بنشرها التحقيق الأخير الذي فتح ملف عملية قتل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تكون "الجزيرة" قد حققت إنجازاً مهنياً، وسياسياً، تحسد عليه. ليس لنا أن نحرف الأمور عن مسارها، فنذهب إلى الأسباب والدوافع وما يصفه البعض بأنه محاولة للعب في الساحة الداخلية الفلسطينية، أو أنه محاولة لتأجيج التناقضات، والاحتجاجات الداخلية التي عاشتها الضفة الغربية خلال الأيام السابقة، وتشير إلى حالة احتقان شعبي، وفقدان للثقة. التحقيق يشكل اختراقاً علمياً، ومعلوماتياً لم تسبق "الجزيرة" إليه أية جهة إعلامية أو سياسية رغم أن السلطة والمنظمة، ومؤسسة الشهيد ياسر عرفات، لم تدخر جهداً إلاّ وبذلته من أجل الكشف عن ملابسات هذه الجريمة. إلى حد كبير نجح التحقيق، في أن يؤكد الشكوك التي تؤكدها مشاعر الفلسطينيين بشأن مسؤولية إسرائيل عن تلك الجريمة، على أن البحث لم يصل بعد إلى منتهاه لا من حيث تأكيد الاستخلاصات، ولا من حيث تداعيات الملف. منذ فترة، والإدارة الأميركية تمارس ضغوطاً مكثفة على السلطة الفلسطينية لمنعها من التوجه ببعض الملفات إلى الأمم المتحدة، حتى لا يتسبب ذلك في دفعها نحو زاوية محرجة، وأيضاً حتى لا يشكل ذلك ذريعة للحكومة الإسرائيلية لكي تطيح بكل عملية السلام، لكن ما قدمته "الجزيرة"، يطرح على الفلسطينيين ملفاً صعباً ومعقداً، ويتسبب طرحه في الأمم المتحدة، بإحراج أكبر للإدارة الأميركية. ليس أمام السلطة من خيارات سوى أن تحمل الملف بكل المسؤولية والجدية إلى الأمم المتحدة، خاصة وأن وزير خارجية تونس، كان قد دعا الجامعة العربية إلى اجتماع عاجل لمناقشة الملف ذاته. في الحقيقة، فإن المجتمع الدولي وعلى رأسه أطراف "الرباعية الدولية"، كانت عن قصد قد تواطأت مع الفاعل المجرم، وسعت إلى تجاوزه كل الوقت لكي لا تجد نفسها أمام ورطة اتخاذ موقف صريح ضد إسرائيل التي تعلم تلك الأطراف ما يمكن اعتباره علم اليقين بأن ذلك الفاعل المجرم هو إسرائيل. مرة أخرى يترتب على الدول الكبرى، صانعة السياسات الدولية أن تخجل من نفسها، ذلك أنها تمارس على نحو صريح، سياسة الكيل بمكاييل مختلفة في حالات متشابهة. لقد كان من الأولى أن تبادر تلك الأطراف إلى التعامل مع ملف اغتيال القائد الفلسطيني والأممي التاريخي ياسر عرفات، على الأقل كما تعاملت مع ملف اغتيال الشهيد اللبناني الكبير رفيق الحريري. كان لا بد أن تسقط هذه الأطراف في شرور ادعاءاتها بنفسها بأنها حامية قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، ولكن هذا السقوط لا يعني شيئاً حين يتعلق الأمر بالمصالح والاستراتيجيات، لكنها ينبغي أن تعني أشياء كثيرة وجوهرية بالنسبة لكل الأطراف الأخرى التي يقع عليها الظلم، فتواصل مراهناتها، على شيء من عدالة قيم وقيمين عليها لا يعرفون سوى لغة القوة. ما زال في هذا العالم الذي تسيطر عليه قيم الشر، والظلم، وقمع الحريات، ما يسعف الإنسان على التفاؤل، فلقد وقعنا جميعاً تحت وطأة الاعتقاد بأن أسرار مثل هذه الجرائم، ستظل حبيسة الأدراج لعقود طويلة قبل أن يتم الكشف عن أمرها. هكذا حصل في ملف اغتيال الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، وهكذا حصل في ملف اغتيال القائد الفلسطيني وديع حداد. "الجزيرة" قامت بدورها، وفي التحقيق الذي أجرته، أعطت مؤشرات أولية إلى إسرائيل، باعتبارها الفاعل المتهم، فهي التي تملك إمكانيات إنتاج المادة السامة، وهي صاحبة المصلحة، والقدرة على تنفيذ مثل هذه الجريمة. الدول الكبرى خصوصاً الغربية متهمة بالتواطؤ، والتكتم عن كشف الحقيقة فهي التي تملك إمكانيات الكشف عن أسباب وفاة الزعيم ياسر عرفات وهي التي تعرف أجهزة استخباراتها، ومختبراتها، الفاعل الحقيقي، ولذلك فإنها مشاركة في التغطية على الجريمة، والتستر عليها، وربما هي تعلم أو أنها مشاركة أو راضية عن القرار الذي صدر لإنهاء الحياة السياسية والشخصية للشهيد ياسر عرفات. إن قرار اغتيال شخصية عالمية بوزن الشهيد ياسر عرفات، لا يمكن أن يكون قراراً حصرياً، والأرجح، أن بعض الزعماء العرب السابقين، كان على علم مسبق بقرار التخلص من عرفات. الأيام وحدها، وملاحقة الجريمة بجدية كافية، من شأنها أن تكشف كل ملابسات هذه الجريمة، التي تضاف إلى أبشع الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. وإذا كانت قناة "الجزيرة"، قد علّقت الجرس، الذي علاه الصدأ، فأعادت تلميعه، وأسمعت دقّاته قوية إلى كل الأرجاء، فإن عليها أن تتابع مهمتها، وأن تواصل حث الفلسطينيين والعرب، لمتابعة التحقيق الذي أجرته فالمسألة ليست مسألة تبرئة ذمم، أو تحقيق إنجاز إعلامي مهني على أهمية ذلك. على أن الأمر أولاً وأخيراً معلق في رقبة الرئيس عباس، والقيادة الفلسطينية، التي يترتب عليها اتخاذ الإجراءات العملية الضرورية والسريعة، لمتابعة هذا الملف حتى آخره. فإذا كانت السلطة مترددة إزاء دفع الكثير من الملفات، مثل ملف مكانة الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، وملف الاستيطان، والقدس والأسرى، نقول: إذا كانت مترددة إزاء دفع هذه الملفات إلى الأمم المتحدة، وذلك في اطار حسابات سياسية تتصل بالعملية السياسية، فإن جريمة اغتيال الرئيس والزعيم ياسر عرفات لا تنطبق عليها الحسابات ذاتها. الشعب الفلسطيني، الذي لم ينس جريمة اغتيال زعيمه، لن يتوقف عن السؤال والمتابعة، في وقت وظروف لا تحسد السلطة الفلسطينية عليها، لذلك كان من الطبيعي أن تستجيب القيادة لطلب فتح المرقد، والسماح بأخذ عينة للفحص، من رفات الرئيس عرفات، ولمتابعة إجراء الاختبارات اللازمة، لاستكمال الكشف عن الحقيقة. وفي كل الحالات، السلطة أصبحت مضطرة، لتعريب الملف، قبل تدويله، وللمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق دولية، رغم تقديرها لحجم العقبات والصعوبات التي ستواجهها. ومن الواضح أن الأطراف التي تواطأت على الجريمة، ستبذل وستبذل أيضاً إسرائيل جهوداً جبارة، لمنع السلطة من استكمال التحقيقات المخبرية، ولمنعها كذلك من الوصول بالملف إلى الأمم المتحدة، ولكن إلى متى إن صبرت القيادة الفلسطينية، ستصبر الجماهير الفلسطينية، على استمرار هذا التردي والانحطاط السياسي؟ في زمن "الربيع العربي" لم يعد مستبعداً، أن يبدأ الفلسطينيون ربيعهم، حتى لو لم تكن البدائل جاهزة، فهل يبدأ الربيع الفلسطيني من القمة أم من القاعدة؟