آخرون غيري لديهم الكثير مما يقولونه إزاء الأحداث الدرامية الكبرى التي تشهدها مصر اليوم، والتي تقطع الأنفاس. أما أنا فلدي ما يكفي للتعبير عن حنين الى زمن قديم، وسط هذا الصخب الذي يصم الآذان، الى زمن سأسميه باسم صوته "زمن عبد الحليم حافظ" وكمال الطويل وصلاح جاهين، الزمن الذي وعينا أنا وجيلي فيه على صوته. زمن كان يعبق بالفن كما بالاحلام الكبيرة والجميلة، لكم ان تسموه زمن الجمهورية الاولى، أو زمن جمال عبد الناصر، قلب العروبة النابض، لكنه على اية حال زمني الذي جئنا منه. اليه في ذكرى ميلاده ابن قرية حلاوات، مع دخول اول يوم الشمس برج السرطان، في الانقلاب الصيفي، والذي تشبه ولادته، اسطورته، ونفح فينا ولا زال، قبساً من روحه الجميلة، كما لا يزال ناصر ينفخ فينا هذا القبس الآخر من صوته وروحه كأنما صدى السماء.كان صوته واحداً من بين الأصوات التي شكلت الذاكرة الوطنية، كما العاطفية، تماماً بنفس القدر، الذي كان صوت عبد الناصر الزعيم الذي تمحورت حوله الاغنيات. وربما لم يكن صوته الأجمل من بين أقرانه، ولكنه هو الذي طبع الزمن بصوته، وكان أذكاها. فالأصوات أيضاً كما الوجوه بعضها يدخل القلب وبعضها الآخر لا يدخل، لا يقبلها القلب. وقالت عنه سعاد حسني وتلك هي الجميلة التي فتنتنا بجمالها، حضورها كما صوتها، قالت ببساطة: صوته يدخل القلب. وقال عنه جمال عبد الناصر، إنه الابن البكر للثورة. وقد تزامنت ولادته الفنية، صعود نجمه كشهاب محلق في السماء، مع ثورة يوليو 1952، وصعود ناصر نفسه. ومن اغنياته تشرب جيل بأكمله ورضع حليب الوطنية. هذا اعتذار متأخر لروحه، وهو غادرنا قبل 35 عاماً في 30 آذار 1977. هذا الذي ملأ في حياته وبعد مماته عالمنا، وجاء كما هي القصص المشابهة في التاريخ، في سير الرجال الذين استطاعوا ان يملكوا هذه القدرة، من الإشعاع على عالمهم بل السيطرة عليه، غالباً من بيئة فقيرة ومن قرى هامشية ونائية في المحيط، ترافقهم المأساة في طفولتهم، في قصته موت الأم والأب بعد ولادته، والدور الحاسم الذي تلعبه المصادفات والأقدار، في تغيير مجرى حياتهم، فقد درس وتخصص في الموسيقى، وليس في الأصوات في مفارقة مع رفيق دربه كمال الطويل الذي كان في قسم الأصوات والذي سيضع له لاحقاً معظم هذه الألحان العبقرية، التي تثير الذهول الى يومنا هذا. على مدى هذه الحقبة النادرة والأكثر فرادة والتي تطل اليوم من الذاكرة، كومضة حالمة، كحلم ليلة صيف، صافية كرحلة ريفية ما برحت تبعث الحنين اليها كزمن جميل مضى ولن يعود، هيمن هو وكمال الطويل، وصلاح جاهين، ثلاثتهم في أن يجعلوا من الصوت والجمل الموسيقية، والشعر، قوة تأثير لفن الأغنية الوطنية، لا سابقة لها. واليوم نستطيع ان نرى الى هذه الأغنيات لا بوصفها النبض كأنه التعبير عن صوت الثورة، عن خفقان الوطنية الثورية المصرية كما القومية العربية، بل أيضاً السجل الذي يخلد هذا الانفعال العظيم، وسيظل صداه يتردد أبد الدهر، مذكراً بعظمة وعنفوان هذه الثورة، ثورة ناصر، في إضفائها على الزمن هذه المساحة، هذه اللمسة المثيرة الساحرة، والتي لا تتكرر غالباً، باقتران الحلم، الثورة، البطولة بالفن، في إطار من تناسق النظام المكتمل، والذي هو تجسيد الجمال،بوصفه التماهي بين الفكرة والروح، ويجد أرقى، أبلغ تعبير له في الموسيقى.هكذا سيقال في ميدان التحرير، إنه صوت الثورتين، ولد في العام 1929 في نفس العام الذي ولد فيه ياسر عرفات، ولكنه لم يعش طويلاً، 48 عاماً، بيد أنه كان عمراً كافياً لأن يمارس تأثيره، سحره، حتى على الأجيال، التي لم تعاصره. هذا هو ممثل الجيل الثالث، الموجة الثالثة في فن الأغنية، كامتداد لسيد درويش أبو الأغنية العربية الحديثة، والذي رافق ثورة 1919، في مستهل القرن العشرين وبعده محمد عبد الوهاب، الذي سيحدث التعديل الثاني على مبنى هذه الأغنية، كما مبنى الموسيقى واللحن نفسه، وصولاً الى الانقلاب الثالث، مع عبد الحليم حافظ، وجيل الموسيقيين، والشعراء الشباب. ان تاريخ الفن يقتفي بدوره هو الآخر، قصة الحضارة، كما الصراع الدفين بين الاجيال، "العقدة الأوديبية" أخطر مركب سيكولوجي ودافع لتطور التاريخ . وهكذا نقل سيد درويش الأغنية من تعبيراتها الأولى، كمجرد أناشيد ومقامات، وتواشيح وأدوار وطقطوقة، الى الأغنية الحديثة في البنية التي نعرفها اليوم، والتي تحاكي هموم وحياة الطبقة الفقيرة والشعبية، مع أشعار بيرم التونسي، الشاعر الذي أرسى معه الشكل المكتمل الذي ستقوم عليه هذه الأغنية، وقد ولدت الآن. سوف يأتي عبد الوهاب بعد ذلك، ليحدث النقلة الثانية، ولكن من الحارات الشعبية، الى قصور الباشاوات، والطبقة البرجوازية الصاعدة، وسوف تتشرب الألحان والموسيقى هنا، بالتغريب الموسيقي، والإيقاعات الغربية الحديثة مع الاحتفاظ بالروح الشرقية، وهنا سيحل في الشعر أحمد شوقي وأحمد رامي مكان بيرم التونسي. لكن اللقاء القدري في الأربعينيات، مع أشعار حسين السيد ربما هو الذي سوف يعيد التوازن الى النقلة التي أحدثها عبد الوهاب. التي أعادت أشعاره عبد الوهاب، الى هذه النزعة التعبيرية العاطفية عن الطبقة الوسطى. مع كمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وأشعار صلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي أطال الله في عمره، وحسين السيد، وكامل الشناوي، ومرسي جميل عزير، وأحمد شفيق كامل، فقط هنا، سوف تبلغ الأغنية العاطفية، ذروة اكتمال تنوعها وثرائها الموسيقي والتعبيري، العاطفي كما الشعبي والوطني، وهي القمة التي ستقف عندها، هذه الأغنية كما الفن، في اكتمال نضجها الجمالي، في بلوغ الفن، هذه الدرجة غير المسبوقة، من المحاكاة للواقع، وسوف يجد هذا التحول له أرضية خصبة مع ظهور كوكبة، من الأصوات التي يندر التقاؤها، في حقبة زمنية واحدة، تعايشت على رقعتها ثلاثة أجيال، جيل أم كلثوم، ورياض السنباطي، والشيخ زكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، الى جانب فيروز ووديع الصافي في لبنان، وناظم الغزالي في العراق. قبل أن نشهد هذا الارتداد الانقلاب الرابع مع احمد عدوية، والشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم، بالتماهي مع أشعار بيرم التونسي وسيد درويش، وهي المرحلة التي سيقف عندها تطور الأغنية، قبل ان تبلغ منحدرها الأخير، التحول الى الزمن الهابط. كتبت مبكراً في مستهل عملي الصحافي، عن هذه التحولات. واليوم ها أنا بعد أكثر من ثلاثين عاماً، أعود لأستجمع ما محته السياسة، لكي أكتب عنه مرة أخرى، كهلاً يبكي قلبه تحسراً على زمن، عالم، لم يعد ومضى ولكن القلب يرفض التسليم، الإقرار، بحقيقة أنه انطوى. لم يبق سوى الكتابة للتعبير عن هذا الحنين، بل الرفض، أو المقاومة، كأنما يدخلنا العمر وقد تمدد في الحاضر الى هذا الحد، ليحيلنا الى هذه التجربة، من اكتشاف الألم، الفاجعة المصاحبة، لانقلابات، تحولات الزمن، في شعور بالاغتراب، عن العالم، الواقع، وحيث لم يعد هذا الواقع، يشبهنا. اذهب الى المحل الأخير الذي بقي لبيع الأشرطة القديمة، لقد تقادمت تكنولوجيا الأشرطة. لكي أعثر، أجد ما تبقى من أغنيات العهد القديم الذي مضى. وحين يدنو المساء قبيل النوم، وحيث النوم ليس سهلاً كما يظن الجميع، طالما انه يستدعي منا ان نظل يقظين طوال النهار. حين تدنو أيامنا من الغروب رويداً رويداً كما العمر فليس سوى صوته، ما يخترق ويكسر هذه الوحشة المظلمة، يعيد دورة الدماء في الجسد الى حيويتها الأولى في مبتدأ الحياة. "عبد الناصر حبيبنا قايم بينا يخاطبنا ... نجاوبو ويجاوبنا قائد ومجندين" ولكن القلب قادر على التحدي وترديد الأغنيات، ليسقط الدمع وتذرف العين أسى على العمر الجميل، زمن الحلم. وفي ظل الربيع الذي تطل نسائمه كما شمسه من النافذة لا أستطيع ان أرى ألوان خضرتك أيها الربيع ولكني أغني معه في "الصورة خضرة ومية وشمس عافية، وسما زرقة صفية" صيف العام 1966. وأردد "واللي حيبعد من الميدان عمره ما حيكون في الصورة".هذا المغني الجميل أثرى ذوقي، حاستي بل وعيي وعلمني وجيلي أهم شيئين وأعظمهما في الحياة. الحب والوطنية. ان نتعلم كيف نحب قبل ان نبلغ معركتنا مع تمدد العمر الأخير "واترلو" هزيمتنا النهائية قبيل أفولنا. غروب الأغنيات التي تعيدنا الى زمن مضى وغادرنا، زمن لا يعود، كفردوس مفقود وحنين للرجوع الى هذا الفردوس، جنة عدن، التي نتاكد فيما بعد اننا نعيشها مرة واحدة في الوجود. ونأسف اليوم أننا لم ندرك هذه الحقيقة التي غفلنا عنها في لحظة من السهو، أو الوهم بانتظار هذه الجنة، في زمان قادم، أو مكان غامض بعيد، كسر عظيم. لنكتشف اليوم بعد حين ان أغنياته ربما هي التي كانت أمامنا تكشف عن هذا السر، فقد كانت أغانيه هي التعبير عن هذا الفردوس الجميل الذي عشناه وكان نهارنا الأخير.