ان الشيء الوحيد الذي ينبغي ألا يتم الشك فيه في كل ما يتعلق بالمواجهة بين رئيسي الموساد و"الشباك" السابقين وبين القيادة المنتخبة، فيما يتعلق بايران، هو ان الجدل العلني يكمن فيه احتمال تدمير الديمقراطية. ان مئير دغان، وهو انسان ذكي وحساس ومحارب ذو حقوق كثيرة، يقود الآن حركة لتغيير طريقة الحكم. وهذا الامر مهم وضروري وليس هذا هو موضع البحث فيه. لكن من الغريب ان دغان خاصة يتجاهل واحدا من العناصر الأساسية في كل طريقة حكم ديمقراطية مهما تكن، وهو المصطلح البريطاني "قواعد اللعب". ففي اطار قواعد اللعب يحوز رؤساء منظمات الامن والاستخبارات قوة عظيمة، لكن القوة يُخففها، من بين جملة عوامل، الاعتراف بأن القوة التي حازوها ليست لهم. فهم لا يملكون العمل بما تُمليه عليهم وجهات نظرهم بل باذن وتفويض من السلطة التي انتخبها الجمهور، ويكون هذا صحيحا حينما يكونون في مناصبهم ويظل صحيحا ايضا بعد ذلك لأن المعلومات التي جمعوها تعني القوة (كما قال ميشيل فوكو). يدافع دغان عن نفسه بادعاء تقني يقول انه "مواطن خاص". لكن محاولاته لوقف سياسة حكومية – إن وجدت – ليست في الحقيقة محاولات "مواطن خاص" بل "رئيس الموساد التارك عمله" وهذا لقب تكمن فيه مسؤولية ثقيلة لا في سياق الامن والاستخبارات فحسب، وتقتضي قدرة على ضبط النفس في اثناء ولاية المنصب وبعد نهايتها ايضا. ان اسرائيل هي ديمقراطية ثابتة الأسس وامكانية الانقلاب العسكري لا تخطر بالبال. لكننا لو قرأنا عن دولة افريقية يتهم فيها رئيس منظمة الاستخبارات التارك عمله بلا توقف القيادة بالتخلي عن مستقبل الدولة، لأصبحنا على ثقة بأننا نواجه علامات انقلاب. وهذا ما يجعلنا نفهم لماذا أصبح توجه دغان خطيرا، أي لا لأنه مخطيء، فقد تكون آراؤه صحيحة، بل لأنه بعد ان استوفى حقه الديمقراطي – باسماع رأيه – لم يكتف بذلك فيصر على اجبار حكومة منتخبة على قبول رأيه الشخصي. سيقول مؤيدو نشاطه ان كلامه هو بمثابة نقد وانه عمل ديمقراطي شرعي بل ضروري وانه على التأكيد عكس الدعوة الى التمرد. والفرق في الحقيقة دقيق لكنه قاسي. فليس بالصدفة ان "قواعد اللعب" هي قواعد لا قوانين – يوجد فيها مرونة. وبسبب هذه المرونة فمن حق بل من واجب المسؤولين الكبار الذين تركوا عملهم من وقت غير بعيد ان يعبروا عن آرائهم. وفي اطار قواعد اللعب تلك يوجد لوسائل الاعلام وللرأي العام تأثير كبير، فاذا كان دغان يعتقد ان الحكومة تقود الى كارثة ولا يستجيب القادة لموقفه، فمن حقه ان يجند الرأي العام للتأثير في القيادة. ان اجراء المقابلات الصحفية مرة أو مرتين أو ثلاثا شيء واجراء حملة دعائية مكثفة في البلاد وفي العالم تريد ان توقف سياسة القيادة المنتخبة، وعلى رأسك هالة رئاسة الموساد، شيء آخر. أي شيء؟ ان الوصف الدقيق لسلوكه قد جاء من فم ديسكن نفسه، وهو انه خلاصي وذاك لأن الخلاصي يعني من جملة ما يعني انسانا يؤمن بأن حل الخلاص موجود في يديه وأنه مستعد لفعل كل شيء لتحقيقه. ان ما يُصعب علينا التعرف على الخلل الديمقراطي في اسلوب عمل دغان كامن في انه يعرض موقفا يعتبر "أكثر انسانية" لأنه يدعو الى منع حرب. لكن توقفوا فجأة وفكروا في حالة مختلفة وهي ان يدعو دغان الحكومة في أنحاء البلاد والعالم الى احتلال غزة وأن المنظمات الارهابية في رأيه تقوى بفضل التهدئة ويخشى القادة في رأيه علاج المشكلة لأنهم يخشون الرأي العام؛ ويرد الجمهور على خطبه بالهتاف للبطل الذي ينطق بالحقيقة ويدعون الحكومة الى تنفيذ ما يقول، فهو يعرف ما الذي يتحدث عنه، أليس هو سيد الأمن. يمكن ان نفترض بيقين ان أكثر المقالات في الصحف في هذه الحالة كانت ستندد به بسبب استعماله الخطير لهالته الامنية. أنا أُصدق دغان في انه يريد انقاذنا من كارثة باعتبار ذلك درسا استخلصه من حرب يوم الغفران. لكن لا يجوز له ان ينسى زيادة على أن أحد الدروس هو عدم التمسك الشديد بتصور عام، ان أمن الدولة لا يعتمد فقط على الحسم العسكري بل على استدخال البعد الديمقراطي ايضا.