مصر لا تنام منذ الثورة هذه الأيام فرحاً وألماً وأملاً وخوفاً وشوقاً إلى حياة أفضل ليس فيها أحد يأكل من الزبالة. أكتب هذا المقال يوم الخميس 19/4/2012 ليجد طريقه للنشر إن شاء الله تعالى في ’القدس العربي’ اللندنية يوم السبت21/4/2012، وبينهما يوم الجمعة التي يمكن أن نطلق عليها جمعة إحياء الثورة وإنعاشها بالخروج من حالة الانعاش إلى حالة الانتعاش، ومن غرفة العناية المركزة التي بقيت فيها عدة أشهر، بسبب الدواء المركز التي تعاطته مبكراً متمثلاً في المسار الديموقراطي فقط، ونسيت بموجبه ضرورة تعاطي الدواء الأهم وهو المسار الثوري.إن المسار الثوري والفعل الثوري هو الذي أوجد المسار الديموقراطي، والذي كان سبباً في الحريات التي يتمتع بها الشعب المصري بكل قطاعاته اليوم، ولكنه للأسف الشديد مر بفترة ركود لسوء التقدير و الانخداع بغيره. قررت القوى الثورية المشاركة في جمعة إحياء الثورة أو تصحيح المسار ولم تشارك في مليونية جمعة الاسلاميين السابقة بتاريخ 13/4/2012 غضباً من الاسلاميين نتيجة التردد والارتباك وضعف الالتزام بدعم الثورة حتى تتحقق مطالبها، ولكن السلفيين الاسلاميين قرروا المشاركة في جمعة الاحياء والتصحيح، بعد أن تأكد إستبعاد الشيخ حازم أبو إسماعيل من سباق الرئاسة بسبب جنسية الوالدة رحمها الله تعالى، أما الإخوان فقد قرروا المشاركة في جمعة الاحياء والتصحيح بسبب استبعاد المهندس خيرت الشاطر من سباق الرئاسة، لأن قرار العفو لم يكن شاملاً وظلت هناك واحدة من التهم أو القضايا. الجميل أن يقول المهندس الشاطر: ’إن رفض المجلس العسكري إقالة حكومة الجنزوري وتدخله في الانتخابات يوضحان أنه لا يريد تسليم السلطة’، ولم يوضح لنا الشاطر أي انتخابات يشيرإليها. هل هى انتخابات الرئاسة أم انتخابات مجلسي الشعب والشورى؟ على أية حال قرر الإخوان النزول إلى ميدان التحرير يوم الجمعة 20/4/2012 لأن الثورة كما يقول الشاطر لم تكتمل بعد وهى الآن في خطر. ويرى بعض المراقبين أن الإخوان قد قاموا من نومهم بعد العرس الديموقراطي الذي آتى بهم إلى البرلمان والشورى، وأنهم ينزلون إلى الميدان بسبب إستبعاد الشاطر من سباق الرئاسة ضغطاً منهم على أصحاب القرار وليس دعماً للثورة.ونحمد الله تعالى أياً كانت الأسباب التي أدت بهم إلى النزول إلى الميدان والالتحام بالشعب، فقد كانت القوى الثورية بعد تنحي رئيس النظام البائد تبحث عن قيادة لم يلتقطها الإخوان وإلتقطـــــها المجلس العسكري. الحمد لله تعالى أن تلتحم الصفوف، ولا يلهــــينا المسار الديموقراطي وحده عن المسار الثوري الذي لم يكتمل، ولعل هذه الجمــــعة تصحــــح المسار، وتخرج كل القوى السياسية إلى تبني أجندة وطنية بعيداً عن الاستقطاب والأجندات الخاصة حتى لو كانت وطنية.الإخوان المسلمون قوة لا يستهان بها فكراً وتنظيماً وسلوكاً وانضباطاً، ولكن الأخطاء القاتلة التي تقع فيها قيادتهم الحالية، والتخبط والإرتباك في إتخاذ القرارت، كل ذلك يؤكد حاجة الإخوان وهذا الكيان الضخم إلى عقل أكبر وقيادة أرشد تقود ولا تقاد، وتدرك قبل غيرهم أو معهم الأخطاء والتحديات، وتتخذ الخطوات اللازمة لمواجهة تلك التحديات بحشد القوى ووضع الخطط اللازمة والموائمة لتلك التحديات.وحق لنا أن نتساءل: هل إدراك الإخوان اليوم إلى الحقيقة التي تقول أن الثورة لم تكتمل وأن الثورة اليوم في خطر، إدراك حقيقي أم مرحلي ومصلحي؟ ألا يمكن أن يواري هذا الادراك فنجان قهوة صباحاً مع العسكري أو المخابرات أو أي قوى غيرهم؟ هل جاء الادراك بمجرد استبعاد الشاطر من الرئاسة رغم بقاء الدكتور مرسي في السباق، أم أن هذا الادراك سيدفع الإخوان إلى المشاركة في إحياء الثورة والسعي لتصحيح الأوضاع بعيداً عن المصالح الضيقة حتى لو كانت وطنية، وبعيداً عن الفرح بالأغلبية في البرلمان والشورى، وبعيداً عن عقبة عضوية الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور حيث فاجأتهم المحكمة بقرارها وتجميد الهيئة، بعد أن أصروا على عضوية 50’ من البرلمان و50’ من خارجه، معظمهم أيضاً من التيار الاسلامي؟نحن بحاجة كما قلنا مراراً وتكراراً إلى إحياء الثورة، وهذا لا يأتي إلا بإخلاص وحشد الشعب كله في هذا المسار، ولقد أصبحت المليونيات ضرورة. وليت قيادة الإخوان أدركت مغزى ما قلناه من قبل: لو أن الامام حسن البنا حياً لما وسعه إلا أن يأخذ بطانيته ويبقى في قلب الميدان قائداً وزعيماً وموجهاً ومرشداً ومصححاً حتى تنجح الثورة بالكامل وتتحقق كل أهدافها، بل وتفرض كل مطالبها، لا أن تستجديها ممن يستجيب أحياناً تحت الضغوط، ويرفض أحياناً أخرى عندما تخف الضغوط مما يؤكد عشوائية بعض القرارات.مصر تمر في منعطف خطير، والعالم العربي كله يقف في هذا المنعطف وفي القلب من ثورة التصحيح الإخوان المسلمون والتيار الاسلامي جميعاً، بإنضمام السلفيين إلى المسار الديموقراطي وما يسمى حالياً في الغرب بوابة الاسلام السياسي أو السلفية السياسية. هل تعود مصداقية التيار الاسلامي إلى الشارع المصري كما كانت أيام الثورة وأيام الانتخابات؟ هذا جزء من المنعطف الخطير الذي تمر به مصر حالياً فضلا عن المنعطفات الأخرى من قبيل العلاقة مع العسكري، وإنتخابات الرئاسة، والضغوط الخارجية وزحف الثورة المضادة إلى الأمام.أحاول هنا أن أصور بعض أهم الأوضاع في مصر تصويراً حقيقياً ودقيقاً حتى نجد الدعم والمساندة ممن هم أهل لذلك داخل وخارج مصر من أبنائها الأبرار. القوى السياسية كلها مهما كانت أحجامها في الشارع لا قوة لها في صناعة القرار حالياً، لأن الثورة خلعت عن عاتقها هذه المهمة يوم 11 فبراير2011 فور التنحي، ووضعت هذه المسئولية بالكامل في عنق المجلس العسكري بالشعار الجميل: الشعب والجيش إيد واحدة. ثم دار الصراع خارج دائرة صناعة القرار، وإنحصر في المسار الديموقراطي وآليات التنفيذ مثل حكومة عصام شرف ثم الجنزوري، ولكن في نفس الملعب القديم والتقاليد القديمة والقوانين القديمة قبل الثورة، ما عدا المواد المعدلة في الدستور والاعلان الدستوري الجديد، الذي لا سند له من الدستور الأصلي. هذا الاعلان الدستوري الجديد والذي يضم مواد فضفاضة مثل المادة 60، ويضم مواد معيبة مثل المادة 28 التي تخرج لسانها للشعب كله، بعدم جواز الطعن على قرارت اللجنة العليا للإنتخابات. أظن أن الذين وضعوا الاعلان الدستوري بشكله الحالي كانوا يعتقدون أن الثورة مستمرة، وأن الذين سيطبقون هذا الاعلان الدستوري من النزاهة والاستقلالية والاستقامة بحيث لن يسيئوا أبداً استخدام هذه المواد المعيبة، بل ربما ظنوا أن التطهير قادم ولن يبقى الفاسدون السابقون في أماكنهم ومنها ساحات المحاكم والقضاء.إنخدع اللاعبون السياسيون- إلا قليلاً- بالمسار الديموقراطي، وظنوا أنه سيأخذهم إلى قمة السلطة وصناعة القرار، بمجرد تحقيق الأغلبية في مجلسي الشعب والشورى، ولكنهم إكتشفوا أن هذه الأغلبية الساحقة بل والسيطرة الكاملة، لا تتيح لهم حتى سحب الثقة من حكومة الجنزوري الفاسدة المتهالكة، وأدركوا أن الميدان وليس البرلمان هو الذي سحب الثقة من حكومة عصام شرف، وكانت أقل سوءاً وسلبية من حكومة الحنزوري. إنخدع اللاعبون السياسيون بالمسار الديموقراطي، وشاهدوا بأعينهم وهم يمثلون الشعب المصري الصابر الكريم، كيف تم تهريب الأمريكان من مصر؟ وكيف بقى من شاركوا في تهريبهم في السلطة بما في ذلك ميدان القضاء، الذي يحتاج إلى تطهير شامل، شأنه ِشأن بقية الميادين والقطاعات. وهذا مالم يحققه المسار الديموقراطي، ولن يحققه وحده بعيداً عن المسار الثوري النظيف وخصوصاً بعد تراجع الثورة، وانصراف الثوار عن الميدان بدعاوى خادعة وحيل شديدة التعقيد مروراً بنقاط اختناق مفصلية منها بطئ المحاكم وأحداث ماسبيرو ومحمد محمود وأحداث مجلس الشعب والقصر العيني والمتحف العلمي وكشف العذرية وتهريب الأمريكان، وأخطر من كل ذلك تقدم الفلول ورموز النظام السابق البائد خطوات إلى الأمام حتى نافسوا في سباق الرئاسة، أملاً في أن يعود النظام البائد بالكامل حين غفلة من الثورة، طالما أنها في الانعاش مستمتعة بالعناية المركزة. الأحداث في مصر تتغير بسرعة كبيرة، لأن الثقة بين قطاعات كثيرة ومنها العسكري غــــير قائمة كما ينبغي،كما أن الصراع المستتر حالياً بين الثورة والثورة المضادة، قد يظهر إلى السطح بصور متعددة، إذا ظلت الثـــــورة في الانعاش والعناية المركزة وإذا بقيت القوى السياسية- كــــبرت أم صغرت- بعيداً عن المسار الثوري، وعن إدراك الحقيقة الواضحة التي يفهمها بعض البسطاء الذين يقولون من أمد بعيد: الميدان هو الحل.أتمنى أن يستعير بعض قادة القوى السياسية وبعض البرلمانيين، عقول هؤلاء البسطاء من الثوار الذين أدركوا بالفطرة خطورة الانصراف عن الثورة، وأدركوا أن الميدان هو الحل. إذا ماتت الثورة فالمسئولية ثقيلة والسجون والمعتقلات مفتوحة، وأمريكا لا مانع لديها اليوم من التعامل مع الاسلاميين، وقد تدمغهم مرة أخرى بالإرهاب وخصوصاً إذا فكروا في تحرير فلسطين أو وحدة السودان أو القومية العربية أو وحدة الأمة فضلاً عن الأمل في أستاذية العالم الذي يراود الإخوان منذ أمد بعيد.’ مستشار مركز دراسة الحضارات في لندن