يبدو أن عملية السلام أدخلت في عملية تجميد طويلة، فالطباخ لم يعد يهتم كثيراً بضرورة أن ينجز السلام بقدر اهتمامه بعدم موت العملية برمتها. لذا فإن جل النقاش الدولي حول عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط لا يوقد إلا إلى نتيجة واحدة هو أن هذا السلام أصبح غير ممكن. ثمة قناعة انتجتها جملة من الظروف والمعطيات تجعل مثل هذا الاستنتاج لدى صانعي القرار في الدوائر الكبرى مقبولاً ويرقى لوجهة نظر، ولكن لا يصرح بها. منها أن الحقائق على الأرض صارت تنفي الفكرة التي قيل إن تحقيقها هو غاية عملية السلام، وهو الحل على أساس دولتين تعيشان بسلام وتربطهما علاقات جوار. في البداية تراجعت هذه الغاية إلى دولة قابلة للحياة في اعتراف جلي بوجود معيقات تجعل من الطبيعي ألا تعيش هذه الدولة وألا تكون قادرة على الحياة، آخذين بعين الاعتبار الواقع الاستيطاني وتبعاته الديمغرافية والجغرافية والاقتصادية ومع ما يفرزه من هيمنة على الموارد الطبيعية ومقدرات تلك الدولة المفترضة أو المرجوة. وبعد ذلك تم فحص جملة جديدة من الأفكار مثل الدولة المؤقتة التي يتم عبرها اختزال الطموحات الوطنية عبر التعبيرات الشكلية عن الاستقلال دون ممارسته. بمعني أن يقبل الفلسطينيون بما يقدم لهم ويمارسون عليه حقهم في تميز صارخ بين الحق وبين ممارسته وبين الممارسة وتجسيدها. ومع حدوث الإنقلاب في غزة وهيمنة حماس على غزة بالقوة المسلحة وتجسيدها لحكمها الخاص وانسلاخ غزة عن السلطة التي قصد لها فلسطينياً على الأقل على أن تتحول إلى دولة وتكون نواتها تم احياء أفكار قديمة حول الحلول الاقليمية كبديل لفكرة حل الدولين من الأساس يكون قلبها ضم غزة أو بالأحرى رمي غزة إلى مصيرها المصري وربطها بشكل كامل بمصر عبر تقطيع كل ما يربط إسرائيل بها باستثناء الهيمنة العسكرية على أجوائها ومياهها ومعابرها الدولية من جهة الشرق والشمال وتدريجياً مع استكمال عملية تهويد القدس وتوصيل المستوطنات بشكل كامل وتعزيز فصلها عن التجمعات السكانية الفلسطينية وضمها لإسرائيل ويظل ما شرق الجدار فلسطينياً والاحتفاظ بغور الأردن والفصل بين مفهوم السيادة السياسية والسيادة الأمنية على الغور تذهب الضفة الغربية إلى مصيرها الأردني. بيد أن هذا الموقف تراجع بشكل خفيف مع ظهور بوادر المصالحة الفلسطينية بعد توقيع اتفاق القاهرة الإجرائي الذي وضع خارطة طريق لإنجاز اتفاق الدوحة وقبله اتفاق القاهرة في مايو العام الماضي. بدا ذلك واضحاً في مقترح وزير الحرب الإسرائيلي باراك حول الإنسحاب من طرف واحد وفك ارتباط جديد من المناطق السكنية الفلسطينية وتركها لمصيرها لتديره السلطة الفلسطينية. ولم يكن هذا إلا استكمالا لتصور شارون السابق حول الإنسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة وهو النبضة الثانية التي لم ينفذها شارون بسبب الموت الإكلينيكي. وحين تحضر تجربة غزة في أذهان الساسة والجنرالات في تل أبيب فإن من شأن تعذر تنفيد المصالحة (وهو احتمال وارد على الأقل هكذا تقول التجارب السابقة) فإن حالة الضفة الغربية، أو ما تبقى منها، بعد فك الارتباط أحادي الجانب قد لا يختلف كثيراً عن مصير غزة بعده إذ قد يحدث سيطرة من طرف بفعل القوة على مؤسسات السلطة وأجهزتها، ويعيش الفلسطينون إنقساماً داخل الإنقسام. والنتيجة أن الضفة وغزة تتحول إلى مناطق نفوذ لقبائل سياسية وعسكرية مسلحة تتقاتل. مقصد القول في ذلك أن عدم إنجاز المصالحة الفورية قد يقود إلى كارثة في حال تنفيذ إسرائيل لفك الارتباط هذا. هذا التراجع الواضح صوحب بعدم اكتراث دولي بما يحدث على أرض الواقع بحيث لم يعد مهماً حقيقة التغيرات على الأرض كما لم يعد مهماً إذا ما كانت الغاية الأساسية لعملية السلام ستتحقق أم لا بقدر أن توتراً كبيراً لن يحدث. ومنطق الولايات المتحدة في ذلك هو ماذا بوسع الفلسطينيين أن يفعلوا أكثر من إطلاق الصواريخ والمناوشات الحدودية في حل عدم الإسناد العربي الحقيقي غير المتوفر. والنصحية التي تعمل فيها إسرائيل هي التعايش مع هذا الألم وابتداع طرق خلاقة للتغلب عليه ومنها تطوير القبة الفولاذية وتعزيز الاستحكمات العسكرية على الحدود بجانب تكثيف النشاط الاستخباراتي لمنع تهريب السلاح. واقتصر النشاط الدولي على الإدانة والتنديد وتخلى عن مسؤولياته سواء الأخلاقية أو القانونية في صون السلم العالمي الذي تنتهكه إسرائيل. ولم تعد الزيارات المكوكية التي كادت أن تختفي في السنوات الخمسة الماضية إلا تعزيزاً لحالة الموت الإكلينيكي الذي دخلت فيه عملية السلام حيث لا يشاء للمريض أن يموت ولا يقصد منها أن تبعث فيه الحياة لأن شروط هذه الحياة غير ممكنة وغير متوفرة، أو لا يقدر الأطباء على توفير العلاج الناجع وهم لا يرغبون في حال توفره على فرضه على الطرف العصى على الإكراه. الظرف التاريخي الذي دفع هذا الطباخ أن يستنفر قوته وادواته من أجل جلب الفرقاء إلى مؤتمر دولي ضخم في مدريد ومن ثم ترتيب المفاوضات الثنائية ورعايتها لم يعد موجوداً، كما أن الخوف من تأزم الوضع الميداني واندلاع مواجهات بين دول المنطقة وبين إسرائيل أصبح الآن في باب الكوابيس التي لا تحدث. كما أن القضية الفلسطينية تراجعت في أجندة السياسة العربية وصارت عملية السلام وانعاشها أهم ما في الأمر بالنسبة للزعماء العرب بقصد عدم توتير الأجواء مع إسرائيل.لا أحد يعرف ما الذي سيحدث تحديداً ولكن وحدها الصحوة العربية التي قد يقدر لها أن تتحقق في حال استكمال المشروع الديمقراطي العربي أن تغير كل هذا. وهذا من باب الأمل. وبعبارة أخيرة فإن إنصاف القضية الوطنية الفلسطينية بحاجة لظرف تاريخي مختلف يكون فيه العرب والفلسطينيون قادرون على تحديد شروط اللعبة.