كما كان متوقعاً، هاج الشعب المصري وماج وعبّر عن انفعاله الشديد في معارضته المؤثرة للأحكام الصادرة بحق المتهمين في "محاكمة القرن"، ردود الفعل لم تهدأ بعد وتشير إلى أن هذه الأحكام قد تؤثر تأثيراً مباشراً على الانتخابات الرئاسية من ناحية موعدها ولجهة تعزيز حظوظ طرف على آخر. على أن رد فعل الشارع شيء، وتطبيق القانون والرضوخ لأحكامه شيء آخر، لقد قيل عن محاكمة صدام حسين إنها محاكمة القرن، كما أن محاكمة مبارك أخذت الصفة نفسها، والواقع أن محاكمة صدام حسين، لم تكن "محاكمة" بالمعنى القانوني، ذلك أنها خضعت لظروف خاصة، بحيث تشكلت "محكمة خاصة"، ولم تحظ بالمعايير القانونية المتعارف عليها، خاصة وأنها كانت بين جدران المحكمة ولم يتح المجال لمتابعة مجرياتها، ما حدث مع محاكمة مبارك أمر مختلف، فقد حوكم الرئيس السابق وفقاً لمحكمة عادية على عكس ما كان ينادي به بعض الثوار من ضرورة محاكمته ومحاكمة أركان نظامه، وفقاً لمحكمة خاصة، أو محكمة الثورة، أي باختصار محكمة سياسية، إلاّ أن خضوع مبارك وأركان نظامه إلى محكمة جنائية عادية، قد جعل منها محاكمة القرن، خاصة أن جلساتها كلها عقدت أمام متابعي شاشة التلفزيون، وتحت رقابة مباشرة من الجمهور. وعلى هذا الأساس، فإن القضاء المصري، قد عبر مرة أخرى، عن مدى استقلالية تمتع بها، رغم عهود القهر والظلم، وظل شامخاً يثبت عراقته وعدم خضوعه لضغوط الساسة ولا لتأثيرات الجمهور ووسائل الإعلام، وهذه المحكمة هي التي تشير ـ إضافة إلى إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ـ إلى أن النظام السابق قد رحل فعلاً، ليس برئيسه وطاقم الحكم المندثر، ولكن كنظام سياسي شمولي، وحل محله نظام جديد، ما زال في بداية خطواته الأولى، وبالتالي فإن هذه المحاكمة تنقض كل قول حول استمرار النظام السابق، وأن من رحل هو رئيسه وبقي نظامه، هذا حديث موتور يريد أصحابه الوصول إلى مآرب أخرى تتجاوز الواقع بهدف تحقيق رغبات وإرادات وغايات شخصية أو حزبية. إن تجربة تجمعات جُمع ميدان التحرير، تشير دون أدنى شك، إلى نوازع وأهداف مشتبكة ومختلطة لدى العديد من بؤر الثورة المصرية، غير أنها وهي تندفع لتأكيد مصالحها وآرائها من خلال التجمع والتظاهر، مستفيدة من أجواء الحرية الواسعة غير المسبوقة، ومنتهزة فرصة عدم قدرة المجلس العسكري في ظل ظروف حكمه الحساسة على التصدي للتجاوزات، فإنما تعبر عن مراهقة سياسية وفكرية، كصفة ملازمة لمعظم الثورات في التاريخ، وقد انتقل ميدان التحرير مجازياً، إلى كل بقعة من بقاع مصر، وأحياناً للتعبير عن مصالح فئات محدودة العدد والتأثير، فالطلاب المتضررون من رئيس الجامعة، على سبيل المثال، يتظاهرون لإقالته، ويتعاركون مع فئات من الطلاب الذين لا يتفقون معهم في الرأي، وهذا نموذج يمكن تعميمه على العديد من الأنشطة والتظاهرات والتجمعات، فكانت الفوضى باسم الثورة، والأهم، أنها كانت مظاهر لعدم الالتزام بالقانون، والأخطر، أن هذا القانون، كان يرحب به إذا وافق هوى جماعة ما، ويصبح مهاناً إذا لم يتفق مع مصالح أي جماعة أخرى، وأصبح السائد هو اختراق القانون تحت شعارات ثورية مراهقة. كان من السائد، أن لا تعليق على أحكام القانون، باعتباره خلاصة العدل والإنصاف، وأن سلطته المعنوية تتجاوز العديد من السلطات الأخرى، وأحكامه ملزمة ونهائية، مع ذلك، وحتى داخل "محاكمة القرن" رأينا الهتافات التي تطالب بتطهير القضاء، لا لشيء، إلاّ لأن الأحكام الصادرة لم تتفق مع رغبة وآراء بعض الحضور، ولو كان للسلطة التنفيذية، ومعها السلطة القضائية، القوة المعنوية اللازمة، لوجهت إلى هؤلاء تهمة ازدراء القضاء، فتوجيه الاتهامات إلى المحكمة وقراراتها، هو انتهاك لأبسط القواعد القانونية، ذلك أن معارضة أحكام القانون، تأتي وفقاً للقانون ذاته، أي أن الأحكام الصادرة هي أحكام ابتدائية، من محكمة جنايات عادية، ما يتيح المجال أمام خطوات قانونية لاحقة، خاصة في مرحلة التقدم "بالنقض" كخطوة تالية في حال كانت هناك اعتراضات قانونية جدية على هذه الأحكام. جماعة الإخوان وصفت الأحكام بالمهزلة، غير أن الجماعة ذاتها أرادت عبر سيطرتها على مجلسي الشعب والشورى، ابتداع قوانين "خاصة" عندما وضعت مشروع قانون العزل، على قياسها، وبهدف إحباط ترشيح وزير الأمن السابق عمر سليمان، وبعد عدم نجاح الأخير في ترشيح نفسه للرئاسة، لأسباب أخرى، هدأت عاصفة الحديث عن قانون العزل، ولم تثر هذه المسألة، إلاّ بعد فوز الفريق شفيق بتجاوز الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في مواجهة مع زعيم الجماعة محمد مرسي، حينها، أعيدت الأحاديث عن ضرورة تطبيق قانون العزل بعد إقراره من المحكمة الدستورية العليا على أحمد شفيق، و"مهزلة" هي الكلمة الأكثر هدوءاً لوصف كيف يمكن تجيير القوانين ووضعها وفقاً لمصالح فريق ضد فريق آخر. قبل جلسة الأحكام، كيلت المدائح للقاضي المستشار أحمد رفعت، بوصفه من أكثر قضاة مصر نزاهة وعدالة وخبرة، وبعد تلاوة الأحكام، خلعت عنه هذه الأوصاف وبدئ بالتذكير بأنه من مخلفات النظام البائد، ولأن هناك خشية من أن تخدم هذه الأحكام، موقف الفريق شفيق في انتخابات الرئاسة، أخذت وسائل الإعلام المحسوبة على التيار الإسلامي، تشير إلى "ضياع الأدلة" التي قيل إن شفيق هربها أثناء توليه رئاسة الوزراء في آخر أيام نظام مبارك، ولو أن الأحكام وجدت صدى لدى هؤلاء، لأصبحت الأدلة كافية للحكم الصادر عن محكمة أحمد رفعت. مع ذلك، لا بد من ملاحظة، ذلك أن المستشار رفعت قدم قبل إصداره الأحكام، بمداخلة أو مقدمة، باعتقادنا ما كان يدافع عن موقفه، عندما أدان النظام السابق، مشيداً بالثورة، لو فعل ذلك خارج المحكمة، لأمكن تفهم ذلك، ولكن في هذه المحكمة، ما كان له أن يتقدم برأي، الأمر الذي شوه حياد المحاكمة عن السياسة.