خمسة وأربعون عاماً نحملها على ظهرانينا، يكاد العمر ينقضي ولا الحرب تستريح أو تنام، ولا الظهر المثقل ينوء أو يشتكي، كأنما ولدنا معها، أو من رحمها، أو كأنما نحن كلانا أنا وهو، آخر الجنود الذين عادوا من الحرب، وبقوا على قيد الحياة. نستعيد وقائعها، وقت العصاري، في سكون النهار نرويها المرة تلوا المرة علينا، كأنما لنراودها على نفسها، تلك التي تستعصي على الخروج، من الذاكرة، حتى تخرج، أو هو العمر الذي ينقضي. كأنها لحظة الوعي الأولى، في اكتشاف الحقيقة، التي اقترنت بارتكاب الخطيئة، أو بالغفو العظيم عند المهمة الشاقة، تماماً مثلما كانت تجربة أبينا آدم، في الخروج من العماء الهيولي الأول، والنزول إلى أرض الواقع. مبكراً دون أن يرحمنا الله، كان دخولنا في التجربة صدمة الوعي الكبرى، الأكثر قسوة، وأشد هؤلاء، الصدمة التي قطعنا معها كل رحلة السفر الطريق، مذذاك وهي لا تزال مكانها هناك جاثمة على ظهرانينا. لم نستطع إلى يومنا هذا محو آثارها، إخراجها من أمعاء الذاكرة الغليظة، وقد تحولت إلى" بؤرة إنتانية مزمنة". لا يمكن لنا أن نشفى منها دون تصفيتها، تصفية الحساب المؤجل حتى الآن معها. فقد كانت هذه هي الهزيمة الأصعب من نكبة 1948. لأنها في واقع الأمر، هي الحدث التاريخي الرئيس الإستراتيجي والعسكري، السيكولوجي والنفسي، كما المعنوي، الذي ثبت نتائج نكبة 1948. وغيّر مجرى الصراع العربي الإسرائيلي بصورة جذرية.فقد مثلت حرب حزيران 1967 بالنسبة إلى العرب وإسرائيل، نقطة التقاطع الحاسمة، كذروة الانتصار، وذروة الهزيمة. في سياق تاريخي لم يكن واقعياً لينتج هذه المعادلة أو يفضي إليها على أرض الواقع، ولذا من هذه الزاوية، على الأقل بل على الأعم، وبخلاف نكبة 1948 تبدو الهزيمة هنا، عصيةً على التفسير، الإقناع كما لو أنها ترتيب غامض، خرافي بفعل القدر، مفاجآت التاريخ، المفعمة بحكايات وأساطير، عن عقوبات آلهة غاضبة. نحن هنا في صباح يوم الإثنين عند الساعة التاسعة، أنا ذهبت لأستطلع نتائج امتحان الصف السادس الابتدائي، ودفعت بالورقة النقدية من فئة الخمسة القروش من الشباك، بعد برهة سمعت صوت الانفجار، ورأيت الناس جميعاً يركضون جهة البحر. كان الطيار للتو نزل بمظلته في البحر، قبل أن تنطلق في الحين قوارب الصيادين التي يستقلها الجنود، للإمساك به، وكان هذا المشهد، إسقاط الطائرة في البحر هو الإيذان الفعلي ببدء الحرب. كانت الطائرة واحدة من طائرتين تمت إصابتهما، في طريق عودتهما ضمن سرب من المقاتلات الأولى التي نفذت عند الساعة الثامنة صباحاً الضربة الاستباقية الجوية الأولى على قواعد الطيران المصري، وهي الضربة الجوية التي قدر لها بعد ذلك أن تحسم الحرب. هل كان هذا هو إسحاق مردخاي أول طيار أسقطت طائرته في غزة وتم أسره؟ نعم، أنا متأكد من أنه هو، يقول حسن. لكنك لم تذهب معي إلى هناك حينما تم تمديده على الأرض وأخذت جموع الصيادين والجنود تضربه على ظهره لكي يفرغوا الماء الذي ابتلعه. كان ذا بشرة بيضاء، ممتلئ الجثة، حتى أنهم ظنوا أنه ليس يهودياً وإنما هولندي، اعتقاداً بأن هذا البياض والضخامة أقرب إلى السمن والحليب الهولندي الشهير. لكن ما حدث بعد ذلك أن طائرة تمكنت من الإغارة على تلة الخنزير، التي يعتقد بأن الموقع الذي أسقط الطائرتين كان على هذه التلة والتي اختفى اليوم مكانها تحت تمدد العمران. لقد رأيتهم يقول: تسعة جنود مضرجين بدمائهم ولم يجد الأهالي سوى أن يلفوا جثثهم ببطانية. أنا ذهبت إلى بيت أمينة، القريب من الميناء، وفي الطريق كان مذيع "صوت العرب"، يقرأ البلاغ العسكري العاجل، عن إسقاط 23 طائرة حتى الآن، وأن تل أبيب أصبحت الآن في المصيدة، وكان صوت أحمد سعيد (أشهر معلقي "صوت العرب")، يقطع الأناشيد ليقول بصوته القول كقصف الرعود مخاطبا دايان، وزير الحرب الإسرائيلي: "أين أنت الآن يا دايان لترى فلول جيشك المنهار؟". وبدا الأمر كخطاب القاضي أحمد رفعت يوم السبت الثاني من حزيران الماضي، الذي جعل القلوب تخفق والعيون تدمع والدم يغلي في العروق، بقرب إنصاف المظلومين، ثم يأتي النطق بالحكم أشبه بدش ماء بارد يلقى على الرؤوس أقرب إلى مشهد من الفانتازيا السوداء. في الصباح قتل صاحب عربة "الكارو" فضلات، لم يجدوا مكاناً يدفنونه فيه إلا في مقبرة مندثرة على شاطئ البحر. أذكره، كانا متخصصاً بنقل أكياس الطحين من وكالة الغوث. في ذلك اليوم، تأخرت أمي عن الذهاب إلى الوكالة، لاستلام التموين وجاءت الرصاصة لتفغر صدره، كان مثل بدير الفران، من طول الوقت في التعامل مع النساء فقد كلامهما (بدير وفضلات) خشونة الصوت وأصبح كلامهما أقرب في صوتيهما إلى النساء. سوف يختفي ويندثر فرن بدير القديم الذي كان يخبز فيه العجين على الحطب، بعد الحرب مباشرة مثلما نظام الأفران القديم، مع إحلال الأفران الحديثة على الكهرباء. ويختفي فرش العجين الخشبي الجميل الذي كانت النساء يحملنه على رؤوسهن بعد أن يلفوا ربطة من القماش مدورة لتثبيته على الرأس. وكان يقدم فيه سفرة العشاء للضيوف القادمين. باغتتنا الحرب مثل عاصفة صيف، حتى كأننا ونحن نستعيد التذكر، نظن أن قطرات من غيوم سوداء، كانت تلوّن عصاري تلك الأيام التي لا تنسى من حزيران، حتى أنه يصر في كل مرة تبدو فيها الشمس تحجبها الغيوم، إن هذا يذكره بحرب حزيران 1967. وإني لأسأل نفسي اليوم، هل كان هذا التماثل حقيقياً أم انعكاساً لتكدر الروح؟ حتى لكأننا نستطيع أن نستعيد كل تلك التفاصيل التي هي ظلال الروح، والتي لم تختف مثلما يحتفظ شريط مسجل بجميع الأصوات الأخرى التي لا نسمعها أو ننتبه لها في أثناء الحديث. حينما لم نعبأ أو نكترث، أو نفكر بالخوف أو القلق، على المصير في تلك العصاري، بينما كان الخوف والقلق يحدقان بعينيهما في كسوف الشمس المؤقت والعابر، خلف الغيوم. كتلك المغربية بعد أن "عدّا النهار" التي اختبأت وراء الشمس، في كلمات عبد الرحمن الأبنودي، ولحن بليغ حمدي، التي سوف يغنيها بعد أيام عبد الحليم حافظ، كما لو أنها يقظة الروح من خدرها صدمة الهزيمة "عدا النهار". اليقظة التي رافقها الخروج العظيم لأمة بأكملها، مساء يومي 9 و10 حزيران، إلى الشوارع ترفض الإقرار بالهزيمة، وتطالب البطل بالبقاء. "عدا النهار يا بطل" فلم تكن مقدمات للهزيمة حينما كانت مصر جمال عبد الناصر تتفوق على اليابان صناعياً، وكانت هذه الضربة لتأخير تقدم مصر ونهضتها التي كان من شأنها أن تغيّر مصير الشرق، وبينما كانت كل المقدمات تؤشر إلى النصر. وهكذا من ذلك النهار سوف نظل ننتظر هذا النصر، حتى وإن تأخر، تلكأ في القدوم، وليس سوى انتظار هذا النصر. أو لم يكن هذا هو شعار عرفات، والثورة الفلسطينية، وتردد صداه نفسه في ثورة مصر في ميدان التحرير بعد 40 عاماً. فهل كانت الحرب نعمة أم نقمة؟ نطرح السؤال علينا بعد 45 عاماً. يقول هيغل: إن ما يحدث بالفعل على أرض الواقع هو الشيء الوحيد الذي يتصف بكونه عقلانياً، وهكذا يمكن القول اليوم عصر السنة الخامسة والأربعين على حرب حزيران، إن هذه الحرب، هي التي يمكن وصفها بنقطة فاصلة بين عصرين، مرحلتين، تاريخيتين. فمنذ حروب محمد علي وابنه القائد الفذ إبراهيم باشا، في القرم والسودان وشبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، لم تخض الجيوش العربية وحتى مصر حروباً حقيقية بمعنى الحرب الكلاسيكية التي تصقل جيوشاً، وجنرالات محاربين. كانت مواجهة عرابي للغزو البريطاني في معركة التل الكبير، العام 1882، مجرد مزحة، وكذا كان تصدي يوسف العظمة في ميسلون للغزو الفرنسي لسورية العام 1920، أشبه بتجريدة قبلية، كان جزء من الرجال الذين التحقوا بيوسف العظمة يقتصر سلاحهم على العصي والسكاكين. وفي العام 1948 لم تحارب الجيوش العربية في فلسطين حرباً منظمة. فقط في العام 1956 سوف يدير ناصر مناورة عسكرية، ومقاومة مسلحة بارعة بعد أن أنقذ قواته من الوقوع بين كفي كماشة في صحراء سيناء، ليركز دفاعه عن مصر غرب القناة . في العام 1967 أخطأ عبد الحكيم عامر قائد الجيش المصري، الذي لم يكن كفؤاً من الناحية العسكرية ونقطة الضعف الوحيدة ربما في نظام ناصر، بتكرار المناورة نفسها في ظروف حربية مغايرة، وهكذا بين سحب الجيش من سيناء وإعادته مرة أخرى تم قصم ظهر الجيش المصري دونما غطاء جوي بعد الضربة الاستباقية لقواعد الطيران المصري. ولكن فقط مذذاك في العام 1970، و1973 سوف تقوم قائمة لجيوش عربية تنتصر في الحروب، وهذا هو السجل: الكرامة العام 1968، وحرب الاستنزاف واقتحام قناة السويس وهضبة الجولان عام 1973. وحرب لبنان عام 1982، وانتصار أيار اللبناني عام 2000، وحرب تموز 2006، ودحر الأميركيين في العراق، وانتفاضة الفلسطينيين وصولاً إلى حرب غزة 2008 -2009. ليتحول الخط البياني للصراع ليصبح بصورة معاكسة لما بلغه في حزيران 67. هم يهزمون ويتراجعون ونحن نتقدم وننتصر. لم ينتصروا في حرب واحدة بعد حزيران 1967، وفي أيار عام 2000، ترك الجنود الإسرائيليون أحذيتهم، نعالهم التكنولوجية، في صورة أجهزة الحواسيب التي خلفوها وراءهم في ميدان المعركة بعد هروبهم مهزومين من جنوب لبنان. كانت هذه صورة نعال أحذية الجيش الذي أطلق سيقانه للهواء والتي تقابل الصورة في حزيران 67 لأحذية الجنود المصريين في صحراء سيناء.