رسالة تبدو كأنها خارج الظرف والزمان، تشي بتقليد من زمن قديم، حين كان يخاطبُ ملوكٌ أرستوقراطيون ذوو رفعة وشرف عظيم، أنداداً آخرين لهم، لم يكن عالمُهم بلغ شأواً عظيماً من التمدن، لكن الرسائل التي تبادلوها فيما بينهم، تظهر ملوكاً وحكاماً من الكياسة والأدب، تحلوا بالشهامة والنبالة. ألهذا السبب التحلي بالشرف حتى في ظل الخصومة والعداوة، فضل أرسطو الأرستقراطية، من بين أنظمة الحكم الأخرى؟ وحيث ديمقراطية الانتخابات الجمهورية، في زمننا إنما تشترى بالمال وتدار بالدسائس، المكر والانتهازية، كما التلاعب بالعقول. لوح جورج بوش في حملته الانتخابية بالمحفظة. وهكذا فإن رجال مثل بيرلسكوني وبوش وساركوزي وحتى بنيامين نتنياهو لا يشبهون تلك الكوكبة من عواهل وملوك العهد القديم. أنا أيها الملك، ملك إسرائيل آخر ممثلي الشعب الفلسطيني، أعرق الشعوب على هذه الأرض، التي يوجد عليها ما يستحق الحياة، ورد ذكر شعبي "الفلسطينيون" في كتابكم المقدس العهد القديم. دون أن تذكروا إلا بوصفكم قبيلة، عشيرة من المهاجرين إلى هذه الأرض، كما انتم اليوم مجرد مهاجرين، مستوطنين حاولتم عبثاً منذ ستين عاماً ان تجدوا حجراً يدل على انتسابكم إلى هذه الأرض. أنا آخر ملوك الفلسطينيين، تنازلنا وسلفي الذي قتلتموه بالسم، عن 78 % من فلسطين، وقبلنا ان يكون لنا مكان تحت الشمس على الخمس، كتابك أيها الملك "مكان تحت الشمس" وحيث يستحق الجميع ان يكون له مكان تحت نور هذه الشمس، لأن الله يحب ان يوزع المطر والضوء على الجميع. ووقعنا اتفاقات واتفاقات واتفاقات ولكنكم نكثتم بها، وها أنا أجد ان سلطتي القائمة كأنما على بساط من الريح معلقة في مكان ما بين الأرض والسماء، في مساحة رقيقة بين الظل والواقع. لم اعد أرى مبرراً لبقائها على هذا الحال. وأنا بكل احترام، وفيت بكل عهودي، وبكل احترام أطلب منك ثلاثة أشياء: أن تعترف بدولتي على الخمس المتبقي، وأن توقف استيطانك وان تفك اسر جنودي، الذين مضى على أسرهم سنون طويلة ولم يعد باستطاعتي احتمال ألم أمهاتهم وزوجاتهم. كانت إقامة الحجة غالباً ما تتفق مع مزاج ملوك، عواهل، حكماء آثروا المحالفات والمصاهرة بين عوائلهم، وسعة البال، السلام والتعايش وحسن الجيرة، على العداوات او تجريد جيوشهم للقتال في ميادين الحرب. لقد سمحوا لسفراء الملوك الآخرين، ان يتلو رسائلهم أمام حاشيتهم في بلاطهم وحتى أمام رعاياهم في الساحات العامة، لأجل كسب اقتناعهم، وتركوا لمواطنيهم حق الانتساب، كرعايا لملوك آخرين، او الاحتفاظ بهذه المواطنة المختلطة. وكانوا يحتفظون بإقامة الأسوار حول المدن الرئيسية، بهدف الدفاع، كتعبير عن عزوفهم التطلع لاغتصاب أراضي ممالك أخرى. لكن ما أنهكتهم، صراعاتهم الداخلية مع نبلائهم والباباوات وبدت الثورة البرجوازية، قادرة على الإطاحة بهم، فان هؤلاء التجار المحاربين، الذين أقاموا مملكتك أسسوا أولاً الحدود القومية، وتطلعوا بعد ذلك الى أسواق الأمم الأخرى وغزو بلدانها، وما كان لهم ان يعبأوا بتقليد أسلافهم الذين طالما شغفوا بتبادل الرسائل، بموازاة الحفلات الموسيقية الراقصة في بلاطاتهم. وحتى حين كانت تقترن رسائلهم بهذا التلويح الرقيق والمبطن بل والمهذب بالتهديد "والا" أي الذهاب الى المبارزة ودغدغة الرقبة، فانهم اولوا استنفاذ جهدهم في محاولة تحاشي هذا الخيار المر. هذه رسالة مصاغة على قدر كبير من اللطف، الكياسة والأدب، "والا " الاستثنائية الوحيدة التي تلوح بها هي حل السلطة الفلسطينية نفسها. لكن هذا صراع لا يحل على مستوى إقامة الحجة او الأخلاق الحميدة، او جزالة وبلاغة الخطاب، وإنما بلاغة الإيحاء، "دغدغة الرقبة" . دغدغات الرقبة المتواصلة فيما مضى التي انتجت هذه الاتفاقات وتم التراجع عنها، بل السلطة نفسها التي كانت جاذبة للوعد، وتنظر اعينها الى الأمام، وحين كنا قادرين على مواصلة إحداث بل إنتاج، هذا الكباش الدبلوماسي العالمي، وجعل القضية الفلسطينية على درجة المئة، حد الغليان. لكن هيا نمضي على هذه الدرجة من اللطف، كحوار أكاديمي، بقصد التوصل الى تغيير القناعات والسلوك. هذا لطيف جدا، يمتدح ممثلو الغرب المنخرطون في كباش، اشتباك دغدغة رقاب حامية الوطيس على كل كلمة، عبارة، حرف، فاصلة او نقطة فيما يخص إرسال مراقبين الى سورية، وحتى الخيار الدبلوماسي لتسوية الأزمة مع إيران هو الخيار اللطيف الوحيد. لا نريد ان ننشغل بمعارك جانبية تشوش علينا في المنازلة، ام المعارك حول سورية واختراق روسيا. وإذن هل نفهم نحن الظرف الإيقاع ونريد بدورنا تمرير تقطيع الوقت؟ وهكذا نلتقي بدورنا عند نقطة توازن قوامها هيا نتلاءم مجددا بأسلوب مغاير مع الوقت. هيا نحدث تغييرا شكليا في إيقاع اللعب، اذا كان الظرف لا يسمح بعد بإحداث تحول، انقلاب راديكالي في قواعد اللعبة. في اغلب الظن انه يمكن تفسير هدف الرسالة على هذا النحو لكن كل الظن ليس كذلك، ذلك ان هذه الرسالة وجريا او وعطفا على أسلوب الرجل وتفكيره اي الرئيس أبو مازن، فان العنوان الذي توجه اليه الرسالة ليس على اية حال نتنياهو، وانما الأطراف الدولية والعربية على حد سواء. هذا الرجل على ما يبدو يريد ان يقول جملة واحدة : "اللهم اشهد أني بلغت " هذا هوالمضمون السري ولكن الحقيقي، لرسالة اراد ان يضفي عليها طابعا تاريخيا بل ومأساويا. فقد حاولت ولكني فشلت واني بريء من دم هذا القتيل. هل هو الإنذار الأخير بقرب دنو الساعة، ساعة الحقيقة ؟ ويراد لهذه الرسالة ان تكون بمثابة الشاهد على القبر، دفن جثة عملية السلام، وبهذا المعنى فإنها الرسالة الأكثر بوحا، حتى الصراخ بكلمة "والا" . والا ليتحمل العالم المسؤولية، خراب البصرة من بعدي. هذا حقا، خطاب ما قبل الخروج، كرجل أدرك انه استنفذ كل جهده، واقنع نفسه، بانه لم يعد لديه ما يضيفه او يقوله، ويستعد لفتح الباب والخروج. ولذلك فان الرسالة تطرح السؤال ليس عن الجواب، الحيلة المبتكرة الجديدة والقادمة، التي سيلجأ اليها نتنياهو، لمواصلة هذه اللعبة، التي استنفذت كل حيلها منذ وقت طويل، ولكن حول مصير اللعبة، ما بعد ابو مازن، بين الفلسطينيين والاسرائيليين، اذا كانت الرسالة تؤكد موت ونهاية الخيار التفاوضي. فهل نحن ذاهبون الى دغدغة الرقبة مرة اخرى؟ هل الحرب اذا في أعقاب حقبة من السلام المفقود، الضائع او المنكود؟ حرب ربما يصار الى إيقاد نارها في مرحلة ما بعد الحسم في "بابا عمرو" ومضيق هرمز، وانكفاء تراجع التمدد الأميركي وخيار الحرب ضد إيران وسورية، وحيث الأزمة الصامتة اليوم ولكن القوية هي بين الإدارة الأميركية وإسرائيل، في الظرف الذي لم يعد بمقدور الامبراطورية تحمل مشاغبة التابع الصغير. وما يرافق هذا التحول نهاية حقبة مديدة من استقرار التوازن الإقليمي والعالمي، بانهيار النظام الأمني الإقليمي القديم، وبروز نظام جديد يمتد اليوم من طرطوس على البحر المتوسط حتى مضيق هرمز. على هذه الرقعة المتقلبة من توتر التوازن العالمي، والذي يشبه رمال متحركة جديدة، يضع الرئيس الفلسطيني على هذه الرسالة توقيعه، كبطاقة صفراء عند مفترق اكيد ترتسم عند حدوده توازنات القوى الجديدة، بين المشرق الذي بات يحكم معادلاته روسيا والصين وايران، وبين مغرب لا زالت تحكم معادلاته امريكا والغرب . وحيث يقف الفلسطينيون على اختلاف اطيافهم في الوسط بين هاتين المنزلتين، عند تلك المسافة الرمادية، التي تفصل بين الخنادق، المتاريس المتقابلة، في هذا الاستقطاب، الاصطفاف، دون عبقرية عرفات في وضع القدم هنا وهناك. فمن يقوى على جذب الفلسطينيين شدهم الى معسكره ؟ اذا كان هذا الاصطفاف الجديد، سوف لن يتأخر في مواجهة بؤرة الصراع الطافية حتى الآن، اي القضية الفلسطينية باعتبارها ميدان الحسم الأخير. فهل الحرب التعويضية البديلة اليوم، بعد بابا عمرو، ومضيق هرمز، انهيار مشروع إسقاط الدولة السورية، وعودة الدب الروسي بقوة هي على الخواصر، الحواف الهوامش، في لبنان وفي فلسطين ؟ وإذا كان من سيدفع فاتورة هذا الفشل هو إسرائيل؟ وتكون بذلك هذه الرسالة عند الساعة الحادية عشرة التي تسبق إغلاق النوافذ.