ندخل السجون والمعتقلات غالباً، في وقت مبكر من العمر، في الحقبة البطولية، التي يهيمن عليها الشعر، وهكذا لو سمح لي التحدث عن تجربة شخصية، في هذا المجال، فقد اعتقلت للمرة الأولى حين كان عمري في التاسعة عشرة بعد بضع سنوات من الاحتلال للبلاد العام 1967. وبعد اربع سنوات سوف اعتقل للمرة الثانية، ولكن هذه المرة في مصر المحروسة، عندما كنت لا أزال طالباً ادرس في جامعة القاهرة، وانتهى الاعتقال هذا بإبعادي الى بغداد، بعد الزيارة الشهيرة للرئيس الراحل انور السادات الى القدس. واستطراداً في السياق اذا قدر لكم ان تشهدوا حرباً تنتهي بحصار عظيم لمدينة، حصار بيروت في مستهل شبابكم، يقودكم رجل عظيم وقائد فذ كياسر عرفات، حصار مدينة اشبه بالملاحم والاساطير القديمة، وتنتهي حرب طروادة هذه الى هجرة اخرى تقلكم فيها سفن ضخمة تشق عباب البحار توزعكم على مناف جديدة . فانكم بذلك تكونون قد بلغتم ذروة هذه الحقبة، قبل ان يطويها تمدد العمر وتصبح من اساطير الماضي كذكريات يمكن استدعاؤها وقد بلغتم سن الكهولة، وحيث يفضل الكهول التحدث عن الماضي اكثر من الحاضر، كما افعل انا هنا في هذا الاستدعاء من الماضي. لكن هيا نعود مجدداً إلى الحاضر، لقد أردت من هذه الاشارة الى الحقبة البطولية، ان أوضح هذا التناقض الذي تتسم به التحولات في علاقتها مع الزمن، اذا بينما تأخذ هذه التحولات، شكلاً تراتبياً منتظماً في مراحل العمر تماما اشبه بتقلبات الفصول الاربعة، او مواقيت الصلاة الخمسة على مدار اليوم الواحد، حيث الزمن هنا يتجه باضطراد متواصل نحو التقدم الى الامام . الا ان حركة الزمن، داخل السجون لا تتخذ هذا المسار الطبيعي والمنتظم، وكذا ايضا على مستوى آخر من القياس، حينما يتخذ احتلال قدراً من التطاول، فان هذا التحقيب يتخذ نسقاً، شكلاً مغايراً في علاقة السياسة، التاريخ بالزمن. هناك في الحياة الشخصية، العمر، يمكن التوقف عند سن البلوغ، المراهقة التي هي الحلم، المرحلة الغنائية لتحديد الحقبة البطولية، التي يخمد اوارها غالبا كما العقدة الاوديبية في الرابعة والعشرين. أما في السجن فان العامل الحاسم المكون لدلالة الزمن، هو المراوحة في المكان، السكون في الحركة. يقول اسكار وايلد في ملاحظة تثير الانتباه ان الزمن داخل السجن لا يتقدم وانما يدور فقط، يدور حول محوره أشبه بالركود. انه زمن منقطع، منفصل عن التاريخ، او الواقع، فيما يتحول الواقع الحقيقي الى مكان قصي ومختزل، بحيث يحال الواقع الحقيقي الى الذكريات القديمة، ويتجلى في الحاضر، العمر المدرك داخل الزنزانة الى مجرد عدد، وككابوس اسود طويل. هل لهذا السبب كان مطلباً وحيداً ألح عليه روجيس دوبريه صديق جيفارا من جلاديه في السجن تزويده بكتب وورق للكتابة وقلم. وكذا كانت عمليات التهريب من خارج السجون زمن الاحتلال الاسرائيلي المبكر، الى داخل هذه الزنازين الحصول على الكتب ثم الكتب ثم الكتب، لاعادة تحوير الزمن لاضفاء دلالة عليه اكثر اتصالا بالواقع الحقيقي. يأخذ التحقيب للزمن في الصراع، الاحتلال وقد تطاول شكلاً من يقظة، ادراك متصل لا ينقطع، لروح جماعية، على مستوى الأنا العليا، التي لا تعرف النوم، وهكذا فان إلهة الحكمة منيرفا التي تظهر في كل مرة عند الغسق، هي التي تتدخل لاحداث هذا التحوير، لنقلات الزمن والتاريخ، في صورة من اتساق هذه الحركة بتماثلها مع الحقب الزمنية. وهذا الشكل من التدخل الذي هو عقل التاريخ يتخذ هيئة على غرار حركة قطار التاريخ. وحيث لا تقر، او تعترف الروح الباطنية الجمعية، بالهزيمة او الانكسار، وهكذا بعد المفتي امين الحسيني يأتي احمد الشقيري، وبعد الشقيري يأتي عرفات، والى جانب فتح الجبهة الشعبية ثم حركة حماس والجهاد الإسلامي. هل نفهم إذاً هنا ماذا يعنيه الإضراب عن الطعام، كورقة وحيدة، تبقى للسجين في غياب القدرة على تنظيم محاولة للهروب الجماعي، او حل تفاوضي، او اسر جنود للعدو كل يوم ومبادلتهم باعتبارها محاولة اخيرة ولكن يائسة لكسر تراتبية هذا الركود الفظيع للزمن، وقد تحول الآن الى ما يشبه الموات. انه تهديد اشبه بالاستشهاد الجماعي، ولكن كأعلى درجة من الشعور، الادراك الحسي بالبطولة، الاستعداد لقتل الحياة، كتعبير أخير عن الخلاص، العودة للاتحاد والتماهي مع الزمن الواقعي، التاريخي في الخارج ولو كجثث هامدة، وهنا فقط عند هذه اللحظة الاكثر مأساوية واضطرابا، الأكثر تكثيفاً للزمن، انما يعود الاحساس، الشعور بالزمن الذي لا يدور وانما يتقدم، فالحقبة البطولية، داخل السجن، انما هي الحقبة الوحيدة ولكن المديدة على مدى العمر، ولكن في ذروة محاولتهم، ثورتهم هذه لاعادة عقارب حركة الزمن الى الأمام، ايقاظ الزمن من جديد، فانهم قادرون على ايقاف الزمن خارج اسوارهم، حين تصبح روح شعب باكمله مرهونة ومعلقة، بروحهم، صراعهم، وقد اختزل الآن وتقلص الى اصغر وحداته في العدد. يتحول الزمن داخل السجن، الى مجرد عدد، عدد السنين الاشهر كما عدد ايام الاضرابات، وسنوات العزل، لكنه في زمن الاحتلال وقد تطاول اكثر مما يحتمل فانه يصبح اشبه بزمن خرافي سرمدي، كما لو انه عقوبة الهية . هل جاءت ملاحظة خضر عدنان الذي اشعل هذه الثورة في السجون بعد ثماني سنوات عجاف، على هذا القدر من الفطنة والعمق في دلالتها حينما قال : "لا تعدوا لهم أيام الإضراب، لأنهم بمجرد ان توقفوا عن الطعام انتصروا أولا في تفوقهم على انفسهم، وبعد اذن على الزمن وعلى الجلاد. لا تعدوا لهم الايام فقد دقوا على جدار الخزان، اخترقوا جدار سديم الزمن، او بمجرد ان تجرأوا على الكلام فانهم ألقوا بالكرة بملعبنا وملعب الاحتلال .وهكذا فان المسألة لم تعد كم يعدون من الأيام في الكهف، وانما ما يمكننا القيام به نحن، لانقاذهم، اخراجهم وتحريرهم من هذه المقابر، لاعادتهم الى الحياة، او اقله تحسين الظروف الانسانية لاعتقالهم، ولا سيما المعزولين انفراديا منهم، فهل نملك العزم نحن ايضا على امتلاك الجرأة على الانتصار، الثورة على سديم الاحتلال. على مدى ثلاثة اجيال، هي 64 عاماً، لم يشوه الاحتلال المشهد الطبيعي لعذرية المكان، البلاد، وانما شوه، لوث وحطم ادراكنا الطبيعي للزمن، بتحطيمه سحر الحياة العادية والطبيعية في الزمن، حينما تتحول الحياة في زمن الاحتلال الى حقبة طويلة متصلة كفيلم طويل سيئ. الاحتلال بوصفه المفسد والمدمر لكل شيء، ولكن حينما يتطاول هذا الزمن المخالف لمنطق التاريخ والحياة، فانه لا يكشف عن قوة ما كامنة في هذا الاحتلال، التمدد، التطاول في الزمن وانما عن التلكؤ في تعسر المخاض، لحدوث الانقلاب التاريخي المنتظر، ظهور المخلص من جديد، وهكذا لم يكن ستالين صائبا حينما اعتقد ان التمدد في المكان يؤدي الى التقدم في الزمن، اذا كان هذا التمدد سوف يغضب البابا آجلا ام عاجلا، وتنكفئ روسيا بعد 70 عاما، الى حدودها. تماما كما يحدث الآن للانكفاء الاميركي بعد حقبة من التمدد في المكان. وما يحدث كذلك اليوم ليس ان العدو يتمدد خارج المكان الذي حدد له، واظهاره هذه القسوة الوحشية، وانما هو الضعف، والخوف بل الخور والذلة، واخفاء هذا الخوف تحت ستار من القسوة المبالغ فيها، لادراكه الباطني ان ضحاياه انما هم الذين يتصفون بالشجاعة والبطولة الحقيقية، اذا كانت كل قسوته لم تدفعهم الى الاقرار بانتصاره عليهم او هزيمتهم. فالحقب البطولية كانت منذ فجر التاريخ صنو هذه الدروب، التي سارت عليها شعوب وافراد مضطهدون على درب الآلام التي مشى عليها السيد المسيح، يحملون صلبانهم على ظهورهم لأجل خلاصهم . وحيث ذابت كل الاحتلالات في الرمال دونما حتى نوط شجاعة صغير يسجل على شاهد قبورهم، وانما عارهم، واحتقار الزمن لهم.