ثارت ضجة كبيرة في ربوع فلسطين على أثر ما حصل في مدينة رام الله خلال المسيرات التي نظمها شبان اجتمعوا في البداية على الاحتجاج على زيارة نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية شاؤول موفاز الذي كان وزير الدفاع (الأمن) في حكومة أريئيل شارون، والذي حاصرت قواته ودكّت "المقاطعة" عندما كان الرئيس الراحل ياسر عرفات محجوزاً في داخل غرفته. فوجود موفاز في "المقاطعة" كان مرفوضاً من قبل غالبية الشباب الذين تفاعلوا مع خبر الزيارة واللقاء مع الرئيس أبو مازن في "المقاطعة". والضجة التي أثيرت حول ما تعرّض له الشبان من قمع على يد قوات الأمن الفلسطينية هي تعبير عن حالة حراك وجدل في الشارع الفلسطيني يتعدّى مجرد الاتفاق والاختلاف حول موقف سياسي بعينه، ويصل إلى مستوى البحث في أي نوع من السلطة يوجد في فلسطين، وهل هي تعبير عن حكم ديمقراطي يستند إلى القوانين وإلى مراعاة حساسية الرأي العام وموقف الأغلبية، أم هي تكرار لأنظمة عربية تتهاوى تباعاً تحت ضغط الشعوب ورغبتها الجامحة في التغيير وفي الحصول على حياة أفضل. قبل أن نتحدث حول السلطة بما لها وما عليها، لا بدّ من التطرق إلى خلفية الموقف السياسي الذي عبّرت عنه مجموعات شبابية ناشطة في شبكات التواصل الاجتماعي، فهذا الموقف الذي عكس رأي قسم كبير من الشباب الذين اهتموا وتابعوا موضوع زيارة موفاز للمقاطعة، هو منسجم تماماً مع موقف القيادة الفلسطينية المتكرر والمعلن برفض المفاوضات واللقاءات الرسمية مع الإسرائيليين إلاّ بشروط معينة منها وقف الاستيطان والإفراج عن الأسرى وأمور أخرى. والمشكلة هنا تكمن في رفع سقف موضوع اللقاءات وهو ما بات يشكل موقفاً رسمياً وشعبياً، في حين أن القيادة تضطر في حالات كثيرة إلى لقاء مسؤولين إسرائيليين كما حصل في الأردن مؤخراً في اللقاءات التي تمت تحت رعاية العاهل الأردني عبد الله الثاني بين كبير المفاوضات صائب عريقات ومسؤول ملف المفاوضات الإسرائيلي اسحق مولخو. وفيما يتعلق بمسألة لقاء موفاز لو تم هذا اللقاء في مكان آخر غير المقاطعة ربما لم يكن يثير ضجة مثل تلك التي حصلت في أعقاب الإعلان عن قدومه، الذي لم يحصل إلى المقاطعة، فما قيل عن موفاز ودمويته يمكن أن ينطبق على أي مسؤول إسرائيلي كان ذا موقع في جيش الاحتلال. وبشكل عام هناك مناخ فلسطيني يرى في كل المفاوضات واللقاءات مع الإسرائيليين مضيعة للوقت، ولا طائل منها. على الرغم من أهمية الوصول إلى الجمهور الإسرائيلي وشرح الموقف الفلسطيني من العملية السياسية ومما يجري على الأرض. ولا مشكلة إطلاقاً في خروج مسيرات ضد زيارة موفاز سواء أكانت هذه الزيارة قيد التنفيذ أو تم إلغاؤها لأسباب ربما إسرائيلية بسبب تدخل نتنياهو، والمفروض أن يتم النظر إلى حركة المعارضة بصرف النظر عن حجمها كجزء من المكون السياسي والاجتماعي في فلسطين، بل هي نقطة قوة لصالح القيادة فيما لو تم استخدامها بشكل صحيح. فقيادتنا ينبغي أن توضح لكل الأطراف الإقليمية والدولية أن الأمور على الساحة الفلسطينية لم تعد كما كانت، وأنه توجد حالة من الاحباط وخيبة الأمل لدى الجماهير من كل ما يتعلق بالعملية السياسية في ظل الممارسات الإسرائيلية اليومية التي لا تبقي مجالاً أمام أي اتفاق مستقبلي. وأنه من أجل حتى عقد لقاء رسمي مع الإسرائيليين، يجب على إسرائيل أن تقدم شيئاً، على الأقل تقبله الجماهير، ويعيد الأمل بإمكانية حدوث اختراق في العملية السياسية. فالمعارضة تقوي السلطة ولا تضعفها إذا عبرت عن نفسها بوسائل سلمية مشروعة كالاعتصامات والتظاهرات وأشكال التعبير الأخرى المقبولة والمنسجمة مع القانون. صحيح أن بعض العبارات التي تكتب أو تقال في وسائل الإعلام تخرج عن نطاق الموضوعية والنقد المقبول كأن تسمى قوات الأمن الفلسطينية بقوات لحد أو يطلق عليها اسم الشبيحة. فهذا يحمل إساءة وتجريحاً يمسّ بوطنيتها وسمعتها. وهذا غير مقبول. ولكن أن تقدم الأجهزة الأمنية على استخدام القوة لقمع مسيرة سلمية، فهذا، أيضاً، مرفوض ويشكل خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه بأي حال. والصيغة المطلوبة في التعامل مع الحركة الشعبية هي التي تسمح بحد أقصى من حرية التعبير بما في ذلك حرية التجمع والتظاهر وفي نفس الوقت الحفاظ على القانون والأمن. بمعنى أنه يجب أن تترك الحرية للناس للخروج في تظاهرات للتعبير عن موقفها وحتى يمكنها أن تصل إلى حدود المقاطعة، وبدلاً من الاعتداء عليها تخرج قيادات للتحدث مع الناس واستقبال رسالتها وتفهم موقفها، بدلاً من استخدام القوة. ومن يخالف القانون من قبيل الإساءة إلى شخص معين أو التشهير والتجريح يمكن استدعاؤه لاحقاً وتقديم دعوى قضائية ضده في حال وجود شكوى من الأصل. ما حصل خلال الأيام الماضية، يشير إلى عدم استيعاب دروس الثورات العربية التي حصلت والتي لا تزال قائمة في العديد من الدول الشقيقة، ففي حال وجود الاحتقان يتوجب على أجهزة الدولة امتصاص غضب الناس والتعامل بصبر ولين مع هذه الحالة، لأن القمع يقود إلى انفجار وإلى نتائج عكسية. والسلطة عندما تقمع الجماهير تسجل ضد نفسها هدفاً ذاتياً وتُمنى بخسارة لا مبرر لها، وتعمل ضد نفسها. نحن بحاجة إلى وقفة مطولة مع الذات وإعادة تقييم مجمل الأوضاع على مختلف المستويات والصعد. فمن الواضح أنه يوجد خلل في كل شيء وتوجد عملية سياسية تمر بحالة موات، ومصالحة متعثرة لا يبدو أنها في وارد الانطلاق قريباً، وهناك وضع اقتصادي سيئ، وأخيراً علاقة متوترة بين جماهير الشباب وبين المؤسسة السلطوية. كل هذا يدعو إلى وضع رؤية وطنية شاملة لكيفية التعامل مع هذا الوضع المأزوم، ووضع خارطة طريق وبرنامج عمل مقنع على الأقل لعدم تدهور الأوضاع إلى مستوى ينذر بكارثة على القضية الفلسطينية.