لا أعرفُ مفردةً تعرضت للإسفاف كما تعرضت له مفردة المصالحة في الساحة الفلسطينية، ولا أعرف مفهوماً قد أُسيء له أكثر مما أسيء إلى مفهوم الحوار الوطني. وصلت الأمور بنا إلى آخر حدود المهانة، ووصلت إلى ما هو أبعد من الاستخفاف بالناس وعقولهم وتطلعاتهم، وتحول التلاعب بمصير الأوطان ومستقبل الشعوب إلى ممارسة يومية تكاد تكون معتادة. أصبح الحديث عن المصالحة حديثا هزليا في التداول الشعبي، وصرنا نربط بصورة آلية ما بين عدم الجديّة وما بين المصالحة. أحد الأصدقاء قال لي بعد توقيع "اتفاق الدوحة": إن أول ما بدر إلى ذهني عندما سمعت الخبر على إحدى الإذاعات وأنا عائد إلى بيتي بالسيارة هو فيما إذا كنا في شهر نيسان وفيما إذا كان الخبر هو مجرد كذبة نيسان. هاتفت نفس الصديق لأعرف إن كان قد عرف بـ "اتفاق القاهرة" الذي تلى "اتفاق الدوحة" فقال: نعم عرفت، وتأكدت الآن أكثر من أي وقت مضى أن "اتفاق الدوحة" لم يكن كذبة نيسان ولكنه كذبة على كل حال، وأما "اتفاق القاهرة" فهو نوع من مسرحة الكذبة الأولى، ومنذ "اتفاق صنعاء" و"مكة" ومن ثم "القاهرة" فـ "الدوحة" فـ "القاهرة" وربما غداً فـ "الرياض" و"أنقرة" أو "عمان".. نحن أمام مسلسل هزلي فلسطيني طويل أصبح مملاً إلى أبعد الحدود، وتحول الحديث فيه والنقاش عليه وحوله إلى ضجرٍ لا يبعث إلاّ على المزيد من الضجر. صرنا نعيش اليوم في زمنٍ فلسطيني عجيب. صارت المواقف التي تتعامل مع صلب القضايا الوطنية وفي صميم المصالح الوطنية الكبرى تلقى على مسامعنا ونشاهدها بالصوت والصورة وكأنها فوازير سياسية. فأنت اليوم ـ على سبيل المثال ـ أمام أسباب غير الأسباب التي ذكرت بالأمس حول تعطيل عمل لجنة الانتخابات في غزة، ونحن في هذا الشهر ـ على سبيل المثال ـ أيضاً، أمام أسباب غير الأسباب التي طرحت في الشهر الماضي. أما بالنسبة للأسباب التي قد تُساق غداً أو بعد غد وستساق حتماً في الأسابيع القادمة أو الشهور القادمة فهي بكل تأكيد ستكون مختلفة عن الأسباب الحالية أو المتوقعة في غضون الأيام القليلة القادمة. اليوم مثلاً، تكمن الأزمة في التنسيق الأمني، حيث وعلى ما يبدو لم تكن قضية التنسيق الأمني معروفة في الأيام الماضية، ولا حتى بالأمس نفسه. أما اليوم فالمسألة واضحة ومعروفة وهي "التنسيق الأمني" هي أمّ الأسباب وجوهرها وعلتها على عكس ما كانت عليه الأمور بالأمس وقبل الأمس، حيث كانت المسألة في حينه "عدم القدرة على تدقيق السجلات". أما غداً وبعد غد فسيتم ـ بعد التوكل على الله، طبعاً ـ دمج الأسباب الخاصة بأول من أمس، بالأسباب الخاصة بيوم أمس، إضافة إلى رزمة أخرى متوقعة خاصة بيوم الغد وبحيث سنكون (بعون الله ورعايته، طبعاً) أمام خلطة جديدة زاخرة بالتعليل والتأويل. أما الأسابيع القادمة فستشهد مسيرة التفسير والتبرير منعطفاً تاريخياً جديداً حيث سيتم الجمع ما بين أسلوب الخطابة وسحر البيان وفصاحة اللسان، وربما أننا سنشهد بعض المقاطع الشعرية المعبرة عن لحظة التجلّي والإلهام الفنّي، المعروفة في عالم الفن والإبداع. المهم أن تستمر المسيرة، مسيرة المراوغة والتملص والبحث عن كل ما هو ممكن حتى ولو كان معيباً، ومهما كان متناقضاً، ومهما كان مضحكاً طالما أن الهدف هو إنهاء هذا الحلم الذي اسمه مصالحة وطالما أن تدمير هذا الهدف وتحويله إلى أضحوكة شعبية متداولة أصبح اليوم في متناول اليد. المهم أن لا يصدق أحد بعد اليوم، أن هناك أملا بهذه المصالحة، والمهم أن تتحول هذه المفردة إلى ما يبعث على الابتسام في مرحلة ما، ثم الضحك في مرحلة متوسطة وصولاً إلى القهقهة على المدى الطويل. ومهما يعتقد الشعب الفلسطيني بأنه شعب مجرّب، وأن التجارب التاريخية قد علّمته الحنكة ودرّبته على تلمّس الطريق وسط أعتى موجات المحن والملمّات فإنه حديث العهد وقليل الخبرة في مجال استراتيجيات "الإيهام" وفي فنون التعمية والتورية والتغطية، وفي مجالات الدربكة والفبركة. ولهذا، فالمراهنة هنا عالية وحظها في تحقيق الأهداف المرجوة أعلى من المتوسط، خصوصاً وأن المطلوب ليس أكثر من التشكك في جدوى المصالحة ومن اليأس واليأس الكامل إن أمكن من القدرة على الوصول إليها. أما إذا وصل الأمر بأن "يكفر" هذا الشعب بالمصالحة وأن يبدأ فعلاً بتقبل فكرة أن غزة قد انفصلت سياسياً وبصورة تكاد تكون نهائية عن الضفة، وان القطاع (بعد أن أنعم الله على العرب والمسلمين) بالذي أنعم به على مصر الشقيقة قد أصبح في وضع يمكنه (القطاع) من العيش المنفرد في كنفٍ جديد وعلى طريقة "إلعب وحدك تيجي راضي" فإن الأمور على هذا الصعيد وعلى أساس هذه "الحقائق" تسير من حسنٍ إلى أحسن، وليس هناك ما يعكّر صفو هذه المسيرة المظفرة نحو تكريس الانقسام وتطاير الآمال والأحلام غير بعض الأصوات الشعبية التي ستسأم من الدعوة إلى الوحدة وستغادر هذه الساحة عندما ينفضّ سامر القوى الوطنية منها، وهو أمر يراه القائمون على هدف تدمير المصالحة الوطنية ويلمسون مؤشراته وتجلّياته. نحن في حقيقة الأمر اليوم أمام قوى وطنية فلسطينية ترى أمامها جريمة نحر القضية الوطنية وأمام عينها، ونحن أمام مشهد تقطيع أوصال هذا الجسم الوطني إن لم نقل ما تبقى من هذا الجسم دون أن نحرك ساكناً جدياً واحداً. فهنيئاً لأصحاب مشروع نحر الجسد الفلسطيني لأن القائمين على "حماية" هذا الجسد غائبون عن الفعل وغائبون عن القدرة حتى على ردود الفعل. قطعة من الوطن ستؤول إلى إسرائيل وقطعة أخرى ستؤول إلى الأردن وقطعة ثالثة ستؤول إلى مصر والقطعة الرابعة والخامسة والسادسة ستؤول إلى عدة بلدان ومراكز، محلية وإقليمية ودولية طالما أن الحميّة الوطنية قد وصلت بنا إلى حدود التفرّجْ على ذبح القضية. هنيئاً للاعبين الجدد على مسرح عمليات القضية الفلسطينية. هنيئاً لأصحاب مشاريع الأسلمة ومشاريع القومجة والوطنجة والأسرلة وطالما أن مشروع الفلسطنة هو المشروع الغائب الوحيد. هنيئاً للقطاعات الشعبية التي لم يعد يحركها هذا العبث بالمصير الوطني وهنيئاً للقطاعات الشعبية والشبابية التي أصبح يحركها كل شيء إلاّ هذا العبث بالذات. فإلى اللقاء في الموسم القادم من مواسم الدجل على الشعب الفلسطيني، ومن مواسم الحرص على مصالحه العليا من موقع فصل الرأس عن الجسد ومن موقع قلع الأظافر وتحطيم السواعد وتكسير الأرجل. إلى اللقاء مع التغيرات الإقليمية القادمة وما سيترتب عليها من "إنجازات" ومعجزات قد ترقى إلى مستوى تحويل حقوق الشعب وأهدافه إلى فولكلور سياسي يُغنّى في الأفراح والليالي الملاح بعد أن تستوفى كل الشروط الشرعية والسياسية والثقافية والاجتماعية المناسبة.