أصبحت زيارة عدد من الدعاة المسلمين للمسجد الأقصى حديث الساعة بين مؤيد يصفها بأنها نصرة للأقصى والقدس، ومعارض يصفها بأنها تطبيع يصل حد التخوين، والخوف من وصولها لاحقاً إلى حد التكفير. ما دفعنا للكتابة ليس تفنيد الآراء والوقوف مع هذا الفريق أو ذاك من المؤيدين والمعارضين لتلك الزيارات، بل الدافع هو الوقوف عند الهرج والمرج واللغط الذي أعقب تلك الزيارات بما خرج عن الآداب النبوية في إدارة الخلاف بين المسلمين. فمن زار الأقصى ومن ينوي ذلك من العلماء لهم رؤيتهم الشرعية للأمور بما فيها السياسية، والتي قد تصيب وتخطئ، ولا تحملوا الأمور أكثر من ذلك. إن عالمين جليلين مثل علي جمعة والحبيب علي الجفري لهم القدرة على الاجتهاد، وإن عددتموهم مخطئين، فهل أنتم أشد حرصاً على الدين من أفضل البشر محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران، وإذا اجتهد فأخطاء فله أجر أخرجه البخاري وأبو داوود. هؤلاء العلماء يجب ألا يصفهم من اختلف معهم بأكثر من ذلك، فالاختلاف في الرأي حدث أحياناً في عهد النبي بين صحابته العظام، واستمر من بعده حتى أن أهل السنة والجماعة يصفون عهد الفتنة وما وقع بين المسلمين زمن معاوية وعلي رضي الله عنهما لا يخرج عن نطاق اجتهاد هذين الصحابيين، رغم أهوال التبعات الجسام التي نجمت عن تلك الفتنة إلى يومنا هذا. إذاً الخلاف ليس ظاهرة غريبة على الأمة الإسلامية، بل هو من الطبيعة البشرية ومن سنة الله في خلقه وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.... هود الآية (118). إن المشكلة ليس في الخلاف ذاته بل بالمختلفين الذين لا يتمسكون بأدب الخلاف ويقدحون بمخالفيهم ويحطون من قدرهم، وقد يكون فيهم من هو أكبر قدراً وأغزر علماً وأكثر طاعة لله وأنفع للأمة. بل حالهم التعصب الأعمى لآرائهم بما يعمق الخلاف ويزيد من إشكاليات الأمة التي كثيراً من ُتستثمر خلافاتها بما يفت من عضدها، في حين من الأحرى استثمار الأمة لمصادر قوتها المختلفة وتنميتها بما يوصلها لغايتها. الخلاف ظاهرة صحية إن التزم المختلفون بضوابطه وتحرى كل فريق منهم عن نية صادقة مصلحة الأمة، بعيداً عن التعصب والغلو المقيت الذي يعمق الخلاف ويزيد التشرذم إنَّ الّذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً لسْتَ مِنهُم في شيء… الأنعام الآية (159). فهاهو الإمام أبو حنيفة الذي قال فيه الشافعي الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة ، وقال فيه عبد الله بن المبارك إنه مخ العلم ، كان لأخلاقه الإسلامية ولإخلاصه لدينه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق الذي لا شك فيه، بل كان قوله قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا، فهو أولى بالصواب منا . وقيل له يا أبا حنيفة، هذا الذي تفتي به هو الحق الذي لا شك فيه قال لا أدري لعله الباطل الذي لا شك في... ، وقال زفر تلميذه كنا نختلف إلى أبي حنيفة، ومعنا أبو يوسف، فكنا نكتب عنه، فقال يوماً لأبي يوسف ويحك يا يعقوب، لا تكتب ما تسمعه مني، فإني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غداً وأرى الرأي غداً فأتركه بعد غد . هذا نموذج لاحترام الآخر وآرائه من غير تعصب، فالإخلاص في طلب الحق مع سعة العقل والخوف من الله عز وجل يدفع صاحبه لتقبل آراء الآخرين، وإن انتقدهم يكن بالحجة والبرهان وبأسلوب لا يحقرن أحداً. فلعل من زار الأقصى من علماء المسلمين قد أخطأ وفقاً لرأي البعض، فليكن الانتقاد ضمن الالتزام بآداب الضوابط النبوية في إدارة الخلاف، مع الأخذ في الاعتبار المكانة العلمية الرفيعة لهؤلاء العلماء، فلا خير في أمة تحقر من شأن علمائها. *كاتب مقيم بغزة وباحث في الشأن الإيراني