ربما يكون الإنجاز الأهم بالنسبة للاخوان المسلمين في مصر بعد الثورة على صعيد الخطاب السياسي، هي أنهم نجحوا في تجنب تكرار أخطائهم في الخمسينيات بعدم الصدام مع العسكر / حتى الآن على الأقل / وهو صدام في حال حدوثه لن يكون في صالحهم، كما أنهم نجحوا ايضا في تجنب أخطاء حركة حماس أو حتى الحركة الإسلامية في السودان، من خلال سعيهم لطمأنة الغرب وتبديد مخاوفه من الصعود المدوي للاسلام السياسي في غمرة ربيع الثورات العربية .وبدا ذلك جليا في تصريحات أكثر من مسؤول بارز في الجماعة سواء فيما يتعلق بمستقبل العلاقات مع إسرائيل وإتفاقية السلام أو العلاقات مع امريكا والغرب أو النظام الاقتصادي والحريات الاقتصادية. وكلها تصريحات تجنبت الحديث عن قضايا خلافية أو دينية وركزت في المقابل على قضايا التنمية وبناء دولة الرفاهية ومحاربة الفساد وغيرها من القيم التي تلتقي مع الغرب ولا تصطدم معه. لكن الإخوان الذي كانوا حريصين على طمأنة الخارج لم يكونوا على نفس درجة حرصهم تلك في مواجهة شركائهم في الوطن بل إنهم سلكوا مسلكا مغايرا ساهم في تعميق الفجوة بينهم وبين القوى السياسية وجعلهم بعد شهور من نجاح الثورة في مواجهة مع غالبية مكونات المشهد السياسي وبشكل خاص القوى الثورية والشبابية التي كان له فضل إشعال فتيل الثورة .ربما يكون صحيحا أن جانبا من مسوؤلية هذه الأزمة يقع على عاتق بعض القوى التي تنطلق من مواقف ثأرية قديمة أو أيديولوجية جامدة تنكر على الإخوان حتى حقهم في الوجود السياسي ،لكن الإخوان في المقابل لم يظهروا ما يكفي من الاستعداد للتوافق والشراكة مع باقي القوى الأخرى التي تؤمن بحقيقة أن الإخوان مكون أساسي في بناء الوطن الجديد، وهذا ما يفسر إتساع أزمة الثقة وتعمقها بين الإخوان وأغلب إن لم يكن كل القوى المدنية والثورية والتي رأت في مسلكهم رغبة مخيفة في الهيمنة والسيطرة لدرجة بدت فيه مصر الثورة تعيد إنتاج الإستبداد بعناوين جديدة. كما أن الإخوان وإن كان من حقهم كقوة سياسية السعي للسلطة والحكم، فانهم لم يتنبهوا لحساسية المرحلة الإنتقالية التي تمر بها مصر والتي كانت تفرض عليهم إعتماد نهج يتفق ومقتضيات هذه المرحلة التي تتطلب التوافق والعمل الجاد بمشاركة كل مكونات الخريطة السياسية لإرساء قواعد نظام سياسي يضع قواعد واضحة تنظم العلاقة بين كل أبناء المجتمع، وهذا لا يتأتي بمنطق المغالبة والهيمنة بل بمنطق المشاركة والتناازلات المتبادلة وهوما لم يدركه الأخوان بشكل واضح حتى الآن .إن الأزمة الحالية بين الإخوان وباقي القوى السياسية في مصر تفرض عليهم إجراء تقييم عاجل ومراجعة للكثير من المواقف والحسابات إنطلاقا من الإعتراف بالإخطاء كمقدمة ضرورية لتجنبها مستقبلا، لا سيما أن مصر مقبلة على إستحقاقين كبيرين يشكلان معا إختبارا مهما لمدى جدية وقدرة الإخوان على إجراء هذه المراجعة: الأول هو تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور والثاني هو الإستحقاق الرئاسي ،فسلوك الإخوان في حيال هذين الملفين سيكون فاصلا في الحكم على ما إذا كانوا جادين في تغليب مصلحة الوطن على مصلحة الفصيل والتنظيم .بالنسبة للاستحقاق الأول فإن التعثر الحالي في مساعى التوصل لتوافق بين القوى السياسية على الطريقة الأمثل لتشكيل لجنة الدستور وإن كان يعود في جانب منه إلى فقه المكايدات والنكايات بين الإخوان وبعض الأطراف، فإنه يعود في الأساس إلى عدم قدرة الإخوان على التعامل مع الموقف باعتبارهم أكبر قوة سياسية وما يضعه ذلك على عاتقها من مسؤولية تجاه مصالح الوطن ومستقبله بالدرجة الاولى وتجاه شركاء الوطن في المقام الثاني. وأخشى أن يبقى الوضع على حاله طالما ظل البعض على قناعته بأنه الدستورالجديد للبلاد هو إستحقاق إنتخابي يحق للاغلبية البرلمانية أن تتحكم في صياغته، بينما البعض الآخر يبدو أسير أفكار تحكمها مشاعر الشك والمكيدة ،وهذا قد يفتح الباب لتدخل الطرف الأقوى في المعادلة وهو المجلس العسكري ليأخذ زمام المبادرة ليصنع الدستور على عينه ووفقا لحساباته خصوصا وأن هناك من الشخصيات التي تحسب نفسها على القوى المدنية من يزين له ذلك، وحينها سيخسر الجميع وقبل ذلك سيخسر الوطن فرصة تاريخية في إنجاز تحول ديمقراطي حقيقي وإلى الأبد.أما بالنسبة لموقف الإخوان المسلمين من الإستحقاق الرئاسي والإصرار على الاحتفاظ بالدكتور محمد مرسي الذي تم الدفع به كمرشح إحتياطي بعد إستبعاد خيرت الشاطر،ورفض كل محاولات إقناعهم بسحب مرشحهم ،فإنه تبدو مفــارقة للشعار الذي يرفعونه لحملتهم الإنتخابية وهو ’نحمل الخير لمصر’، بل إن الشعار الأدق في هذا الصدد هو ’نحمل الخير للتنظيم’. وهنا ينبغي أن يتساءل المرء، في مواجهة هذا العناد من جانب الإخوان ورفضهم مساعى القوى الوطنـــــية والثورية لتوحيد الصفوف خلف مرشح رئاسي واحد.. أيهما افضل لمصر .. أن تتوحد الجهود كل الجهود المخلصة لتقديم الدعم لمرشح من المحســـوبين على الثورة والمؤمنين بها والمخلصين لأهدافها، أم التناحر والتشتت وتقسيم الأصوات بين مرشحي الثورة و الذي سيصب في النهاية لصالح مرشح أخر ينتمي للماضي أكثر من من إنتمائه للمستقبل؟. لماذا التمسك بمرشح الإخوان في الإنتخابات رغم أن المؤشرات تظهر أن فرصه تبدو أقل من مرشحين أخرين يمكن أن يحققوا الهدف نفسه للوطن والجماعة مثل الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح مثلا ؟ليس هناك من تفسير لهذا الموقف من جانب الجماعة سوى أنه تعبير صارخ عن الإنحياز لحسابات ومصلحة التنظيم حتى لو تعارضت مع مصلحة الوطن، فالأخوان الذين تملكهم الرعب عقب تهديد رئيس الوزراء كمال الجنزوري لهم بحل البرلمان الذي يسيطرون عليه وبأن الحكم بعدم دستوريته جاهز وذلك ردا على مطالباتهم بإقالة حكومته، شعروا أن الأغلبية التي حازوها في البرلمان ربما تضيع في لحظة وأن كل ما حققته الجماعة من مكاسب سياسية معرض للضياع .وتحت تأثير حالة الرعب تلك وإنطلاقا من الرغبة في الحفاظ على مكتسبات الفصيل، قرر الإخوان التراجع عن تعهداتهم السابقة بعدم خوض الإنتخابات الرئاسية بكل ما يحمله ذلك من إهتزاز في المصداقية.وبدلا من الإحتماء بالوطن وشركائهم في الثورة وبناء تحالف وطني عريض يقف ضد أي محاولة للأنقلاب على العملية السياسية، قرر الإخوان الإحتماء بمنصب الرئيس لكنهم وهم تحت تأثير الخوف والمصلحة خانتهم حساباتهم السياسية بأن دفعوا بخيرت الشاطر دون أن يتنبهوا لأن هناك قيودا قانونية تعترض طريق ترشحه وهذا ما حدث فعلا، وبدلا من أن يكون ذلك فرصة للعودة عن خطأهم والرجوع لحضن الجماعة الوطنية، عالجوا الخطأ بخطأ آخر وهو الدفع بمرشح إحتياطي في سابقة لم تحدث في أي إنتخابات رئاسية وهو تصــــرف أثار الكثير من السخرية في الاوساط السياسية ناهيك عن أنه أعطـــى خصوم الإخوان هدية ذهبية للنيل منهم ولتأكيد سعيهم للهيمنة والتكويش على الوطن.لكن هذا ليس التفسير الوحيد لموقف الإخوان من الإنتخابات الرئاسية، فلو كان الإخوان يريدون الإحتماء بمنصب الرئاسة في مواجهة خطر حل البرلمان، فليس ضروريا أن يتحقق ذلك بوجود رئيس إخواني، بل كان يكفي أن يدعم الإخوان مرشحا ثوريا مؤمنا بالثورة وأهدافها،فما بالنا لو كان هذا المرشح هو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح القيادي الإخواني البارز وأحد المؤسسين الجدد لجماعة الإخوان في السبعينات والذي ظل قياديا في الجماعة حتى تم فصله عقب خروجه على قرارها عدم خوض الإنتخابات الرئاسية، ومع ذلك مازال مخلصا ومحبا للجماعة، فلماذا هذ الموقف من الرجل؟ .إن هذا الموقف الذي يعكس مأزقا أخلاقيا كونه ليس مبررا ومأزقا تنظيميا بالنظر لانه غير مقنع لشباب الجماعة، يتسق مع غيره من مواقف قيادة الجماعة والتي تبدو أكثر أنحيازا وإيمانا وربما تقديسا للتنظيم من إيمانها بالفكرة والمشروع الذي أسسه الإمام حسن البنا، وهذا هو جوهر الأزمة وربما المأزق الذي تعيشه الجماعة حاليا ولا سيما في مواجهة قطاعات كبيرة من شبابها الذي يبدو راغبا في التحرر من ضيق التنظيم الذي تمثله قيادته إلى رحابة الفكرة والمشروع الذي يمثله ابو الفتوح. هناك من يرى أن هناك بعدا شخصيا في الموقف من أبو الفتوح ولا سيما من جانب خيرت الشاطر، وهناك من الإخوان ممن تحدثت اليهم من يرى أن شخصية أبو الفتوح أضعف من أن تتصدى للمخاطروالتهديدات التي تتعرض لها الجماعة والبلاد حاليا، وأن المرحلة تتطلب شخصية قوية قادرة على مواجهة الذئاب الكثيرة التي تعوى في ساحات الوطن على حد تعبير أحدهم. لكن كل هذه الأسباب لا تبدو كافية أو مقنعة لتفسير الموقف من أبو الفتوح الذي نجح من خلال حملته الإنتخابية وما يقدمه من رؤى ومواقف إصلاحية معتدلة أن يجذب اليه قطاعات لا بأس بها من القوى المدنية وحتى القبطية التي رأت أنه يجمع بين إيمانه بالثورة ومواقفه الإسلامية المعتدلة وهو ما يعطيه فرصا كبيرة للمنافسة بقوة على منصب الرئاسة ولكنه في الوقت نفسه يزيد من محنة الأخوان المسلمين لدرجة أن البعض بات يعتقد أن موقف الإخوان غير المبرر وغير المقنع من أبو الفتوح تحول إلى لعنة ستطاردهم حتى صناديق الإقتراع في الإنتخابات الرئاسية وربما تخلط كل الحسابات التي بنوا عليها موقفهم في معركة الرئاسة، بل وربما نشهد حيئنذ ميلاد جديد للجماعة ومؤسس آخر لها .’ كاتب مصري