خبر : مصر بعد مرسي: إيران أم تركيا؟ ...خالد الحروب

الإثنين 02 يوليو 2012 06:40 م / بتوقيت القدس +2GMT
مصر بعد مرسي: إيران أم تركيا؟ ...خالد الحروب



السؤال الكبير الذي يتأمله الكل بعد فوز مرشح الاخوان المسلمين بالرئاسة المصرية هو الى اين تتجه مصر؟ على مدار اكثر من ثمانية عقود راكم الاخوان والاسلاميون في المنطقة شعبية كبيرة مستفيدين من فشل الانظمة والحكومات وبرامجها السياسية والاقتصادية المختلفة. الشعار الشعبوي الذي رفعوه "الاسلام هو الحل" كان فضفاضا ولا يطرح أي تفاصيل، لكنه كان نافذا في الشرائح الشعبية ولا يمكن منافسته. الآن جاء الوقت لاختبار ذلك الشعار الذي اتكأ على مقاربة ايديولوجية واسناد شعبي واعتاش على فشل الآخرين. احد التساؤلات التي تُثار كثيرا هذه الايام يحوم حول ما إن كانت التجربة الاخوانية في مصر ستتجه نحو الصيغة الايرانية ام تلك التركية. قبل مقاربة هذا التساؤل ومحاولة الاجابة عنه من المهم التوقف قليلا عند اللحظة التاريخية التي تمثل انتقال الاسلاميين من المعارضة الى الحكم والتي تشكل نقطة فاصلة ليس فقط في مسيرة الاسلام السياسي في المنطقة، بل وربما في تشكيل موازين القوى الفكرية والسياسية في المرحلة القادمة برمتها. هذه اللحظة هي الاختبار الحقيقي لصمود الايديولوجيا والشعار امام الواقع والسياسة، وهي لحظة حساسة جدا في تاريخ الحركات والعقائد والافراد.احد هؤلاء الذين واجهوا هذه اللحظة في التاريخ الاسلامي كان عبد الملك بن مروان احد اشهر خلفاء الامويين والذي كان معروفا بتدينه وتقواه والتزامه العبادة والصلاة قبل تسلمه الحكم حتى وُصف بأنه حمامة المسجد. لكن عندما جاء خبر وفاة ابيه وانتقال الحكم إليه كان المصحف في حجره فأطبقه وقال قولته المشهورة "هذا آخر العهد بك". في سنوات حكمه تحول عبد الملك من حمامة مسجد الى نمر سياسي، واصبح كائنا آخر.قد يُقال الكثير في تحليل وفهم تحول عبد الملك من طهورية النص الى واقعية السياق، لكن المهم هنا هو ان هذا التحول هو النمط العام وليس الاستثناء لانتقال البشر من مربع الايديولوجيا المثالية الى ارضية الواقع بكل تعقيداته ومساوماته. وليس جديدا القول إن هذا النمط العام يخترق الثقافات والحضارات والايديولوجيات ايا كانت. هناك بطبيعة الحال درجات متفاوته في التحول، بعضها جزئي وبعضها الآخر كلي ومدهش. وفي ذات الوقت لا يعني ذلك ان البشر يتحولون الى "وحوش سياسية" عندما ينتقلون الى مربع السياسة الواقعية. المعنى المهم هنا والجوهري هو الانتقال من طور اليوتوبيا الخلاصية البحتة الى طور الواقعية العقلانية والبراغماتية. في اصطدام الايديولوجيا بالواقع عقب تسلمها زمام الامور والحكم هناك في المجمل العام اتجاهان يمكن رصدهما تاريخيا: الاول هو خضوع الايديولوجيا التدريجي للواقع واعادة انتاجها لذاتها بحيث تتواءم مع الواقع، بما يزيد من عقلنتها وبراغماتيتها،والثاني عناد الايديولوجيا ومناطحتها للواقع بغية تغييره جذريا واعادة قولبة الحياة وفق ما تراه. النمط الاول هو الاكثر تسيدا في تاريخ البشر لأنه الاقرب الى نبض الحياة، والنمط الثاني قاد الى اكثر الكوارث الانسانية والابادات الجماعية حين تصر الايديولوجيا على اعادة انتاج الحياة والبشر وفق ما ترى. النازية هي افضل، وابشع، مثال دال على كيفية تحول الايديولوجيا التي تريد تغيير العالم الى اداة إبادة متوحشة. شيوعية ستالين اقتربت من النازية في محاولتها صهر شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي وقولبتهم اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وهي السياسة التي أسست للانهيار الذي صار حتميا في مستقبل التجربة السوفياتية. صورت رواية "مزرعة الحيوان" لجورج اورويل وبصورة مبهرة كيفية تحول الايديولوجيا الشيوعية على يد ستالين وبكل طروحاتها المثالية الى توحش حقيقي عندما لم تتصالح مع الواقع وحاولت اعادة تشكيله في القوالب الجاهزة للايديولوجيا. قريبا من ذلك كانت تجربة ماو سي تونغ في الصين، والتي كادت تقود الى نفس النهاية الكارثية للاتحاد السوفياتي. بيد ان الانقاذ الكبير تم بسبب عقلانية وبراغماتية "الحزب الشيوعي الصيني" الذي لم تتبق من شيوعيته سوى التسمية والوصف. على ذلك، إما ان تتواءم الايديولوجيا مع الواقع وتتواضع له وتحاول تحسينه تدريجيا، وإما ان تتحول الى كارثة عليه وعلى نفسها فتنهار هي وتعمل في ذات الوقت على تدمير الواقع الذي ارادت خدمته.اخذا بالاعتبار اهمية الانعطافات الايديولوجية الى مسارات السياسة فإن وصول الاخوان الى الحكم بعد ثورة يناير يشكل منعطفا تاريخيا بكل ما في الكلمة من معنى. وسوف يكون لتجربتهم السياسية ونتائجها وما تؤول اليه الأثر الاكبر على كل قوى الاسلام السياسي في المنطقة. والسؤال الكبير، فكريا وسياسيا، هو في ما إن كان وصول مرسي لكرسي الحكم في مصر سوف يشكل بداية العقلنة لايديولوجيا التيار الاسلامي وبالتالي اندراجه في مسارات براغماتية وواقعية وتحالفيه (على النمط التركي)، ام الوقوع في إغراء تصلب الايديولوجيا ومحاولة فرضها على المجتمع والظن بإمكانية صياغة الواقع وفق الافتراضات الايديولوجية (على النمط الستاليني، او الايراني). في التقدير الغالب ان تجربة إسلاميي مصر ستكون بعيدة عن التجربة الايرانية لعدة اسباب موضوعية، وتكون قريبة من التجربة التركية وإن ليست نسخة عنها. لا يوجد عند الاخوان في مصر، ولا في اي سياق سني آخر، مرجعيات دينية على النمط الشيعي يمكن ان تتحول الى سلطات سياسية ودينية تتجاوز التنظيم وتفرض نفسها على المجتمع، وتحيط نفسها بهالة قريبة من القداسة والعصمة. المرجعيات الدينية السنية ضعيفة، لحسن حظ مجتمعاتها، وهي إما مرجعيات دينية سياسية تابعة لتنظيمات واحزاب، وهذه لا تمتلك سلطة الا على افراد التنظيم ودائرة ضيقة حوله، وإما مرجعيات دينية رسمية تابعة للمؤسسة التقليدية وهي الاخرى لا تملك سلطة نافذة على المجتمع. "عدم المركزية" الدينية في التقليد السني يتيح فضاءات اوسع للنقد والانفلات والابداع، رغم انه يوفر ايضا مساحات اخرى للتطرف وبروز أمراء ومجموعات متصارعة على هوامش التيارات الرئيسية. الفارق المهم الثاني بين التجربة الايرانية والتجربة المصرية من زواية حكم الاسلاميين هو ان الاولى تمتعت بوجود مورد النفط الذي استطاعت ان تتحكم عبره في المجتمع وتطبق سيطرتها عليه وفق نمط الدولة الريعية، وتُبقي من خلال ذلك على نمط الحكم السلطوي الذي لا يحتاج الى الاخرين في الساحة المحلية. في مصر ليس هناك موارد غنية يسيطر عليها نظام حكم ويستطيع عبرها شراء ولاء المجتمع والتحكم فيه، بما يلزم اي حكم منتخب ديموقراطيا الخضوع لمنطق الاقتصاد المفتوح وتنمية الواردات، واقامة التحالفات مع الاطراف الاخرى.كما انتهت الايديولوجيات الماركسية والقومية والبعثية عندما وصلت الى الحكم سواء عبر اختفاء صيغها المتطرفة، او تعقلنها واعادة انتاجها لذاتها إن ارادت البقاء على قيد الحياة السياسية، فإننا سوف نشهد السيرورة ذاتها في المستقبل القريب والمتوسط بشأن الاسلام السياسي. إن ذروة الانتصار التي حققها الاسلاميون في مصر في هذه اللحظة التاريخية في المنطقة سوف تكون بداية النهاية للايديولوجيا الاسلاموية الصلبة كما عرفناها، وسوف نرى اندراجها في سياقات الواقع والبراغماتية طوعا او كرها. ـ كامبردج