قرأت مقالة د.أحمد يوسف التي نشرتها وكالة "سما الإخبارية" بعنوان الـ"واشنطن بوست" والسقوط في درك الصحافة الصفراء.....بإمعان شديد، والتي تحدث فيها عن مقالة لصحيفة أميركية اسمها كارين بروليارد عن حكم "حماس" في غزة الذي "لم يكن كما توقع الكثيرون"، واتهمها بتزييف الحقائق عن حكم "حماس" والتحامل عليها وتشويهها واستهداف حكومة غزة والمقاومة، والهبوط إلى مستوى الصحافة الصفراء، ومن باب الفضول عدت إلى المقالة الأصلية للكاتبة وقرأتها. فما هي الحقيقة؟ المدهش أن التحقيق الصحافي الذي نشرته الـ "واشنطن بوست " والذي يستند إلى عدد لا بأس به من المقابلات التي أجرتها كارين بروليارد مع مواطنين وقادة وكتاب ومثقفين يعكس جزءا من الحقيقة الصرفة وليس كلها وأهل قطاع غزة الذين قابلوا الصحافية الأميركية كانوا متحفظين نسبياً ولم يقولوا كل الحقيقة، وربما السبب الحقيقي وراء المقالة التي كتبها السيد احمد يوسف الذي يعرف عنه الاعتدال والواقعية هو أن يوسف نفسه تحدث للصحافية عن أن حكم "حماس" أصبح مثل " الدولة البوليسية"، ربما يكون انجرف قليلاً وتحدث بواقعية كمحلل. ولكن ما قالته الصحافية كان دقيقاً على لسان الأشخاص الذين قابلتهم، فالحديث تناول توقعات الذين صوتوا لـ"حماس"، وأرادوا حكماً "نظيفاً" وتوقعوا عدالة وإنصافا، وبعضهم غرته شعارات المقاومة التي يتساءلون عنها أين هي اليوم، خصوصاً عندما أدركوا أن حركة "الجهاد الإسلامي" كانت وحدها في المعركة الأخيرة في غزة وهذا كان غير مقبول شعبياً. وتحدث الناس عن فرض اجندة اجتماعية لا يرغبونها، وعن التهريب، وعن تمييز "حماس" بين الناس وتفضيل كوادرها وعناصرها، وعن قمع الحريات الغائبة تماماً تحت سلطتها، لدرجة أن احمد يوسف شخص الوضع بصدق بالحكم البوليسي وخوف الناس من التجمع والتظاهر، ولا يجديه نفعا الآن التراجع عن هذا الكلام لأن الناس يعيشونه تماماً، فكل الفصائل والمنظمات الشعبية والمدنية والناس الذين ارادوا يوما التعبير عن مواقفهم حتى في إطار الشعارات التي ترفعها "حماس" مثل دعم المصالحة تعرضوا للقمع ومنعوا من حق التظاهر أو إبداء الرأي. كما تحدثوا عن الحصار المفروض حمساوياً لأسباب خاصة. كما تناول التحقيق هبوط شعبية "حماس" بصورة ملموسة. وهذا التحقيق موضوعي ويعكس بعض الحقائق عن حكم غزة وعن المشاكل والمصاعب التي يواجهها الناس هناك بالإضافة إلى الحصار الظالم، وربما لم تبالغ الصحافية كارين بروليارد في وصفها للواقع واقتباسها للناس في غزة الواقعة تحت حكم ظالم واحتلال لا يريد المغادرة. ولا أحد يمكنه أن يدعي أن الوضع طبيعي والمواطنين ينعمون برفاهية وحرية في ظل أزمة الوقود والكهرباء والضائقة الاقتصادية والأهم الكبت وغياب الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة. وإذا كان الوضع هكذا في غزة ليس فقط بشهادة الصحافة الأجنبية والعربية والمحلية، بل أصلاً بفعل الواقع المعاش، فالوضع في الضفة ليس وردياً ولا خالياً من المشاكل وإن كان افضل نسبياً، ونحن لا نتحدث على مشاكل الاستيطان وجرائم المستوطنين وما هو مرتبط بها من اجراءات. فهناك مشاكل اقتصادية وبطالة، وأخيراً ظهرت مشكلة جديدة تتعلق بتقلص مساحة الحريات وخاصة الصحافية، وبرز ضيق صدر لدى بعض المسؤولين في تحمل النقد بحق او بغير حق. في الآونة الأخيرة ظهرت عدة إشكاليات مع الصحافيين ومع بعض مراكز حقوق الإنسان وجرت معالجتها بصورة متسرعة، ما أثار غضب الصحافيين وأساء لسمعة السلطة الوطنية، وأجهزتها. والغريب أن هذه التضييقات تأتي في توقيت غريب مخالف لوجهة صيرورة الأمور في المنطقة العربية التي تشهد اتساع نطاق الحريات. هذا لا يعني أن النقد مباح بغير حدود خصوصاً إذا ما تعلق بأمور شخصية يمكن أن تسيء أو تشوه السمعة. ولا بد من تطبيق سيادة القانون ومساواة الناس أمامه، ولكن هناك مشكلة في النظر للصحافيين، حيث لا ينبغي التعامل معهم كالمجرمين حتى لو أخطأوا، ولا أحد يمكنه أن يتنازل عن الحق الشخصي والعام حتى في التعاطي مع الصحافيين المخالفين. لكن هذا لا يمنع مراعاة الوضع العام والشخصية الاعتبارية للصحافيين. ومن الأشياء المثيرة للاستغراب أن النقد إذا وجه نحو الحكومة أو وزرائها ومسؤوليها فهذا يكون مباحاً ومنطقياً ولا يخضع المنتقدين للمساءلة. أما إذا وجه لبعض الشخصيات بمستوى معين تقوم الدنيا ولا تقعد وتتدخل الاجهزة والقضاء ويجري تنفيذ الاعتقالات والقرارات العقابية بسرعة كبيرة. وفي هذا الموضوع يجري التمييز بين مستوى قيادي وآخر ويلعب الانتماء ومستوى علاقة الشخص المعني مع مستويات صنع القرار دوراً حاسماً في طريقة تعاطي الأجهزة التنفيذية وحتى القضائية مع القضية المعينة. والحمد لله أصبحت صفحات الفيس بوك مادة للحكم على الناس. ومرة أخرى لا يعني هذا ترك الحرية على الغارب لا رقيب ولا حسيب، ولكن آن الأوان لتوسيع مساحتها وتعديل القوانين بما يتيح اوسع المجال وأيضاً تطبيق القانون على الجميع بطريقة تحمي حقوق المواطنين وتصون الحريات العامة، ولنتعظ جميعاً مما يجري في المحيط الأوسع وتحديداً في مجال حرية التعبير والرقابة الشعبية.