تطلعاته، وهو ما ليس بمقدوره العمل عليها وتحقيق انجازات يعتد بها في شأنها. أمام هذه المخاطر المحدقة، يصعب تصور نجاح الرئيس المنتخب في قطع الطريق الطويل والشائك أمام مصر لاستعادة دورها المفقود واستعادة عافيتها، بوزنها الحقيقي والتاريخي بعد أكثر من ثلاثة عقود ونيف من التهميش والتبعية. لعله من نافل القول، أن حركة الإخوان المسلمين ستكون أحد أبرز مقرري السياسة الخارجية، وكيفية التعاطي مع الملف الفلسطيني على وجه الخصوص، حتى وإن بقي هذا الملف في عهدة المخابرات العامة وظل المجلس العسكري قادراً على كبح أي سياسة لا تتفق ورؤيته للصراع. ففي جميع الأحوال، في ضوء الأحداث الأخيرة، ومن بينها إجراء الانتخابات وفوز مرشح حزب الحرية والعدالة، تبدو مصر وكأنها حسمت خيارها باتجاه التحول الديموقراطي وهي تعيد بناء نظامها السياسي على أساس ذلك. ستشهد المرحلة الانتقالية صراعاً، قد يكون على الخيار ذاته، أو ربما سيقتصر الصراع، بين القوى والفاعلين الأساسيين، على وتائر التحول ومساراته وعلى الإمكانيات التي يحملها (تداول السلطة بصورة دورية، إعادة بناء عقد اجتماعي جديد، إعادة تعريف دور مصر الإقليمي وتحديد مضامين جديدة لأمنها القومي، بناء دولة مدنية) وبالتأكيد ستظل حركة الإخوان المسلمين، بوصفها الحركة الأكثر تنظيماً، ولاعتبارات أخرى أيضاً، اللاعب الرئيس في حلبة الصراع. يشكك كثيرون في قدرة –وربما- نية الحركة تجاه بناء دولة ديموقراطية حديثة حقاً. ويستدلون على ذلك بسجل الحركة السياسي، بما في ذلك محاولاتها الاستئثار بالسلطة بعيد نجاح مرشحيها وحلفائهم السلفيين في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، كما يستدلون على ذلك بطبيعة الفكر المرجعي للحركة، الذي يزعم أن لديه الحل لكل المشكلات، ما يعني اقصاء الآخرين والاستهتار بآراءهم أو التقليل من شأنها وصولاً إلى كبح حرية التعبير عنها. ولعل أبرز المخاوف تجاه حكم الإخوان تتمثل في غموض وتضارب أطروحات الحركة ومرشحها الفائز حول كيفية تطبيق الشريعة، وما يترتب عليها من فرض ضوابط مجتمعية وقانونية، يرى البعض أنها ستشكل انتهاكاً للمواطنة واخلالاً بحقوقها. أمام ضغط حلفائه السلفيين ومخاوف التيارات المدنية، ربما يستخدم الرئيس المنتخب مفردات خطاب الشريعة بصورة غائية، بينما يؤكد على حقوق المواطنة والقيم الديموقراطية. غير أن المرجح، طبقاً لتجارب أخرى، وفي ضوء التحديات الهائلة التي تتطلب اصطفافاً ثورياً، أن يميل د. محمد مرسي إلى إرجاء خطاب الأسلمة والتركيز على تدعيم سلطته وسيطرته السياسية في مواجهة القوى المناوئة أو المعارضة لحكم الإخوان. ولهذا السبب، ربما، اتسمت خطاباته الأولى بالغموض من حيث استخدام مفردات ليس لها مصدر واحد وثقافة محددة وسياسة لا لبس فيها. يرى البعض في ذلك حكمة وذكاء من قبل مرسي، فإذا كان اسقط، عمداً، تعبير دولة دينية من خطاباته، فإنه أغفل بالمقابل تعبير مدنية الدولة التي يستعد لتبؤ مقعد القيادة الأولى فيها. من الواضح أن نجاح مصر في استعادة دورها الإقليمي النافذ وتأثيرها الملموس على قضايا المنطقة عموماً، كما يأمل كثيرون وبما يليق بتاريخ مصر وما يتطلبه حاضرها، تحت حكم الإخوان المسلمين، يعتمد على مدى قدرة الحركة ليس فقط على التغلب على المشكلات الموروثة والمستجدة، الفساد والفقر والبطالة والعشوائيات واستعادة الأمن وهيبة الدولة وقضية مياه النيل والوضع المتأزم في سيناء وغير ذلك كثير، وإنما أيضاً، وأساساً على قدرتهم على بناء دولة حديثة ونظام سياسي ديموقراطي يعيد التوازن السياسي المفقود، ويحافظ على الاندماج المجتمعي المطلوب، ويطلق طاقات الشعب المصري المغلولة والمكبلة بالقمع والفقر والأداء البيروقراطي السيء. من المشكوك فيه أن تنجح الحركة في تحقيق ذلك كله، إما لأن المشكلات القائمة أعقد مما يتوهم البعض، وإما لنقص الخبرة والدراية الكافية، وإما لتدخلات وتأثيرات العوامل الخارجية، وإما لاحتمال تعثر مسيرة التحول الديموقراطي والفشل في بناء دولة عصرية. ويرجح البعض، في ضوء هذا الاستنتاج، أن يميل الرئيس المنتخب إلى إتباع سياسة المناورة، بخلط الأجندات أو باتخاذ قرارات تضع الجميع في موضع حرج، مع الميل التدريجي نحو استخدام القمع والعنف في إسكات أصوات الاحتجاج والمعارضة. وفي هذا الصدد، من المتوقع أن يلجأ الرئيس إلى توتير العلاقة مع إسرائيل، مثلاً، لمواجهة مناكفات المجلس العسكري أو محاولاتهم منعه من ممارسة صلاحياته الرئاسية كاملة، وقد يلجأ إلى استمالة قيادات عسكرية مناوئة للمجلس فيما يشبه الانقلاب عليه. بكلمات أخرى، ستكون الأولوية بالنسبة للإخوان تثبيت أركان حكمهم وسيطرتهم السياسية، ولن يتورعوا عن توظيف بعض قضايا السياسة الخارجية في خدمة هذا الهدف. يعتقد البعض، أنهم سينتهجون سياسة برغماتية مماثلة لسياسة رئيس وزراء تركيا طيب رجب اردوغان طالما كان هدفهم النهائي هو الاستحواذ على السلطة كاملة وحكم مصر بصورة لا ينازعهم فيها أحد. وهم في سبيل ذلك، إن اقتضى الأمر، لن يترددوا في الاخلال بحقوق المواطنة داخلياً أو بمقتضيات الأمن القومي خارجياً. في ضوء ما سبق يمكن تحديد الملمح الرئيس للسياسة المصرية الخارجية لزمن يطول أو يقصر تبعاً لمستجدات قاهرة كالتالي: لن يحصل تغيير حاسم سريع أو جذري في السياسة الخارجية المصرية، مع ملاحظة:- سيظل القرار المصري السيادي، في أثناء المرحلة الانتقالية التي تشهد صراعاً مزدوجاً، بين الرئيس والمجلس العسكري من جهة، وبين شرعية الثورة وشرعية نظام الحكم القائم من جهة أخرى، رهن محصلة توازن القوى الداخلية الفاعلة، بميل واضح للمجلس العسكري، ورهن اعتبارات أخرى، كالحاجة للمعونة الخارجية وضرورة الالتزام باتفاقيات السلام في السياسة وبسياسات السوق في الاقتصاد. ولعله من اللافت قول محمد مرسي أن حديث الاستغناء عن المعونة الأمريكية، الآن، يعطل استكمال بناء مؤسسات الدولة. - مع إدراكه لحقيقة أن فوزه الانتخابي لم يكن ساحقاً، وجاء بأصوات القوى المدنية، وأن زمن رئاسته لن يطول أكثر من عام واحد ما لم يتضمن الدستور القادم حكماً انتقالياً يستكمل بمقتضاه مدة الرئاسة كاملة، فمن المرجح أن يستقوي الرئيس المنتخب في مواجهة ذلك بتبني المضمون الاجتماعي للناصرية والمضمون السياسي للساداتية، وخصوصاً في تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وزيادة التعاون معهما. وهو ما يعني سياسة خارجية باردة وحيادية تجاه قضايا المنطقة الساخنة (سوريا، إيران، المسألة الفلسطينية،..) مع التشديد الخطابي على رفض التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، وربما التنديد ببعض سياسات إسرائيل والولايات المتحدة. بين انحيازات الأيديولوجيا واستحقاقات الواقع: من المعروف أن موقف الإخوان المسلمين تجاه القضية الفلسطينية يقوم على مرتكزات حق العودة، وتحرير كامل فلسطين "بوصفها أرض وقف إسلامي" وعدم الاعتراف بإسرائيل. غير أن انشغالات الحركة، ودخولها معترك المنافسة السياسية بعد ثورة 25 يناير، وإن لم يمس بالبنية الأيديولوجية الأساسية، دفعت بالقضية الفلسطينية أسفل أجندة متخمة بالأولويات. يستهدف مشروع النهضة، الذي حمل محمد مرسي إلى سدة الحكم في مصر، تمكين الشعب المصري والمجتمع، إعادة وجه مصر العظيم ومكانتها ودورها الريادي، وبناء الأمة المصرية. ومن بين الاستراتيجيات السبعة التي يحددها لإحداث التغيير المنشود، في فترة 25 عاماً، لم يفرد المشروع أي توجه بخصوص المسألة الفلسطينية، إلا ما جاء في إستراتيجية الريادة الخارجية من إشارات أو في إستراتيجية بناء منظومة الأمن والأمان من تلميحات. فعدا عن بناء قوة الجيش المصري، ثمة استهداف لإعادة الدور الريادى لمصر كدولة فى واقعها الإقليمى، ولحماية الأمن القومى العربى وأمن الخليج، وأخيراً، إقامة العلاقات مع كل الأطراف الدولية على الندية والمصالح المشتركة. هذا وأفرد البرنامج الانتخابي للرئيس محمد مرسي في باب الريادة الخارجية، ضمن دائرة الانتماء العربية، الفقرة التالية: تأييد الشعب الفلسطيني في نضاله المشروع لنيل حقوقه وبناء دولته وتحرير أراضيه ودعم مواقفه على الساحة الدولية والتنسيق مع الدول ذات السياسات المؤيدة للحقوق الفلسطينية بمختلف انتماءاتها الجغرافية وتوجهاتها السياسية. جاءت خطابات مرسي، قبل وبعد فوزه، متوازنة وواقعية وتحمل رسائل عديدة لطمأنة كل الفئات وقوى الشعب المصري علاوة على طمأنة دول العالم. أكد أن مصر لن تصدر ثورتها، وأنها ستسعى لتطوير قواتها المسلحة والمحافظة عليها لحماية أمنها القومي المصري. كما شدد على رفض التدخل الخارجي قائلاً "سأعمل معكم أن تعود مصر حرة في إرادتها وعلاقتها الخارجية وساحذف أي معني للتبعية لاي قوة مهما كانت". كما أكد دعم مصر للمصالحة الفلسطينية والتزام مصر باتفاقيات السلام الموقعة مع إسرائيل. وفي ذات الوقت شدد على أن مصر حرة علي أرضها وحرة بقرارها وحركتها تحمل رساله سلام لا تعتدي علي أحد "ولكننا قادرين أن نرد بل نمنع أي عدوان علينا من أي جهه كانت". ومع إعلانه عن تبني مفهوم جديد للعلاقات الخارجية مع الجميع، دون أن يفصح بالتفصيل عن هذا المفهوم، حذر من أن ينال كائن من كان من كرامة مصر أو كبريائها وكرامة شعبها ورئيسها. كما كان قد طالب، قبيل انتخابه رئيساً لمصر، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي بضرورة اتخاذ خطوات جادة نحو تحقيق السلام الشامل والعادل الذى نصت عليه الاتفاقيات والقرارات الدولية. وذلك على الرغم من انتقاده، في مكان آخر، الرئيس محمود عباس، الذي يعتقد بأن إسرائيل ستقبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة ووصفه "بالسذاجة" في حين أشاد مرسي بحماس ومقاومتها للاحتلال الإسرائيلي. هذا وكان حزب الحرية والعدالة أكد أن حل القضية الفلسطينية يدعم الأمن القومي المصري من ناحية، وأمن المنطقة العربية من ناحية أخرى. ودعا الحزب شركاء الوطن الفلسطيني لتقديم المصلحة الوطنية وتوحيد الجهود نحو تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني وقطاع غزة المحاصر.  من الواضح، أن مرسي يميل لتبني نظرية سياسية قريبة من تلك التي تبناها ويعمل بموجبها حزب العدالة والتنمية التركي: وقوامها التركيز على الأوضاع الاقتصادية والاستقرار السياسي على المستوى المحلي، بناء علاقات متوازية ومتزنة مع دول الإقليم (إسرائيل لن تكون استثناء مع خصوصية العلاقة معها، التي قد تشهد توترات) وأخيراً التعاطي مع القضايا الدولية وفق متغيراتها ومتحولاتها دون التخندق حول مواقف ثابتة. مما سبق يمكن استنتاج ما يلي: في ظل رئاسة محمد مرسي، لن يُحدث فرقاً كبيراً تجاه الحالة الفلسطينية عبر استهداف مركز ومخطط، وسيكون تركيزه على ترسيخ أركان حكمه وسيطرته ومعالجة تحديات الوضع الداخلي، وسيعمد إلى تبريد الجبهات الخارجية. وإذا ما حدث فرق (سلباً أو إيجاباً) فسيكون بالتدحرج (إما أن تستدرجه إسرائيل، وإما أن تسبقه الأحداث فيلحق بها، وإما أن يضطره الوضع المصري الداخلي إلى المناوشة على الحدود). في هذا الصدد، ستحظى حركة حماس برعاية خاصة واهتمام كبير. فمن مدح المقاومة وصمود غزة، إلى محاولة تعديل شروط المصالحة بما يخدم حماس، ومن إدخال تحسينات على الوضع الإنساني في غزة، إلى محاولة الاستفادة من "الوضع الحساس والحرج" في غزة في الضغط على المؤسسة الأمنية والعسكرية للحصول على تنازلات في صراعه معها. ورغم ذلك، سيظل ارضاء حماس وتهدئة مخاوفها محكوماً بعاملين أساسيين: الأول، ألا يحسب هذا الاسترضاء على مصر بوصفه تكريساً لانقسام القضية وتضييعها، وثانياً ألا يغضب إسرائيل بحيث يجلب لحركة الإخوان المسلمين متاعب داخلية أو يضع عراقيل أمام تكريس سيطرتها السياسية. في غضون ذلك، يمكن توقع قيام مرسي بالخطوات التالية: ابقاء الملف الفلسطيني في يد المخابرات المصرية، ورفض دعوات نقله إلى الخارجية أو الهيئة الاستشارية للرئيس، الاستمرار في استخدام مفردات ملتبسة تجاه الموضوع الفلسطيني بحيث ترضي كل الأطراف، تماماً مثلما هو الحال في خطابه تجاه الدولة المدنية. فتح معبر رفح بالكامل وإنهاء ظاهرة الأنفاق والتحكم المزدوج (بالتنسيق مع حكومة الأمر الواقع) في عمليات تهريب الأسلحة أو شن عمليات ضد إسرائيل من شبه جزيرة سيناء. فرض التهدئة في قطاع غزة تجنباً للصدام مع إسرائيل. رعاية ملف المصالحة بصورة مباشرة وممارسة بعض الضغوط على طرفي الانقسام، دون أن يصل الأمر حد تغيير الواقع على الأرض كثيراً أو يستدعي دخول إسرائيل على الخط (ربما يجري الاتفاق على إعادة ترتيب أوضاع المنظمة وليس السلطة على الأرض). من المرجح أن هذه السياسة لن تكون دائمة، إذ سرعان ما تبدأ عمليات تسخين الجبهة تدريجياً، إما نتيجة لسلوك إسرائيلي استباقي وعدواني في سيناء خصوصاً، وإما لرغبة القيادة المصرية في التحرر من قيود الاتفاقيات المكبلة تحت تأثير ضغط الشارع المصري والعربي، وإما نتيجة موقف إضطراري للقيادة في مواجهة تعقيدات الجبهة الداخلية أو ضغوطات خارجية (عدم تمكينهم من الحكم وممارسة الصلاحيات، قطع المعونات الأمريكية، عدوان جديد على قطاع غزة). وفي مطلق الأحوال، لن تتصرف الحركة انطلاقاً من اعتبارات الأخلاق والأيديولوجيا، وإنما دائماً من حسابات السياسة ومقتضيات ديمومة الحكم. ومن المرجح ألا تقدم القيادة الجديدة، تحت تأثير الضغط الشعبي والانحيازات الأيديولوجية، علي أي خطوات من شأنها أن تعرضها للعقاب الأميركي والغضب الإسرائيلي، وقصارى ما يمكن أن تذهب إليه، إلى جانب تسهيل الأوضاع المعيشية لسكان قطاع غزة، الشجب والاستنكار والانتصار الدبلوماسي للقضية في المحافل الدولية. ولذلك، خلا البرنامج الانتخابي وخطابات الرئيس من خارطة طريق واضحة ومحددة نحو مساهمة مصر في تعزيز حقوق الفلسطينيين ورد عدوان إسرائيل عنهم بما في ذلك الضم والتهويد وربما التهجير. أخيراً، يمكن القول بصراحة، أن جعبة الإخوان المسلمين تخلو من أي حل سحري للقضية الفلسطينية على الرغم من الجعجعة الإعلامية والخطابات الشعبوية، وأن اللاءات الشهيرة لا اعتراف ولا تفاوض ورفع لواء الجهاد وسيلة وحيدة لتحرير فلسطين، ستصبح ايضاً في ظل حكم الإخوان رهناً بمقتضيات الحكم وضرورات السياسة. غير أن الواقع الجديد في مصر، رغم كل شيء، سيفتح على مسارات غير معهودة، أهمها إعادة تقييم الموقف في ضوء الإخفاق التاريخي للحركات السياسية الكبرى في تحقيق الحلم العربي: الوحدة، تحرير فلسطين، التنمية واللحاق بركب الحضارة الإنسانية. إسرائيل بالمرصاد: تعظيم الفرص وتقليل التهديدات!هل ثمة ما يقلق إسرائيل تجاه ما يحدث في مصر؟ هل تلقت إسرائيل رسائل الطمأنة بارتياح؟ هل ستقف مكتوفة الأيدي حتى يتمكن الرئيس المنتخب من بناء عوامل القوة الذاتية، الاقتصادية والعسكرية والتقنية، والتحالفات الإقليمية الداعمة؟ هل بمقدورها وقف عجلة التاريخ والتحكم عن بعد في مجريات الأحداث في المنطقة بما يدرأ عنها المخاطر ويعظم أمامها الفرص؟ وما انعكاس رد الفعل الإسرائيلي على المسألة الفلسطينية؟ إن ممالا شك فيه، أن إسرائيل تنظر بقلق بالغ إلى أحداث الربيع العربي عموماً وإلى ما يحدث في مصر على وجه الخصوص لاعتبارات الجغرافيا السياسية، والعوامل التاريخية، وقوة مصر كدولة مركزية. وتبقى المحددات، ذاتها، التي حكمت سلوك إسرائيل وأفعالها في المنطقة طوال عقود، صالحة كإطار تحليلي للموقف الإسرائيلي المحتمل تجاه الأوضاع الناشئة في مصر: عدم السماح ببروز قوة إقليمية قادرة على المواجهة، حل المسألة الفلسطينية بأبعادها المختلفة على حساب العرب، الذين، بحسبها، تسببوا في نشأة هذه المشكلة، وأخيراً امتلاك ما يكفي من القوة للردع وفرض الأمر الواقع بما في ذلك حق القيام بخطوات استباقية. ومع صعود اليمين الصهيوني، القومي والديني، وتسلمه قيادة إسرائيل، بدا واضحاً أن مسيرة التسوية التي بدأت مع كامب ديفيد، محصلة لموازين القوى الإقليمية والدولية آنذاك، وفرضت على إسرائيل تنازلات، باتت قيادتها الحالية ترى أنها غير مبررة، حتى أن بعض عتاة اليمين يدعو إلى إعادة احتلال سيناء على سبيل المثال، كما أن خطة شارون انطوت، من حيث الجوهر، على فك الارتباط التعاقدي بين منظمة التحرير وإسرائيل بما يطلق يد الأخيرة في تحقيق أهدافها بسياسة الأمر الواقع وتبني سياسة الردع. والمفارقة المؤلمة، أنه في غياب عوامل القوة العربية الفعلية لاجبار إسرائيل على التنازل والانصياع لقرارات الشرعية الدولية، شكلت أنظمة الاستبداد والفساد، بالرغم من تواطؤها مع إسرائيل قيداً على سلوك إسرائيل وحريتها أن تفعل ما تريد. وبالتالي، تفضل إسرائيل من حيث الجوهر التعامل مع أنظمة لا تدخل معها في تعاقد ملزم، تعلي من اللغة الخطابية، ولا تمتلك في الواقع ما يكفي من القوة الفعلية لإلحاق الهزيمة بإسرائيل أو حتى ردعها عن سلوكها العدواني أو تنكرها للحقوق الفلسطينية والعربية. تجد قيادة حركة الإخوان المسلمين، وقد وصلت سدة الحكم في مصر، وربما في بلاد عربية اخرى، إدراكاً منها لحقيقة نوايا إسرائيل وسياساتها، وفارق القوة، في حرج عظيم: فإما أن تعلن الجهاد المقدس، مثلما وعدت وتوعدت وهي في المعارضة، وإما أن تفعل ما كانت تفعله النظم البائدة من استخذاء وضعة وتواطؤ! ولأنها لن تفعل هذا ولا ذاك، قصارى جهدها خطاب عنجهي يؤكد على الثوابت، مع سعي حثيث للاسترضاء والطمأنة. ولأن الأمر كذلك، فسوف تستغله إسرائيل أفضل استغلال: إعاقة التقدم والنهضة، فرض شروط وقيود جديدة، خلق وقائع على الأرض، وسوف تتبع أكثر من وسيلة وإستراتيجية: الحذر والترقب، سياسة الارباك والتشويش، إستراتيجية الاستدراج المبكر، الضغط والابتزاز والمساومة، والعرابون كثر! سيدفع الفلسطينيون، مرة أخرى، ثمن هذا الموقف الملتبس والحرج. سيلقى بغزة، المنفصلة والمفصولة عن سياقها الوطني والجغرافي، دويلة أو إمارة في أحضان المجهول وسيضفي عليها البعض مساحيق تجميلية، من قبيل رفع الحصار وكسر إرادة إسرائيل، انتصار نهج المقاومة، وغير ذلك. وسيجري التفرد بالضفة الغربية، ضماً وتهويداً، والتخلص من الرئيس عباس، طبقاً لخطة الانكفاء وطبعتها الجديدة حسب تصريح باراك في شهر مايو 2012. وقد تتمكن إسرائيل، في معمعة التصعيد المفتعل مع الأنظمة العربية الجديدة، وغير القادرة على المواجهة فعلياً، من تكريس يهودية الدولة والتخلص من فلسطيني الداخل. وليس بعيداً ايضاً، أن تجري تسوية أوضاع مخيمات الفلسطينيين في سوريا ولبنان، على نحو يجحف بحق العودة ويحول دون تطبيقه إلى أمد بعيد. ستحبط إسرائيل أي مسعى جدي للمصالحة برعاية الرئيس المصري المنتخب. فإسرائيل لا تحتمل قيادة مصرية داعمة للرئيس الفلسطيني في سياساته العقلانية، المحرجة لإسرائيل، وقد التف الفلسطينيون من حوله، وخصوصاً حركتا حماس والجهاد الإسلامي، متبنياً إستراتيجية موحدة تقوم على مرتكزات: المقاومة الشعبية، الذهاب إلى الأمم المتحدة، بناء المؤسسات وتعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم، فضح ممارسات إسرائيل على المستوى الدولي. وفوق كل ذلك، لا ترى-هذه القيادة- في اتفاقيات كامب ديفيد قدراً ابدياً، وستسعى إلى تعديلها وربما وصولاً إلى إلغائها، وتحظى في كل الأحوال بدعم الميدان ورضا مختلف القوى، وبفرصة قيام تحالف إقليمي مساند. سيكون مدخل إسرائيل لإحباط جهود المصالحة برعاية مصرية، أو لإحباط محاولات هذه القيادة امتلاك عوامل القوة وبنائها، أو عرقلة جهود بناء تحالفات إقليمية توازي قوة إسرائيل على طريق ردعها، التكتيكات التالية (إستراتيجيات الاستباق والاستدراج): توتير الأجواء الأمنية في سيناء، ممارسة ضغوط من قبل الولايات المتحدة وحلفائها العرب، التعجيل بتطبيق خطة الانكفاء وإعلان ما يتبقى من الضفة الغربية كياناً معادياً آخر، استدراج القيادة المصرية نحو الإعلان من طرف واحد عن إلغاء الاتفاقيات، أو نحو حرب محدودة، أو ارباك الساحة الداخلية (تظاهرات عارمة ضاغطة على القيادة لنصرة الأهل في غزة مثلاً)، أو جرها إلى مفاوضات تملي عليها، من خلالها، قواعد لعبة جديدة أشد فتكاً مما هي عليه الآن، حتى وإن اشتملت على مولود فلسطيني مسخ: دولة مؤقتة في غزة وأجزاء من الضفة، مع توسع باتجاه سيناء، بضمانة مصرية وصمت عربي وموافقة دولية.   السلوك السياسي الفلسطيني: الرهانات والتوقعات يكتسب السلوك الفلسطيني أهمية حاسمة في جدل صراع القوة بين إسرائيل ومصر بقيادة حركة الإخوان المسلمين. فإما أن يعزز الاستراتيجية المصرية القائمة على التدرج في امتلاك عناصر القوة وعدم استثارة إسرائيل وتوفير الحجج والذرائع لسياساتها وإستراتيجيات الاستباق والتوتير والاستدراج. وإما أن يساعد سلوكهم، أو سلوك بعضهم في إحباط الرهانات المعقودة على العهد الجديد، بوضع العراقيل والدفع باتجاه المواقف المحرجة. قد يكتفي الفلسطينيون في هذه المرحلة بالاستفادة من طاقة الوضع الاستاتيكية بين القوتين، بما يحمي وجودهم ومكتسباتهم ويعزز صمودهم، وبالمضي خطوة جدية على طريق المصالحة بمضمونها السياسي القائم على التوافق على برنامج ورؤية موحدة، خلف قيادة حكيمة، وتوسيع رقعة الصدام مع إسرائيل بالمقاومة الشعبية وبكسب مزيد من التأييد الدولي لقضيتهم والإدانة لسلوك إسرائيل. وقد يبالغ بعضهم في توقعاته فيلقي بأعباء إضافية على كاهل مصر وهي تواجه تحديات مرحلة انتقالية صعبة، والأخطر أن يلجأ هذا البعض إلى سياسات التوريط غير المحسوب، وأن يتخذ من نتائج انتخابات مصر سبباً للتقاعس عن إنجاز ملف المصالحة أو طرح شروط جديدة. ومن المحتمل أن يخطأ الفلسطينيون، مرة أخرى، حين يتعاطون، دون تبصر، مع خطة الانكفاء، فلا يسعون إلى فضح مراميها الفعلية، ولا يحطاطون لانعكاساتها على قضيتهم، عبر التأكيد على وحدة الضفة الغربية وقطاع غزة، والتمسك بحقهم في إجراء انتخابات، وتعزيز الموقف القانوني والسياسي للسلطة الفلسطينية بوصفها سلطة انتقالية على طريق بناء الدولة المستقلة. ولعل اسوأ ما يمكن أن يحدث في هذا الصدد، أن يخفق الفلسطينيون في تجنب  استخدام العنف مرة أخرى في حسم خلافاتهم السياسية، ويطوحون بآخر فرصة لإعادة بناء  نظام سياسي تعددي وتشاركي، يعيد تعريف مكوناته ووظائفه في طوره الجديد، ويقطع الطريق على تحول الصراع إلى عداء مستحكم. يفيد استعراض مواقف مختلف التنظيمات السياسية الفلسطينية من الحدث المصري، في التنبيه إلى بعض المفارقات: تباينت المواقف بتباين المرجعيات الأيديولوجية والسياسية إلى حد كبير، تراوحت ردود الفعل إزاء نتائج الانتخابات بين الترحيب الحذر، والتشاؤم الكامل. بينما أكدت مواقف قوى يسارية ومدنية عديدة على حدوث تغير إيجابي على المدى البعيد، مع مراعاة انشغال مصر بنفسها في هذه الأثناء، مشددة على أولوية ملف المصالحة والوضع الإنساني في غزة، اتسمت مواقف طرفي الانقسام بالمبالغة غير المبررة، أو بالبرود غير المفهوم. فمستشار الرئيس نمر حماد اكتفى بالتعليق المقتضب بأن مصر كانت دائماً مع المصالحة، أما القيادي في حركة حماس، محمود الزهار، فأعلن في لهجة قاطعة تنطوي على تحذير وتهديد "ستحدث النتائج تغييراً في الوضع القائم في الضفة الغربية، على مستوى المسار والمنهجية والقيادة" مستبعداً، بالتالي، أي تغيير على الوضع في قطاع غزة، ما يعني بقاء الانقسام، أو العودة عنه بتوحيد شقي الوطن تحت قيادة حماس بعد التخلص من أبو مازن وتطبيق خطة الانكفاء. ويقول الزهار أيضاً أن فوز الإخوان سيعزز المقاومة ضد الاحتلال، وهو يعني بالضبط، وطبقاً لسياق حديثه، تعزيز سلطة حماس في غزة وربما لاحقاً في الضفة الغربية كذلك.        بين الأسلمة والمغامرات السياسية: حكم الإخوان على المحك!في ضوء تعقيدات المشهد المصري والإقليمي، تداخل العناصر، وتضارب الأجندات، تقاطع الإرادات الإقليمية والدولية، ثمة احتمال أن تشعر حركة الإخوان المسلمين بأن أحداً لا يريد أن يمكنها من الحكم ويسلبها حقها الدستوري في تولي شؤون البلاد، سواء في الداخل أو من الخارج، عندئذ، لن تستسلم الحركة ولن تسلم بالأمر، ومثلما كان موقفها واضحاً وقاطعاً قبيل الانتخابات؛ إما أن نفوز وإما أن نعود إلى الميدان! سيكون موقفها حيال من يقف في طريق تكريس حكمها وسيطرتها؛ إما أن نحكم وإما أن تعم الفوضى غير البناءة، عبر واحد من التكتيكات التالية، أو كليهما معاً (وهو ما سيكون له انعكاس كبير على القضية الفلسطينية وسواها من قضايا المنطقة): الأول: اشغال الناس بأسلمة الدولة والنظام والمجتمع فيما يشبه الحملة المكارثية، لضمان بسط الهيمنة والسيطرة بالترويع والإكراه، وقد تستميل عناصر نافذة من المؤسستين العسكرية والأمنية وتستفيد من الإمكانيات الهائلة في التأثير للميدان والحشود المليونية، وتبدأ عمليات بناء جبهات مواجهة مفردة وحادة على أساس تحديدات تعسفية للهوية (نحن/هم). بالضرورة سيصاحب هذه الحملة تفاقم الوضع الأمني، مزيد من اللاستقرار السياسي، توليد بيئات غير آمنة للعمل والإنتاج والإبداع. الثاني: دفع مصر نحو مغامرات إقليمية تصعيدية (تلتقي من حيث لا يريد أحد مع سياسة الاستدراج الإسرائيلية) كأن تعقد تحالفاً إستراتيجياً مع إيران، أو تعمد إلى توتير العلاقات مع إسرائيل بالمطالبة بتعديل الاتفاقيات أو بمنع السياحة الإسرائيلية أو طرد السفير من القاهرة ووقف كافة التعاملات التجارية، أو تلجأ إلى تسخين  الحدود مع إسرائيل، عبر حماس في قطاع غزة أو مباشرة عبر الحدود الطويلة في سيناء، ما يضع المؤسسة العسكرية في حرج، والقوى السياسية الأخرى في ارباك يدفعها في النهاية إلى الاصطفاف خلف قيادة الإخوان طالما أن الأمن القومي المصري عرضة للتهديد، وقد يجلب لها هذا التكتيك تعاطف الشارع المصري. ليس من الصعب توقع قيام حماس بحملة مشابهة، مقوضة آخر فرصة لبناء الإجماع وبناء أسس الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال. كما أن الثمن الفلسطيني المتوقع جراء المغامرات الإقليمية سيكون باهظاً، يكفي أن نطلق عليه تعبير "نكبة جديدة" لندرك مداه وفظاعته. ماذا بعد؟بالتأكيد، ليس من السهل التنبؤ بالكيفية التي ستتطور بها الأحداث، وخصوصاً مع بروز مؤثرات إضافية، كنتائج الانتخابات الأمريكية، مآلات الوضع في سوريا، الملف النووي الإيراني، وحتى حدوث مفاجآت في الواقع المصري ذاته. غير أنه من المؤكد، أن الرأي العام المصري لن يشكل في السنوات القادمة ضغطاً على القيادة المصرية بخصوص المسألة الفلسطينية، فلديه مطالب واحتياجات تشكل له أولوية وجودية، هذا بالطبع ما لم تقدم إسرائيل على إتباع سياسة الاستفزاز والاستدراج بالإيغال في عدوانها والتوسع في أطماعها ومواصلة التنكر للعهود والمواثيق، كما أن الأصوات الداعية لتعديل الاتفاقيات لن تكون عالية بما يكفي. ثمة احتمال أن تقدم إسرائيل على خطوة، تبدو في العلن كما لو كانت تنازلاً من طرفها، كما كان الحال عند انسحابها من قطاع غزة 2005، لكنها في الواقع ستنطوي على خطر شديد يمس بجوهر القضية الفلسطينية، وسيزداد الأمر تعقيداً إذا ما رحبت القيادة المصرية بمثل هذه الخطوة واعتبرتها انجازاً للمقاومة أو للصمود الإسطوري. وفي كل الأحوال ستسعى إسرائيل إلى استبدال سياسة إبرام الاتفاقيات وتقديم التنازلات بسياسة جديدة تتمثل في إطلاق يدها وخلق وقائع على الأرض وفي ذات الوقت ضمان بقاء العلاقة مع الأطراف العربية ساكنة عبر تهدئة طويلة المدى، لا تحول دون إعلان الأنظمة الوافدة إلى سدة الحكم، دوماً أنها بصدد الاعداد والتحضير لمرحلة تحرير فلسطين، وإصرارها على عدم الاعتراف ورفض التفاوض، بينما هي في الواقع، تؤبد حكمها مثلما فعلت الأنظمة البائدة، وتجعل من قضية فلسطين سبباً وذريعة! هذا ما لم تسع الولايات المتحدة الأمريكية، وبمساعدة تركيا اردوغان، إلى إبرام اتفاقيات جديدة تحقق لإسرائيل افضل مما حققت الاتفاقيات السابقة، ولكن مرة أخرى بنكهة مقبولة عربياً من حيث تنطوي على حل للمسألة الفلسطينية لا يعدو أن يكون نسخة من حلول سابقة مرفوضة.